الأربعاء، 20 يوليو 2022

قرارات أمريكية داخلية تؤثر علينا

كيف يمكن لقرار تتخذه الولايات المتحدة على مستوى البيت الأبيض، أو الكونجرس، أو المحكمة الاتحادية العليا، أي يؤثر علي كشخص بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، أو يؤثر علينا كدول على المستوى القومي، أو الإقليمي، أو الدولي؟

 

فهناك الكثير من الأمثلة والوقائع التي يمكن تقديمها لإثبات أن قرارات أمريكا الداخلية، أو بعض قرارات الدول العظمى المتقدمة تنعكس على كل دول العالم بدون استثناء، ولها تداعيات إيجابية أو سلبية على كل سكان هذا الكوكب اعتماداً على نوعية القرار أو السياسة التي تنتهجها، وبخاصة في مجال القضايا البيئية العابرة للحدود الجغرافية للدول والمؤثرة على كل شبرٍ من كوكبنا، سواء المتعلقة بالمسطحات المائية المشتركة بين عدة دول، أو الهواء والغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية والذي نشترك فيه جميعاً.

 

فقضية التغير المناخي وإصابة الأرض بالسخونة والحمى المزمنة كانت بسبب تلوث الهواء الجوي من العديد من الملوثات مثل غاز ثاني أكسيد الكربون، وغاز الميثان، وأكسيد النيتروز، ومن أخطرها وأكثرها انبعاثاً وشيوعاً منذ أكثر من مائة عام هو ثاني أكسيد الكربون الذي له مصادر لا تُعد ولا تحصى، وينطلق من احتراق أي نوعٍ من أنواع الوقود الأحفوري في السيارات، والطائرات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع.

 

وتأثير هذا الغاز مجموعي وتراكمي، ويظهر مع الوقت، لأنه غاز مستقر وثابت فترة طويلة من الزمن بعد انتقاله إلى الهواء الجوي، حيث يرتفع تدريجياً إلى طبقات الجو العليا ويشكل غطاءً ومظلة لا تسمح بالموجات الحرارية المنعكسة من الأرض من الانتقال إلى طبقات الجو العليا، فيحبسها في الطبقات السفلى، ويؤدي مع الوقت إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض، وحدوث التغير المناخي على مستوى كوكب الأرض، كما هو الواقع الآن، إذ ارتفعت حرارة الأرض نحو درجة ونصف الدرجة المئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية. ولذلك الدول الصناعية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية التي تحرق الوقود منذ قرابة قرنين من الزمان، وتتحمل المسؤولية الكبرى لوقوع التغير المناخي، فإن أية سياسة تتبناها، وأي قرار تتخذه له مردوداته على كل إنسان يعيش على سطح الأرض، وعلى سلامة كوكبنا وأمنه الصحي. فإذا كان القرار إيجابياً ويصب في مصلحة خفض انبعاث الغازات المتهمة برفع حرارة الأرض، فإن هذا القرار يستفيد منه الجميع، وينعكس إيجاباً على صحة الأرض وصحة البشر والشجر والحجر، وفي الوقت نفسه إذا كان القرار لا يؤدي إلى خفض الانبعاث فإن الجميع سيكون في خطر وتهديد دائم من تأثيرات هذا التغير المناخي وتداعياته الكثيرة، البيئية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأمنية، والصحية.

 

فالقرار الذي اتخذته المحكمة الاتحادية العليا في الولايات المتحدة الأمريكية في الثلاثين من يونيو 2022 في قضية ولاية وست فيرجينيا ضد وكالة حماية البيئة لا يصب في المصلحة العليا للبيئة وبالتالي يضر كل كائن حي يعيش على سطح الأرض، أينما كان في المدن أو في القرى. فهذا القرار يقيد من صلاحيات وكالة حماية البيئة الأمريكية في تنظيم الانبعاثات، وبالتحديد بالنسبة لثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء التي تعتبر ثاني أكبر مصدر لهذا الغاز المسؤول عن التغير المناخي للأرض، كما أن هذا القرار يحد من قدرة وسلطات وكالة حماية البيئة على وضع المواصفات الخاصة بخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون من مصانع إنتاج الطاقة على مستوى أمريكا.

 

فهذا القرار إذن لا يشجع المحطات التي تولد الكهرباء بالفحم الذي يُعد أكبر وأشد مصدرٍ للتلوث بالنسبة لثاني أكسيد الكربون وغيره من الملوثات من الانتقال سريعاً إلى مصادر الطاقة البديلة المتجددة والنظيفة كالطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، والطاقة النووية، كما أن هذا القرار لا يحفز هذه المحطات إلى خفض انبعاثاتها من غازات الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون، مما يعني أن انبعاثات أكبر دولة في العالم ستستمر كما هي عليها الآن، وستتواصل في تدمير هوائنا، وإفساد بيئتنا، ورفع درجة حرارة كوكبنا في كل بقعة صغيرة أو كبيرة يعيش عليها الإنسان، سواء في البحرين ودول الخليج، أو في أدغال الأمازون، أو في الغابات الاستوائية في دول آسيا، أو في الدول الأفريقية. وفي الوقت نفسه فإن هذا القرار سيُعيد الإدمان على استخدام الفحم من جديد وسيطيل في عمره التشغيلي، كما سيرفع من نسبة الاستثمار في هذا النوع من الوقود الشديد التلوث للبيئة، فيُرجع العالم إلى الوراء عشرات السنين بعد أن اتخذ قرارات دولية مشتركة مهمة، منها قرار اجتماع جلاسجو للتغير المناخي في نوفمبر 2021 الذي وافق فيه المجتمعون على التخلص التدريجي مع الوقت للفحم، وأنواع الوقود الأحفوري الأخرى.

 

كذلك فإن هذا القرار يُعقِّد ويبطئ من وفاء الولايات المتحدة بتعهداتها والتزاماتها أمام المجتمع الدولي في خفض انبعاثاتها إلى النصف، وبلوغ الانبعاث الصفري بحلول عام 2035، حسب وعود بايدن وخطته حول التغير المناخي. ومن جانب آخر فإن هذا القرار سيؤثر على مصداقية الولايات المتحدة في تنفيذ التزاماتها الخاصة بالتغير المناخي، وسيزعزع من ثقة دول العالم بأمريكا، وخاصة أنها دولة نكثت عدة مرات بوعودها في خفض الانبعاث، بل وإنها اتخذت إجراءات خطيرة جداً وهي أنها انسحبت من معاهدات دولية حول التغير المناخي بعد أن وقعت عليها، منها بروتوكول كيوتو لعام 1997 في عهد الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، إضافة إلى معاهدة باريس لعام 2015 والتي انسحب منها ترمب بشكلٍ رسمي.

 

فالولايات المتحدة الأمريكية تعتبر تاريخياً هي المسؤول الأول عن وقوع ظاهرة التغير المناخي، فهي بذلك أخلاقياً مسؤولة عن خفض انبعاثاتها إلى مستويات منخفضة وفاعلة. وهناك العديد من الدراسات التي صدرت في أمريكا نفسها، ومنها الدراسة التاريخية الشاملة التي نشرتها منظمة(Carbon Brief) في الخامس من أكتوبر 2021 تحت عنوان: "المسؤولية التاريخية للتغير المناخي يقع في قلب الحوار حول العدالة المناخية". وهذه الدراسة تُوجه أصابع الاتهام نحو الدول المسؤولة في إحداث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي منذ قيام الثورة الصناعية الأولى، أي منذ عام 1850 حتى يومنا هذا، وبالتحديد عام 2021، حيث قدَّمت تحليلاً تاريخياً لمصادر وحجم انبعاثات كل دولة من دول العالم، مثل حرق الوقود الأحفوري في محطات توليد الكهرباء، والسيارات، والمصانع، وعلى رأسها مصانع إنتاج الأسمنت، ثم التغير في استخدامات الأرض من حيث قطع الأخشاب، وإزالة الغابات لزراعة المحاصيل وإنتاج الوقود الحيوي. وكانت نتيجة هذا التقييم أن دول العالم أجمع أطلقت زهاء 2504 جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي منذ 1850، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المتهمة الأولى في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، حيث بلغ حجم الغاز المنطلق على مدى أكثر من مائتي عام قرابة 509 جيجا طن، أي أن أمريكا تتحمل نسبة 20.3% من مجموع الانبعاثات الكلية على مستوى الكرة الأرضية، وهي بهذه النسبة رفعت وحدها درجة حرارة الأرض 0.2 درجة مئوية ووضعت كوكبنا والناس أجمعين والكائنات الحية الأخرى في وضع حرجٍ جداً.

 

فقرار المحكمة الاتحادية العليا سيزيد الطين بله من المواقف الأمريكية غير المستقرة، ومن السياسات غير الثابتة، كما سيعرقل جهود الحكومة الأمريكية الحالية في القيام بدورها وواجباتها تجاه سكان العالم من خلال تحمل مسؤولية خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون المسبب لحمى الأرض، فالذي يدفع الثمن من عدم التزام أمريكا هو الإنسان أولاً وسائر الأحياء الأخرى، ثم الكرة الأرضية برمتها.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق