الثلاثاء، 24 ديسمبر 2019

هل إفساد البيئة يرقى إلى جرائم ضد الإنسانية؟



لا بد لي في البداية أن أُبين لكم حجم القضية التي أَتحدثُ عنها والمتعلقة بمسؤولية تلوث البيئة في قتل الإنسان وإفساد أمنه الصحي، وأثبتُ لكم معاناة الإنسان العصيبة والمستمرة منذ أكثر من قرنٍ من الزمان من تداعيات هذه القضية، والكوارث التي نزلت عليه منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. وسأُقدم لكم أمثلة حية واقعية تجسد أمامكم حجم الألم وعظم الكرب الذي وقع على الإنسان، وترون أمامكم جرائم سقوط الخسائر البشرية التي ذهبت ضحية لإهمال الإنسان نفسه، وعدم جديته في مكافحة ومواجهة هذه القضية.

فمن أولى هذه الجرائم التي سقط فيها المئات من البشر صرعى يلاقون حتفهم كانت في الفترة من 27 إلى 31 أكتوبر عام 1948 في مدينة دونورا بالقرب من مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية. فقد زار المدينة ضيف ثقيل الظل على النفس، وكئيب على القلب، ومفسد للجسد، فحلَّ على المدينة دخان كثيف وضباب أسود قاتم مشبع بخليطٍ قاتل من الملوثات السامة والخطرة التي سمحنا نحن بني البشر بأيدينا أن تدخل في هوائنا دون حسيبٍ أو رقيب، منها الدخان الأسود والعناصر الثقيلة وأكاسيد الكبريت والنيتروجين، فاستمر هذا الضباب الملوث يخيم بظلاله المظلمة والقاتلة لمدة خمسة أيام على سماء المدينة، فحول النهار ليلاً، وانعدمت الرؤية طوال هذه الأيام العصيبة، وأُعلنت حالة الطوارئ الصحية البيئية وبخاصة عندما سقط الناس صرعى يعانون من ضيق التنفس وآلام في الصدر ومتاعب في القلب، فمات أكثر من 26 على الفور ومرض أكثر من نصف سكان المدينة.

ثم جاءت الجريمة الإنسانية الثانية التي وقعت في قلب العاصمة البريطانية لندن، وبالتحديد في أيام الأعياد والأفراح في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952، حيث سقط عشرات الآلاف من الناس بسبب تدهور وفساد الهواء الجوي من الملوثات التي سمحنا لها بالدخول في هوائنا، فمنهم من قضى نحبه، وبلغ عددهم نحو أربعة آلاف شخص خلال أسبوع واحد فقط، ومنهم من أُدخل إلى الطوارئ ليتلقى العلاج من السموم التي استنشقها في الهواء الجوي، علماً بأن هذه الجريمة مازالت تُرتكب حتى بعد مرور نحو سبعين عاماً، فمازلنا نسمح بالملوثات من الانبعاث إلى الهواء الجوي، فنُكرر معاناة الإنسان منها وموت الكثيرين بسببها.
 
وأما الثالثة فكانت من نصيب اليابان التي وقعت فيها العديد من مثل هذه الجرائم التي تَسببَ في وقوعها أيدي الإنسان، وأدت إلى هلاك الإنسان نفسه. فمن أكثر الكوارث البيئية الصحية وأشدها وطأة على المجتمع الياباني خاصة والمجتمع البشري عامة هي الطامة الكبرى التي نزلت على الشعب الياباني في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم وأُطلق عليها "مرض ميناماتا". هذا المرض الغريب الذي انكشفت خيوطه العصيبة قبل أكثر من 65 عاماً، ومازال خالداً حتى يومنا هذا يعاني منه جيل بعد جيل، وسيظل هذا المرض العضال في ذاكرة الشعب الياباني حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وتتلخص أحداث هذه الجريمة الإنسانية النكراء في قيام أحد المصانع بالسماح لعنصر الزئبق السام والخطر في الدخول في خليج ميناماتا، حيث كان هذا السم يتراكم في جنح الليل وبعيداً عن أنظار البشر في الكائنات البحرية النباتية، ثم ينتقل إلى الكائنات الحيوانية من الأسماك الصغيرة، ثم الكبيرة، وأخيراً إلى الطيور المائية، والقطط، وفي نهاية السلسلة الغذائية الإنسان الذي كان يعيش على هذه الأسماك. فسكان هذه القرية كانوا يشاهدون أمامهم الطيور وهي تسقط صريعة، والقطط وهي تدور حول نفسها فتموت فجأة واحدة، والناس يمرضون ويصيحون من شدة الألم، فكانت هذه المناظر العصيبة تُنسى الوالدةُ رضيعَها، وتُسْقط الحامل حملها من الرعب، فأصبحوا كالسكارى من شدة الهول والفزع الذي حلًّ بهم، وليسوا بسكارى من الخمر، ولكن شدة المعاناة والألم النفسي والجسدي أفقدتهم عقولهم وإدراكهم وإحساسهم. فكانت المحصلة النهائية حتى يومنا هذا أكثر من مائتي قتيل وقرابة 3000 مريض، علماً بأن مثل هذه الجريمة تكررت فصولها في الستينيات من القرن الماضي على نهر أجانو(Agano) فقضى الكثير من اليابانيين نحبهم ومرض الآلاف، علاوة على مرض إتاي إتاي الناجم عن صرف أحد المصانع لعنصر الكادميوم السام في نهر جينزو(Jinzu) الذي يُستخدم ماؤه للشرب وري محاصيل الأرز.

فما قدمتُه لكم هنا غيض من فيض، فالأمثلة الحية التي تؤكد بأن الملوثات تقتل الإنسان وتُعرضه لشر السقوط في الأمراض الحادة والمستعصية كثيرة جداً ولا مجال هنا لذكرها كلها ومنظمة الصحة العالمية اعترفت بدور التلوث في قتل الإنسان، فلا بد إذن من معاقبة ومحاسبة من يتعمد في ارتكاب جرائم القتل هذه ولا يُعير أي اهتمام للملوثات التي يَسمحُ لها بالانطلاق إلى البيئة، كما يجب اعتبار مثل هذه الأعمال كأية جريمة قتل ضد الإنسانية، فالقتل في تقديري واحد بصرف النظر عن الوسيلة والأداة المستخدمة، سواء أكانت هذه الأداة سكيناً وسيفاً، أو قنبلة، أو سلاح ناري، أو قذيفة صاروخية، أو غير ذلك من أسلحة القتل الجماعي، والملوثات هي أيضاً أداة معترف بها دولياً للقتل الجماعي، كما بيَّنت لكم من خلال بعض الكوارث التي وضعتُها أمامكم.

ولو رجعنا للتعريفات المعتمدة دولياً لمصطلح "الجرائم ضد الإنسانية" لاستطعنا القياس عليها، واعتبار من يلوث البيئة متعمداً وبشكلٍ مستمر كمن يرتكب جريمة ضد الإنسانية بالأساليب المعروفة للقتل. فالجريمة ضد الإنسانية تعني بالتحديد أي فعل من الأفعال المحظورة والمحَدَّدة في نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية متى ارتُكبتْ في إطار هجوم واسع النطاق، أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وتتضمن مثل هذه الأَفعال القتل العمد، والإبادة، والتعذيب، والإرهاب، والاغتصاب، والعبودية الجنسية، والإبعاد أو النقل القسري للسكان، وجريمةِ التفرقة العنصرية وغيرها لأسباب سياسية أو دينية أو عرقية، سواء كانت فردية أو جماعية، ويلحق بهذه الأعمال الشبيهة بها التي تقترف ضد المدنيين في المناطق المحتلة.

وبالتالي فإن تكرار وقوع الكوارث البيئية التي هي من صنع الإنسان نفسه، والتي تؤدي إلى المرض الجماعي للبشر وموتهم فوراً، أو موتاً مبكراً يجب أن لا يفلت كل من له يد في ذلك سواء أكان فرداً، أو مجموعة، أو حتى حكومة من المحاسبة والمعاقبة، وربما في بعض الحالات يجب إنشاء محكمة جرائم دولية مختصة بالجرائم البيئية العظمى للنظر فيها والحكم عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق