الاثنين، 25 يوليو 2022

الشعب الأمريكي فئران التجارب

في 11 يونيو 2022، قدَّم كريستوفر كولر(Christopher Koller)، رئيس مؤسسة مالية عريقة موجودة في مدينة نيويورك الأمريكية منذ عام 1905 تحت اسم (Milbank Memorial Fund)، اعتذاراً خالصاً عبَّر فيه عن أسفه الشديد لممارسة شنيعة قامت بها هذه المؤسسة في الفترة من 1932 إلى 1972. وهذا الاعتذار أُعلن في حفلٍ خاص أُقيم في مدينة تسكيجي(Tuskegee) في مقاطعة ماكون(Macon County) بولاية ألباما الجنوبية المشهورة تاريخياً بعنصريتها وتمييزها البغيض ضد السود، حيث قال رئيس هذه المؤسسة المعروفة: "لقد كان خطأً. نحن جميعاً نخجل من دَوْرِنَا. نحن نتأسف بشدة".

 

وفي المقابل هناك اعتذار آخر حول هذه الممارسة اللاإنسانية، ولكن هذه المرة كان من أعلى سلطة سياسية تنفيذية في الحكومة الأمريكية، وبالتحديد من الرئيس الأسبق بيل كلينتون في 16 مايو عام 1997، حيث اعتذر نيابة عن الحكومة الأمريكية الاتحادية لهذا الفعل الشنيع قائلاً: "ما تم فِعله لا يمكن تغييره، ولكننا سنُنهي الصمت....ما فعلته حكومة الولايات المتحدة كان مُخجلاً، وأنا أُعبر عن أسفي".

 

فماذا حدث في تلك الحقبة الزمنية التي استمرت أربعين عاماً لكي يستحق هذه الاعتذارات المتكررة والشعور بالأسف والندم من عدة جهات سياسية ومالية كبيرة، وحتى يومنا هذا؟

 

وفي الحقيقة فإن هذا العمل اللاأخلاقي كاد أن يستمر أكثر من أربعة عقود لولا أن أحد الشرفاء من الشعب الأمريكي أطلق صفارة الإنذار، وكشف عن هذه الفضيحة النكراء من خلال تسريب المعلومات لوسائل الإعلام الأمريكية، حيث قامت أسوشيتد برس(Associated Press) بنشر مقالٍ في صحيفة النيويورك تايمس في 25 يوليو 1972 تحت عنوان: "ضحايا السفلس في دراسة الولايات المتحدة لم يُعَالجُوا لمدة 40 عاماً". فهذا المقال شكل المنعطف الرئيس في توقف الأعمال البحثية التجريبية السرية التي كانت تقوم بها حكومة الولايات المتحدة، ممثلة في "خدمات الصحة العامة" (US Public Health Service) وبدعمٍ من هذه المؤسسة المالية العائلية العريقة، كما أدى هذا المقال الصحفي إلى إغلاق ملف التجربة العملية الميدانية وتوقفها كلياً، ولكن في الوقت نفسه فَتَحَ ملفات كثيرة لن تُغلق أبداً، منها ملف أخلاقيات التجارب العلمية، وملف العنصرية وعدم المساواة بين الشعب الأمريكي، وملف ظلم السود واستصغارهم واعتبارهم مختلفين عن البيض في أعضاء أجسادهم، وملف فساد بعض قادة الحكومة الأمريكية وتغليبهم البحث العلمي على إنسانية البشر واستغلالهم كفئران التجارب في المختبرات الطبية، ومنها أيضاً التداعيات النفسية لهذه التجارب على أسر الضحايا والشعوب بشكلٍ عام في أمريكا وخارجها والمستمرة حتى كتابة هذه السطور.

 

ففي مطلع عام 1900 انتشر مرض السفلس الجنسي(الزهري) بين الشعب الأمريكي، وكان الأطباء يريدون التعرف عن كثب على عدة جوانب متعلقة بالمرض، منها أعراض هذا المرض منذ الإصابة به حتى آخر نفسٍ من حياة المريض، وما هي التغييرات العضوية الظاهرية وغير الظاهرية التي تحدث عليه في جميع مراحل المرض، ولذلك كان لا بد من تشريح المريض بعد موته حتى يتعرفوا على نوعية وحجم الضرر الذي يصيب أعضاء الجسم في الداخل، كما أن البعض من الأطباء من الجنس الأبيض كان يؤمن بأن السود مختلفين عن البيض من حيث الأعضاء الجسدية والعقلية، مما يعني بأن تجاوبهم وردة فعل أعضاء أجسامهم مع المرض من الممكن أن تكون مختلفة. ومن أجل تحقيق كل هذه الأهداف غير المعلنة، والإجابة عن هذه الأسئلة، استغلوا السود من الفقراء والمستضعفين والأميين لتضليلهم واستخدامهم كفئران التجارب، حيث قاموا بإقناع نحو 620 من هؤلاء المعدومين المصابين وغير المصابين بالمرض، وأغروهم بعدة أمور بسيطة، ولكنها كانت تُعتبر بالنسبة لهؤلاء الشديدي الفقر والحاجة، مشجعه ومغرية جداً، منها المواصلات والوجبات والرعاية الصحية المجانية، ثم الدفن المجاني، على أن يوافقوا على تشريح جثثهم بعد الموت، ولكن دون علمهم بالمآرب الحقيقية لهذه التجربة، ودون علمهم بإصابتهم بالسفلس، كما أنهم كذبوا عليهم بأن هذا البرنامج الصحي الذي سيسجلون فيه سيستغرق فقط ستة أشهر، في حين أنه استمر أربعة عقود.

 

وعلاوة على ذلك كله، فقد ارتكبت الحكومة الأمريكية والأطباء المشرفين والممولين للتجربة جريمة أخلاقية لا تغتفر، حيث تركوا مرضى السفلس متعمدين وهم يعانون أمام أعينهم وتحت مسامعهم من شدة آلام المرض دون علاج، ومَنعُوا عنهم الدواء الذي قد يشفيهم من المرض، مما يعني بأن المريض طوال سنوات حياته، وطوال مراحل مرضه رفضوا أن يعالجهم أحد، أو أن يُقدم لهم الدواء، حتى يتمكنوا من ملاحظة ومشاهدة وتدوين أعراض هذا المرض حتى آخر رمقٍ من حياته، وحتى يقضي نحبه، فقد كان المريض يموت أمامهم موتة بطيئة، ومؤلمة، وهو يتجرع كأس العذاب يوماً بعد يوم، علماً بأن المضاد الحيوي المعروف، البنسلين(penicillin) تم استخدامه في كل أنحاء العالم منذ عام 1943 لمعالجة هذا المرض، ولكن بالرغم من توافره إلا أن هؤلاء السفاحين من الأطباء استمروا في جريمتهم، ومنعوا المرضى من هذا المضاد الشافي، فقد كانوا دائماً يحتالون على المرضى، ويكذبون على أسرهم ويقولن لهم بأنهم يعانون من مشكلة الدم الفاسد( bad blood)، فارتكبت أيديهم طوال هذه السنوات الطويلة العجاف إبادة جماعية بطيئة لمجتمع السود من المهمشين وذوي الحاجة، ممن لا علم لهم، ولا نفوذ، ولا ثقافة، ولا جهة تحميهم وتدافع عن حقوقهم وعن الجريمة التي ارتكبت في حقهم.

 

وهذه الدراسة الطبية أُجريت رسمياً تحت عنوان: "دراسة تسكجي من ذكور النيجرو الذين لم يتلقوا العلاج من السفلس"( Tuskegee study of untreated syphilis in the Negro male)، ولكن الاسم الذي اشتهرت بها الدراسة هو "تجربة تسكجي"، أو "دراسة تسكجي للسفلس"، وكان مسرح هذه الجريمة "مستشفى أندرو"(John A. Andrew Memorial Hospital) الواقع في "معهد تسكجي"، أو "جامعة تسكجي حالياً"، حيث يقوم "صندوق ميل بانك" الآن الذي لعب دوراً في تمويل الجريمة، بتخليد ذكرى ضحايا هذه التجربة من البشر بعمل نصب تذكاري في جامعة تسكجي، إضافة إلى تخصيص مبلغ مالي لأسر الضحايا.

 

ومن هذه التجربة المؤلمة نؤكد بأن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا تستغل فقط بعض فئات الشعب الأمريكي المستضعفة في الأرض كفئران التجارب، وإنما الشعوب الأخرى على حدٍ سواء، كما حدث في جمهورية جواتيمالا(Guatemala) في أمريكا الجنوبية عندما قام أطباء أمريكا وفي سرية تامة في مطلع الأربعينيات من القرن المنصرم بحقن 1500 من الأطفال الأيتام، والسجناء، والجنود، والمرضى المتخلفين عقلياً، بحقنٍ ملوثةٍ بجراثيم تُصيب الإنسان بالأمراض التناسلية، وبالتحديد مرض الزهري، كما استخدموا في ذلك أبشع الوسائل والسبل لتحقيق أهدافهم، مثل استخدام العاهرات المصابات بالمرض، أو الحَقْنْ الجبري وبالقوة في النخاع الشوكي، أو رش الجراثيم على وجوه وأعضاء هؤلاء الأفراد بشكلٍ مباشر لإصابتهم بالمرض، ثم دراسة الأعراض المرضية التي تنكشف عليهم، وبعد ذلك حقنهم بالبنسلين الذي ظهر في تلك الفترة لمعرفة مدى فاعليته في علاج ومنع هذا المرض الجنسي. وبعد أن فُضح أمرهم، اضطرت الإدارة الأمريكية ممثلة في وزيرة الخارجية ووزيرة الصحة إلى إصدار اعتذار عن وقوع هذه الجريمة البشعة في أكتوبر 2010 ، كما اتصل أوباما نفسه برئيس جواتيمالا ألافرو كولم كاباليروس(Alvaro Colom Caballeros) ليعتذر عن العمل المشين الذي قامت به الأجهزة الصحية الأمريكية الاتحادية، وليُعبر عن أسفه الشديد لشعب جواتيمالا وكافة المتضررين من التجارب المفزعة والقاتلة التي أُجريت عليهم، ووصفها بأنها "جريمة ضد الإنسانية"(لمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي في أخبار الخليج في 17 يونيو 2011 تحت عنوان "إنها تجارب أمريكا الشيطانية"). 

 

فهذه التجارب والسلوكيات لا تمثل فقط فترة زمنية مظلمة من تاريخ أمريكا الأسود الذي عفا عليه الدهر، وإنما هذه سياسة أمريكية متجذرة في أعماقها وفي الكثير من مؤسساتها الحكومية وغير الحكومية، وهذه ممارسات بشعة لا تتخلى عنها، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق