الأحد، 29 ديسمبر 2019

التعرض للهواء الملوث يُسبب الاكتئاب والانتحار

في منتصف التسعينيات من القرن المنصرم نشرتُ مقالاً تحت عنوان:" أجهزة معالجة عوادم السيارات تمنع الانتحار!"، والمقال يدور حول العلاقة بين التلوث والانتحار، وقدمتُ مثالاً عملياً عن استخدام عوادم السيارات كوسيلة وأداة للانتحار.

فمن المعروف بأن هناك جهاز خاص يُوضع في مؤخرة عادم السيارة من أجل التحكم في الملوثات التي تنبعث عنها، فيحولها من ملوثات سامة إلى مواد غير سامة، أو أقل خطورة وأقل تأثيراً على الإنسان وبيئته. ففي السيارات التي تستعمل وقود الجازولين، يوجد بها جهاز يُعرف بالمحولات الحفازة(Three Way Catalyst)، وهذا الجهاز يقوم بمعالجة الملوثات الضارة التي تنتج عن عملية احتراق الوقود، وبالتحديد أول أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين والمركبات الهيدروكربونية، فيحولها إلى ماء وغاز ثاني أكسيد الكربون.

وقد أكدت الكثير من الدراسات على الفوائد التي يجنيها الإنسان والمجتمع بأكمله من وضع هذا الجهاز في السيارة، ولكن كل هذه الدراسات تناولت الجانبين الصحي والبيئي لهذا الجهاز، حيث كشفتْ دراسة علمية لطيفة وغريبة عن الجانب الاجتماعي لهذا الجهاز ونُشرتْ في مجلة اللانست الطبية المعروفة (The Lancet) تحت عنوان "المحولات الحفازة ومنع الانتحار"، حيث أكدت بأن مع وضع أجهزة معالجة عوادم السيارات في بريطانيا، وذلك بدءاً من 31 ديسمبر عام 1992، انخفضت مع الزمن بشكل ملحوظ أعداد الأفراد المنتحرين. وعلاوة على ذلك، فقد أفادت بعض التقارير الأخرى أن هناك العديد من الأفراد الذين حالوا الانتحار باستنشاق الأدخنة الناجمة عن السيارات، ولكن لم يموتوا بسبب عدم وجود الغاز المسبب للموت وهو غاز أول أكسيد الكربون في عوادم السيارات.

كما كشفتْ الإحصاءات المنشورة في ذلك الوقت في أسكوتلندا بأن هناك انخفاضاً واضحاً في أعداد المنتحرين، حيث انخفضت نسبة المنتحرين من 24% في الفترة من 1990 إلى 1992، أي قبل سَنْ القانون الأوروبي المتعلق بوضع أجهزة معالجة لعوادم السيارات إلى 14% في عام 1997.

واليوم أكشفُ لكم عن بعدٍ آخر وجديد للتلوث وهو علاقة الملوثات بالجانب العقلي والنفسي للإنسان، وبالتحديد إصابة الإنسان الذي يتعرض بشكلٍ مستمر للتلوث بالاكتئاب والقلق والميل نحو الانتحار. فقد أفادت دراسة منشورة في مجلة (PLOS Biology) في العشرين من أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:" تلوث البيئة له علاقة بزيادة مخاطر الاضطرابات النفسية في أمريكا وكندا" بأن الدول التي تعاني من ارتفاعٍ في نسبة تلوث الهواء تزيد عندها حالات الإصابة بمرض الاضطراب ثنائي القطب (bipolar disorder) بنسبة 27%، وهذا المرض هو اضطراب نفسي يسبّب نوبات من الاكتئاب ونوبات من الابتهاج غير الطبيعي، كما تزيد في هذه الدولة حالات الإصابة بالاكتئاب بنسبة 6%.

كذلك نُشرت دراسة في مجلة أبحاث الصحة النفسية ( Psychiatry Research) في فبراير من العام الحالي تحت عنوان: "العلاقة بين التلوث بثاني أكسيد النيتروجين والجسيمات الدقيقة ومشكلات الصحة العقلية عند أطفال لندن"، حيث قامت الدراسة بمراقبة ومتابعة حالة الصحة العقلية لـ 284 طفلاً يعيش في لندن منذ عمر 12 إلى 18، وأفادت الدراسة بأن هناك علاقة بين التعرض للهواء الملوث والإصابة بالاكتئاب والسلوكيات غير المستقيمة لمن تبلغ أعمارهم الـ 18 عاماً.

وأخيراً هناك دراسة أجريت على مستوى دول العالم ونشرت نتائجها مجلة شؤون صحة البيئة في 18 ديسمبر من العام الجاري تحت عنوان: "تلوث الهواء وعلاقته بالاكتئاب والانتحار: دراسة دولية". فقد قامت هذه الدراسة بتحليل أكثر من 1826 بحثاً أُجريت في 16 دولة حول علاقة التعرض للتلوث بالأمراض العقلية والنفسية مثل الاكتئاب والانتحار، حيث أشارت إلى أن الناس الذين يعيشون في بيئات ملوثة تزداد عندهم مخاطر الإصابة بالاكتئاب والقلق والانتحار.

وهناك عدة أسباب تقف وراء العلاقة بين التعرض للملوثات والسقوط في شباك الأمراض العقلية والنفسية والقيام بالانتحار، فالملوثات بشكلٍ عام، والدخان أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر بشكلٍ خاص لها القدرة على الدخول في جسم الإنسان عن طريق الأنف ثم الرئتين والدخول في مجرى الدم، مما يسهل عليها غزو كل أعضاء جسم الإنسان، وتتمكن عندئذٍ من مهاجمة واختراق كل خلية من خلايا الجسم، مهما كانت بعيدة وموجودة في مكانٍ آمن، سواء أكانت خلايا المخ، أو الأعصاب، أو الهرمونات التي يفرزها الجسم. فهذه الجسيمات الدقيقة التي ربما لا ترى بالعين المجردة تسبب الالتهابات المزمنة لكافة خلايا الجسم، وتؤثر على نموها ووظيفتها ومستوى أدائها. وقد أكدت الكثير من الدراسات الميدانية التي أشرت إليها في مقالات سابقة تراكم هذه الجسيمات في خلايا المخ، وفي المشيمة التي تربط بين الجنين والمرأة الحامل، مما يعني أن احتمال تأثر الإنسان عقلياً جراء التعرض للملوثات أمر محتمل وواقعي وينعكس صحياً على الإصابة بالاكتئاب والانتحار والاختلالات العقلية والنفسية الأخرى.

والأمراض العقلية كالاكتئاب يُعد من الأمراض الشائعة في كل دول العالم، ونحن في البحرين لسنا بمنأى عن الإصابة بهذا المرض، حيث كشفت إحصاءات وزارة الصحة المنشورة في 25 ديسمبر من العام الجاري بأن الاكتئاب يصيب نحو 20% من النساء مقابل 10% من الرجال في البحرين، ومن بين الأسباب التقليدية المعروفة هي المشاكل الحياتية والصعوبات والعراقيل التي يواجهها الإنسان في حياته سواء في العمل، أو في الأسرة، أو غيرهما من مشاكل الحياة الدنيا، ولا ننسى الآن بأن هناك عاملاً جديداً يتجاهله الأطباء، ولا تعطيه وزارة الصحة الاهتمام والرعاية المطلوبين وهو التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص، فتلوث الهواء كما وصفته في مقالات سابقة أَعتبره "قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته"، الجسم والعقل والنفس. 


الخميس، 26 ديسمبر 2019

لماذا تَنْفُق الأسماك؟


حوادث نفوق الأسماك التي نسمع عنها ونشاهدها بين الحين والآخر في البحرين وفي دول كثيرة أخرى، تَكُون أسبابها في جميع الحالات من بعض المظاهر التي يحسبها الإنسان تافهة وبسيطة ولا تستحق ذلك الاهتمام والرعاية، ومن هذه المظاهر التي بدأت تتفاقم وتتسع دائرتها ونطاق تأثيرها، وبخاصة في السنوات الماضية هي انخفاض تركيز الأكسجين، أو تدهور نسبة الهواء الذائب في المسطحات المائية.

فأهمية وجود الأكسجين في البحار والبحيرات بتركيزٍ دقيق ومعتدل كما خلقه الله سبحانه وتعالى لا يقل أهمية وضرورة عن تركيز الأكسجين في الهواء الجوي بالنسبة للإنسان والكائنات الحية الأخرى من نباتات وحيوانات، فأي خللٍ ولو بسيط في التوازن المتعلق بنسبة الأكسجين في الهواء من الناحيتين الكمية والنوعية يؤدي إلى كوارث صحية وأمنية لجميع الكائنات الحية التي تعيش على سطح الأرض ولا يمكنها الاستغناء عن الهواء ولو دقائق بسيطة معدودة، بل وإن أي تغيير مهما كان حجمه في نسبة الأكسجين في الهواء سينجم عنه عدم استدامة حياة البشر على هذا الكوكب.

وقد انتبه العلماء المتابعون لظاهرة الانخفاض التدريجي مع الزمن في ذوبان الأكسجين في مياه البحار والمحيطات إلى هذه القضية الحساسة والخطيرة المهددة لسلامة وأمن الحياة الفطرية البحرية ولحياة الإنسان معاً، وقد حذَّر هؤلاء المراقبون لهذه الظاهرة من خطرٍ وشيكٍ قادم، وأعلنوا تحذيرهم وقلقهم في التقرير الذي عُرض في اجتماع الأمم المتحدة السنوي الـ 25 للدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي، والذي عُقد في منتصف شهر ديسمبر من العام الجاري في العاصمة الإسبانية مدريد.

فقد انتهز الاتحاد الدولي لصون الطبيعية وجود عشرات الآلاف من البشر في مكانٍ واحد، وفي وقتٍ واحد في الاجتماع المخصص فقط لمناقشة مشكلة العصر التي لا حل لها حتى الآن وهي التغير المناخي وتداعياتها المتمثلة في ارتفاع درجة حرارة الأرض وارتفاع مستوى سطح مياه البحار والمحيطات.

ففي هذا الاجتماع الدولي السنوي يُشارك فيه رجال السياسة والنفوذ من رؤساء الدول ورؤساء الحكومات والوزراء والعلماء والجمعيات الأهلية، وتُسلط وسائل الإعلام كافة أضوائها، وتسخر جميع إمكاناتها لتغطية هذا الحدث الدولي، ولذلك لا يوجد منبر أفضل من منبر هذا الاجتماع لتقديم أية قضية، أو جلب أنظار العالم إليها.

فهذا التقرير حول الانخفاض المشهود في كمية الأكسجين في عمود الماء جاء في الوقت المناسب وفي المكان المناسب، فالجميع في اجتماع التغير المناخي ينصب اهتمامه على تداعيات ظاهرة التغير المناخي، والجميع شدَّ الرحال للمشاركة في هذا الاجتماع للتعرف على أهم وآخر مردودات وانعكاسات هذه الظاهرة على المجتمع البشري خاصة وعلى كوكبنا عامة.

فقد أكد التقرير عن وجود مواقع في محيطات وبحار العالم تُعد ميتة بيولوجياً، وتُعتبر فعلياً كالمقابر الجماعية الصامتة التي مات أهلها جميعاً  فلا روح فيها ولا حياة لها، وهذه المقابر قد زادت أعدادها بدرجةٍ ملحوظة ومشهودة من نحو 45 في الستينيات من القرن المنصرم إلى أكثر من 700 موقع حالياً، ومن هذه المواقع ما يصل مساحته إلى قرابة 20 ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بنحو 25 مرة، كما انخفض تركيز الأكسجين في محيطات العالم بشكلٍ مستمر مع الزمن وهو العامل الرئيس في تكوين مثل هذه المقابر البحرية، حيث أفاد التقرير بأن تركيز الأكسجين في تدهور كل سنة حيث انخفضت النسبة حتى الآن 2%، وهذه النسبة ستستمر في الارتفاع إذا استمر الحال على ما هو عليه من انبعاث الغازات الملوثة للهواء الجوي والمتهمة بالتغير المناخي، وعلى رأس قائمة المتهمين غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث من أية عملية احتراق للوقود الأحفوري، سواء أكان الفحم، أو النفط ومشتقاته، أو الغاز الطبيعي.

ولذلك نجد بأن ظاهرة نفوق الأسماك والموت الجماعي لها، وبخاصة في المواسم التي ترتفع فيها درجة حرارة الجو وتزداد درجة حرارة المياه في المسطحات المائية، قد استفحلت في السنوات الأخيرة وتحولت إلى ظاهرة دولية يمكن مشاهدتها في الكثير من بحار وبحيرات العالم. 

فالأسباب التي تؤدي إلى موت الأسماك كثيرة جداً ومتنوعة وكلها نعاني منها في البحرين. فهناك، كما بيَّنا، تداعيات التغير المناخي العامة المتمثلة في سخونة مياه البحر وخفض نسبة الأكسجين الذائب في الماء، وهناك المخلفات الصلبة والسائلة ومخلفات مياه المجاري التي تُصرف في البيئة البحرية وتحتوي على مواد غذائية، كالفوسفور والنيتروجين، وهذه الملوثات الغذائية تؤدي إلى إثراءٍ ونمو سريعين وكبيرين للنباتات البحرية كالطحالب والحشائش، ومع الوقت تتحلل هذه الطحالب فتستهلك الأكسجين الذائب في الماء وتستخدمها لعملية التحلل الحيوي، مما ينجم عنها نقص حاد وشديد في الأكسجين واختناق سريع وكبير للكائنات البحرية التي تعيش في تلك المنطقة. وعلاوة على ذلك، فهناك ظاهرة موجودة في البحرين بصفةٍ خاصة، وتتمثل في عملية دفان البحر وترك مواقع بحرية ضحلة وشبه مغلقة لا تتحرك مياهها ولا توجد بها تيارات مائية، مما يتسبب في حبس الكائنات البحرية في منطقة صغيرة وعفنة في بعض الأحيان وتؤدي إلى موتها وموت من عليها.

فإذا أردنا فعلاً أن نتخلص من ظاهرة نفوق الأسماك فعلينا تجَنُب كل العوامل والأسباب التي تؤدي إلى هذه الظاهرة، ومن أهمها نُضوب الأكسجين الذائب في ماء البحر.