الاثنين، 11 يوليو 2022

الدول الصناعية تستبيح الثروات المشتركة في أعماق المحيطات


منذ زهاء قرنين والدول الصناعية المتقدمة في الغرب والشرق تستبيح حرمات بيئتنا فلا ترقُب في صحتها وأمنها إلاَّ ولا ذمة، ومازالت أيديها تعبث في عناصر بيئتنا وثرواتها ومواردها العامة المشتركة كيفما تشاء دون حسيبٍ أو رقيب، أو محاسبة وعقاب على ما ترتكبها من جرائم بيئية لا تعد ولا تحصى على كافة المستويات، القومية والإقليمية والدولية.

وقد وقع هذا التعدي الصارخ على بيئتنا على ثلاثة مستويات، وعلى عدة أوجه. أما الوجه الأول والمستوى الأول فهو التلوث الناجم من كافة أنواع الأنشطة التنموية في الحدود الجغرافية الضيقة للدول نفسها، حيث سمحت الدول الصناعية بإطلاق عنان الملوثات في كل مكونات وعناصر بيئتنا، فكونت مظاهر بيئية لا تخفى على أحد، مثل الضباب الأسود، ثم الضباب الضوئي الكيميائي السام القاتل للبشر والشجر، كذلك تكونت ظواهر أخرى في المسطحات المائية مثل تحول لون هذه المسطحات إلى اللون الأخضر، أو الأحمر، أو البني. وفي المستوى الثاني جاءت القضايا البيئية الإقليمية وعلى رأسها المطر الحمضي، الذي كان ينزل على الناس مطراً ساماً يقضي على الآلاف من الكيلومترات المربعة من الغابات المثمرة والمنتجة. وأخيراً شاهدنا الملوثات وهي تسمم الأرض برمتها وتؤثر على صحة كوكبنا في كل مكان بدون استثناء، مثل قضية استنفاد غاز الأوزون في طبقة الأوزون التي تحمي كل من يعيش على سطح الأرض وتمنع الأشعة البنفسجية القاتلة من الوصول إلى سطح الأرض، ثم قضية العصر، وهي التغير المناخي وتداعياتها التي لا تنتهي، مثل سخونة الأرض، وارتفاع حموضة ومستوى سطح البحار، وانخفاض نسبة الأكسجين في المياه.

وأما الوجه الثاني لتعدي الدول الصناعية المتقدمة على بيئتنا واستباحتها لحرماتها دون أي اعتبار لمكونات البيئة الحية وغير الحية، بل دون اعتبار لصحة وسلامة البشر، فيتمثل في التجارب والانفجارات النووية التي قامت بها تحت الأرض، أو في الهواء الجوي والفضاء العلوى، أو في أعماق البحار، إما في دولها ودون موافقة شعوبها، أو في بحار وأراضي الدول الفقيرة والمستضعفة التي لا حول لها ولا قوة وفي أغلب الأحيان بدون علمها أو موافقتها، أو في المواقع البحرية التي لا تخضع لسيطرة أية دولة، أي في المياه الدولية العامة والمشتركة.

 

وأما الوجه الثالث فهو احتكار وامتلاك الفضاء من حيث السيطرة على هذا المورد العام المشترك لسكان الأرض، فالدول الصناعية المتطورة هي التي تتحكم بشكلٍ مباشر أو غير مباشر في كل ما يجري فيه من أبحاث علمية استكشافية، أو إطلاق للسفن والأقمار الصناعية، كما هي في الوقت نفسه تعدت على حرمات الفضاء فامتلأ بشتى أنواع وأحجام المخلفات الفضائية الصلبة التي تحوم في مدارات حول الأرض، ولا يعلم أحد مصيرها ومستقرها، والتهديدات التي تمثلها في أعالي السماء وعلى سطح الأرض.

 

وأما الوجه الرابع لتعدي الدول الصناعية على بيئتنا، واحتكار مواردها الطبيعية، واستغلال ثرواتها العامة المشتركة من أجل تشغيل مصانعها واستدامة تنميتها، فهو التنقيب والاستكشاف في أعماق قاع البحار والمحيطات عن المعادن دون مراقبة أو إذن من أحد، سواء أكانت في الحدود الجغرافية للدول، أو في المياه الدولية المشتركة لكافة دول العالم، مما يعني بأنه لا يحق لأية شركة، أو دولة التنقيب عن الثروات في هذه المناطق إلى بعد إذن وموافقة كل دول العالم، ثم تقسيم هذه الثروة الطبيعية على الجميع.

 

فبعد أن نضبت الموارد الطبيعية من مختلف أنواع المعادن من على سطح الأرض نتيجة لاستنزافها والإفراط في استخراجها واستخدامها، وبعد أن تلوثت البيئة وتدهورت الغابات وانكمشت مساحاتها، لجأت الدول الصناعية المتطورة المتعطشة لهذه المعادن لاستمرار مصانعها واستدامة أعمالها التنموية إلى التنقيب في قاع البحار وأعماق المحيطات المظلمة على بعد عدة كيلومترات تحت سطح البحر( deep-sea mining). فالدول الصناعية الآن تريد أن تتجه نحو السيارات الكهربائية بدلاً من سيارات الجازولين والديزل، كما أن هذه الدول من أجل مكافحة التغير المناخي وسخونة الأرض، تهدف إلى الانتقال نحو مصادر الطاقة البديلة النظيفة والمتجددة بدلاً من الوقود الأحفوري، وكل هذه التوجهات الجديدة والسياسات المستقبلية لكي تنجح هذه الدول في تحقيقها وتنفيذها فإنها بحاجة إلى معادن مثل الليثيوم، والكوبالت، والمنجنيز، والنحاس، والنيكل، وكل هذه المعادن الموجودة في باطن الأرض حالياً غير كافية لسد هذه الاحتياجات.

فقد اكتشفت الشركات الكبرى العملاقة التي تحتكر ثروات الأرض الطبيعية منذ مئات السنين كميات كبيرة جداً من هذه العناصر في أعماق البحر على عدة أشكال. أما الشكل الأول فهو عبارة عُقد متعددة المعادن(polymetallic nodule) موجودة في قاع المحيطات، وفي مساحات شاسعة جداً تزيد عن ملايين الكيلومترات المربعة، مثل المنطقة القاعية الممتدة من المكسيك إلى هاواي(Clarion-Clipperton Zone)، وعلى عمق قرابة أربعة كيلومترات. والشكل الثاني فهو البراكين تحت سطح البحر(hydrothermal vent) والتي تطلق مركبات الكبريتيد التي تحتوي على المعادن المطلوبة. وأما الشكل الثالث فهو القمم بحرية(Sea mounts) الموجودة تحت سطح الماء وغنية بالكوبالت والمعادن الأخرى.

وبالرغم من وجود قانون حول حماية المحيطات، وهو قانون البحار(UN Convention on the Law of the Sea)، وبالرغم من وجود السلطة المختصة المنبعثة من هذا القانون لتقنين عمليات التنقيب، ومنح الرخص، وهو "السلطة الدولية لقاع البحر" (International Seabed Authority (ISA))، إلا أن هناك عدة أسباب وعوامل تجعلني لا أؤمن بفاعلية وجدوى هذا القانون وهذه الوكالة الأممية. أما السبب الأول فليست كل دول العالم قد صادقت على قانون البحار، أي أن هذه الدول ومن بينها دول عظمى غير معنية بأية ضوابط أو شروط تضعها هذه السلطة، فهي بذلك تفعل ما تشاء، وبخاصة أنها دول عظمى لا يستطيع أحد محاسبتها، أو مواجهتها عملياً، كما هو الحال بالنسبة للمعاهدات الأممية الأخرى والمنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة. والثاني فإن الشركات التي لها الإمكانيات والموارد في الحفر في أعماق المحيطات، هي شركات متنفذة جداً، وتسيطر على القرار السياسي في دولها وعلى المستوى العالمي، ولا يمكن لأحد منعها من الاستكشاف والتنقيب واحتكار هذه الثروات المعدنية. والسبب الثالث فإن عمليات الحفر في أعماق البحار أشد وطأة وتنكيلاً بالبيئة وكائناتها الحية من عمليات الحفر على الأرض، فلا أحد يعلم ماذا يحدث على عمق قرابة 4000 متر في أعماق المحيط المظلمة وتحت الضغط الشديد والمرتفع، ولا يمكن لأحد أن يثق بمصداقية وأمانة هذه الشركات في حماية البيئة، فسجلها أسود وتاريخها مظلم، ولا توجد منظمة أممية لها القدرات التقنية على مراقبة وتفتيش عمليات هذه الشركات في تلك المواقع النائية والبعيدة عن سطح البحر، كما لا توجد منظمة لها السلطة على محاسبة ومعاقبة هذه الشركات عند استباحتها لحرمات بيئة قاع المحيطات الذي يعتبر ملكية مشتركة لجميع دول العالم.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق