الخميس، 28 يوليو 2022

التغير المناخي حالة طارئة


ربما شاهد الجميع الصور المنشورة في وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي في 21 يوليو 2022، وهي صور لمتنزه "هايد بارك" المشهور عالمياً في وسط العاصمة البريطانية لندن، وقد تحول هذا المتنزه الأخضر الجميل الذي كان يشرح النفس ويسعد القلب إلى صحراء قاحلة جرداء يابسة، حيث مات الحشيش وتدهور الغطاء الأخضر نتيجة للحرارة المرتفعة وعدم سقوط الأمطار.

 

فهذا المشهد الحزين لمتنزه هايد بارك العريق لا يستطيع أحد أن ينكره أو يتجاهله فهو يعد مثالاً صارخاً مشهوداً للجميع على تداعيات الموجات المناخية المرتفعة الحرارة التي نشهدها اليوم والتي حطَّمت في شدة حرارتها الأرقام القياسية للأعوام الماضية، إضافة إلى حرائق الغابات المستعرة والمستمرة التي نراها الآن في مناطق واسعة من الكثير من الدول في كل عام. وكل هذه المشاهد ليست ناجمة عن حوادث عرضية مؤقتة، ولم تقع بمحض الصدفة، وليست من باب الدورات المناخية الطبيعية المختلفة من عامٍ إلى آخر، فهذه الكوارث المناخية المفرطة في شدتها وتكرار وقوعها والتي تنزل الآن في مناطق شاسعة من الكرة الأرضية تنجم جزئياً من برامجنا التنموية غير المتناهية منذ قرابة قرنين من الزمان، فأعمالنا وأيدينا تتحملان مسؤولية ما ينزل علينا منذ سنوات، فهذه الحالات المناخية العصيبة غير العادية وتداعيتها علينا وعلى كوكبنا هي في الحقيقة بما كسبت أيدينا ونتيجة لسياساتنا التنموية غير الرشيدة وغير المستدامة التي لم يحدث عليها أي تغيير شكلٍ جذري عبر القرنين الماضيين.

 

فانبعاثات الغازات المتهمة بسخونة الأرض وإصابتها بالحمى المزمنة، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون وغاز الميثان وغيرهما لم تتوقف منذ قرابة 200 عام، بل وزادت مع الزمن واتسعت رقعتها ودائرة انبعاثها. فمنذ أكثر من مائة عام كانت أعداد الدول المتقدمة والصناعية التي تُطلق هذه الغازات معدودة وقليلة، ولكن اليوم كل دول العالم بدأت على المستوى القومي ببرامجها التنموية والتي تنبعث منها غازات الاحتباس الحراري، مما يعني أن دائرة المشكلة توسعت كثيراً، ونتيجة لذلك فحجم الانبعاثات زاد وارتفع بدرجة كبيرة جداً، فجميع دول العالم بها سيارات وقطارات وطائرات تنبعث عنها الملوثات المناخية، وكل دول العالم تمتلك الآن محطات لتوليد الكهرباء بالفحم أو الغاز الطبيعي وتطلق ملوثات الاحتباس الحراري، وجميع دول العالم لديها مصانع تعمل بالوقود الأحفوري وتنبعث عنها الملوثات، فالقضية أصبحت اليوم جماعية ومشتركة من ناحية أسباب وقوعها ومن ناحية نزول تداعياتها على كوكبنا، ولكن مسؤولية حلها ومواجهتها تعتمد على دور كل دولة التاريخي في نشوئها وتكوينها، وتعتمد على مساهمتها خلال القرنين في وقوعها.

 

فدول العالم ومنذ قمة الأرض في ريو دي جانيرو في عام 1992 والتي وضعت حجر الأساس لمفاوضات دولية لمواجهة قضية التغير المناخي من خلال التوقيع على "الاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي" ، أي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تسعى نحو هدف واحد هو الوصول إلى اتفاقية جماعية مشتركة وملزمة للجميع لمواجهة هذه الكارثة المناخية التي نعايشها منذ عقود، وتعتمد هذه الاتفاقية آليات دولية وأدوات للمراقبة ومُحاسبة ومعاقبة كل من يتخلف عن تعهداته لمواجهة هذه القضية الدولية وخفض انبعاثاته من الغازات المسؤولة عن وقوعها، ولكن كلما خطا المجتمع الدولي خطوة واحدة إيجابية إلى الأمام، ونحو تحقيق هذا الهدف، تراجع خطوات كبيرة إلى الوراء وإلى نقطة البداية والانطلاق.

 

وهناك عدة أسباب تقف وراء هذه الحالة الدولية المتذبذبة والمتضاربة، منها عدم استقرار الأوضاع السياسية في حكومات دول العالم، وبخاصة في أكبر دولة عظمى مسؤولة عن وقوع المشكلة وتتحمل العبء الأكبر لعلاجها ومكافحتها، وهي الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى سبيل المثال، وافقت دول العالم في الاجتماع الثالث الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية في عام 1997 على "بروتوكول كيوتو" للتغير المناخي. ولكن هذا البروتوكول لم يحقق الهدف الكلي المنشود، فقد جاء ناقصاً وغير شامل، حيث ألزم البروتوكول فقط الدول الصناعية المتقدمة الكبرى على وضع سقفٍ لانبعاثاتها من الغازات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، واستثنى البروتوكول الدول النامية غير المتقدمة من وضع حدودٍ تتعهد بها لخفض انبعاثاتها. ومن جانب آخر أيضاً، فإن الهدف الرئيس لم يتحقق أيضاً في أن البروتوكول فشل في وضع آلية أممية تراقب وتحاسب وتعاقب أية دولة لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها التي قطعتها على نفسها لخفض انبعاث الملوثات المناخية. كما أن هذا البروتوكول في نهاية المطاف لم ير النور، ولم ينفذ في الواقع الميداني، وبخاصة بعد انسحاب أكبر دولة مسؤولة عن حدوث التغير المناخي وهي الولايات المتحدة الأمريكية، فعندما وقع الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق بل كلينتون على البروتوكول جاء جورج بوش الابن الجمهوري ورفض التصديق عليه، فانتهى البروتوكول وانتقل إلى مثواه الأخير. وبعد سنوات عجاف من المفاوضات الدولية، توصل العالم إلى تفاهمات باريس لعام 2015 ووقع عليها الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق أوباما، ثم تولى الجمهوري ترمب مقاليد الحكم فانسحب من الاتفاقية، وأرجع العالم إلى الوراء مرة ثانية بالنسبة للجهود الدولية لخفض حرارة الأرض.

 

كذلك حالة عدم الاستقرار الأمني في بعض مناطق العالم خلقت ظروفاً خاصة عرقلت وجمدت كل المساعي الدولية للتصدي للتغير المناخي، ووجهت كل أنظار وجهود العالم نحو حل هذه المشكلة الأمنية الطارئة، حتى ولو كان على حساب التغير المناخي. فالغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 والمقاطعة النفطية الغربية للبترول الروسي، اضطر الرئيس الأمريكي بايدن إلى التدخل لوضع حدٍ لأزمة الطاقة الحادة المشتعلة في الدول المقاطعة، فأمر في 31 مارس 2022 بسحب مليون برميل يومياً ولمدة ستة أشهر من النفط الخام من المخزون الاستراتيجي الأمريكي الطارئ(Strategic Petroleum Reserve)، أي بإجمالي 180 مليون برميل. وفي الوقت نفسه حث الرئيس الأمريكي شركات النفط الأمريكية العاملة في الأراضي الاتحادية على زيادة استخراج وإنتاج البترول الخام، كما دعا الدول الصديقة والحليفة إلى ضخ ما يتراوح بين 30 إلى 50 مليون برميل. فهذا القرار الأمريكي بضخ البترول والفحم في الولايات المتحدة والدول الغربية عامة يعني حرق المزيد من الوقود الحفري الذي يتحمل المسؤولية العظمى في انبعاث غازات الدفيئة التي تسبب التغير المناخي وترفع من درجة حرارة كوكبنا، كما يعني تجميد القرار الدولي حول التخلص التدريجي من استخدام الوقود الأحفوري وخفض الاستثمار في مصادر الطاقة البديلة والمتجددة غير الملوثة للبيئة.

 

وبالرغم من هذا الوضع غير المشجع بالنسبة لمكافحة لتداعيات التغير المناخي، إلا أن الوضع السياسي الحالي في الولايات المتحدة الأمريكي ووجود رئيس ديمقراطي يؤمن بأن التغير المناخي واقعي ويهدد الأمن والسلم الدوليين، إضافة إلى التداعيات الكثيرة الأخرى، يُطمئنني قليلاً في الأقل خلال السنتين القادمتين من حكم بايدن. فبايدن منذ حملته الانتخابية للرئاسة وهو يقدم برنامجاً طموحاً لخفض الانبعاثات بنسبة 50% من مستويات عام 2005 بحلول عام 2030، إضافة إلى تحقيق الانبعاث الصفري من محطات توليد الكهرباء العاملة بالفحم بحلول عام 2035. كما أنه أعلن في العشرين من يوليو 2022 عن سلسلة من الأوامر التنفيذية تصب في مكافحة التغير المناخي، حيث أعلن بأن التغير المناخي "حالة طارئة"، ويشكل حَرْفياً تهديداً وجودياً لأمتنا وللعالم قائلاً:" "بصفتي رئيساً لدي مسؤوليات للتنفيذ والتصرف بشكلٍ عاجل وإيجاد الحلول عندما تواجه أمتنا خطراً واضحاً وقائماً، وهذا هو التغير المناخي...فهو خطر قائم وواضح"، كما وصف الموجات الحرارية الناجمة عن التغير المناخي بأنها "حالة طارئة".

 

فكل هذه النوايا الحسنة والوعود المتكررة تواجه في الواقع الميداني صعوبات وعوائق سياسية وقانونية داخلية، منها عدم موافقة الكونجرس على كل توجهات وبرامج الرئيس في مجال التغير المناخي، ومنها قرار المحكمة العليا في الثلاثين من يونيو 2022 الذي قيَّد صلاحيات وكالة حماية البيئة الأمريكية في تنظيم الانبعاثات، وبالتحديد بالنسبة لثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء التي تعتبر ثاني أكبر مصدر لهذا الغاز المسؤول عن التغير المناخي للأرض، كما أن هذا القرار حدَّ من قدرة وسلطات وكالة حماية البيئة على وضع المواصفات الخاصة بخفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون من مصانع إنتاج الطاقة على مستوى أمريكا.

 

فهذا هو حالنا منذ ثلاثة عقود طويلة بالنسبة لقضية العصر، قضية التغير المناخي، فتشخيص القضية معروف، والعلاج معروف أيضاً، والدواء تم وصفه من قبل المختصين والخبراء، ولكن المشكلة العقيمة تكمن في التنفيذ على كافة المستويات الدولية والقومية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق