السبت، 21 ديسمبر 2019

لماذا يعجز العالم عن حل قضية التغير المناخي؟


من المركبات الكيميائية التي كنتُ أتعامل معها في المختبر أثناء إعدادي لرسالة الدكتوراه في عام 1982 في جامعة مانشستر في بريطانيا مجموعة من المواد يُطلق عليها مركبات الكلورفلوركربون، والمعروفة حالياً في القطاع التجاري بالفريون، وهي مركبات عضوية تحتوي على الكربون والفلورين والكلورين، إضافة إلى عناصر أخرى.

وفي هذه الفترة الزمنية كانت هذه المجموعة من المركبات تحت أنظار العلماء بشكلٍ خاص، وكانت أعينهم تراقب بدقة وعن كثب جميع استخدامات هذه المركبات ومصيرها النهائي عندما تنطلق إلى الهواء الجوي، وكانت المناقشات في المحافل الدولية حول هذه المركبات تحتدم يوماً بعد يوم، وتشتد سخونتها في كل سنة، ويرتفع عند الجميع مستوى القلق عن تأثيراتها المستقبلية على الإنسان وبيئته والحياة الفطرية النباتية والحيوانية.

فهذه المركبات عند إنتاجها في العشرينيات من القرن المنصرم كانت تُعتبر "معجزة" من حيث خواصها الكيميائية والفيزيائية والحيوية الفريدة جداً من نوعها، فهي من المواد الثابتة والمستقرة عندما تدخل الهواء الجوي، وهي خاملة ولا تتفاعل مع أية مواد أخرى موجودة في البيئة، كما هي في الوقت غير سامة إذا تعرض لها الإنسان أو الحيوان والنبات، ولذلك كانت هذه المواد هِبة من العلماء، فاستُخدمتْ في تطبيقات عملية يومية لا حصر لها، منها في أجهزة التبريد والثلاجات والمكيفات، ومنها في البخاخات والإيروسولات، ومنها في صناعة مواد أخرى كثيرة، ومنها في المنظفات وفي أجهزة الحريق والأثاث المنزلي.

ولكن ما لم يُدركه العلماء بسبب قلة علمهم وفَقر خبرتهم، وجهلهم بمصير هذه المواد عندما تدخل إلى الهواء الجوي، فقد خلق لنفسه معضلة عظيمة، وكارثة معقدة وعقيمة كادت أن تودي بحياة البشرية جمعاء، فما لم يتوقعه العلماء من هذه المركبات هو انتقالها مع الزمن وببطء، وسرية تامة إلى طبقات الجو العليا، وبالتحديد طبقة الاستراتسفير وطبقة الأوزون التي تبعد فوقنا أكثر من عشرين كيلومتراً، وهناك فقط وفي جنح الليل والبشر نِيام كانت هذه المركبات تحلل غاز الأوزون الذي أودعه الله جلَّت قدرته وعظمته في تلك الطبقة ليُكوِّن مظلة واقية تحمي سكان الأرض من الأشعة فوق البنفسجية القاتلة منها، فيمتَصُها ويمنعها من الوصول إلى سطح الأرض.

فقد اكتشف العلماء وجود انخفاضٍ شديد وحاد في تركيز الأوزون في طبقة الأوزون فوق القطب الجنوبي، ثم بعد سنوات من البحث تأكد له بأن مركبات الفريون هي المسؤولة عن هذا الفساد العصيب في طبقة الأوزون، مما استدعى استنفار كافة قوى العالم، من علماء، ورجال السياسة والتشريع، والمنظمات الأهلية للعمل تحت سقف واحد وبجهود جماعية مشتركة لحماية الإنسان والأرض، فكانت ثمرة هذه الجهود هي معاهدة دولية صادق عليها كل دول العالم، وأُطلق عليها بروتوكول مونتريال لعام 1987 المعني بالحظر والمنع التدريجي لجميع الملوثات التي تؤدي إلى نفاد غاز الأوزون في طبقة الأوزون.
  
فالعلاج لهذه المشكلة الدولية كان سهلاً نسبياً ولم يستغرق سوى سنوات قليلة، حيث تمثل الحل في استبدال بعض المواد المستنفدة لطبقة الأوزون بمركبات أخرى جديدة دون إحداث ضررٍ لاقتصاد وتنمية الدول، أو الشركات الكبرى التي تسود وتحكم العالم، ولكن في الوقت نفسه هناك مشكلات دولية مازال حلها وعلاجها يراوح في مكانه منذ أكثر من أربعين عاماً، فكلما تقدم المجتمع الدولي خطوة، رجع مرة ثانية إلى الوراء وتأخر خطوتين، وكلما نجح في تحقيق أحد المكاسب، فشل في تحقيق مكاسب أخرى أكثر أهمية وفاعلية، وهذه المشكلة هي ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

فقضية التغير المناخي معقدة جداً ومتشابكة ومرتبطة بقضايا أخرى حيوية تقوم عليها الدول وتستديم حياتها وتنميتها، ولذلك لا يمكن بسهولة ويسر حلها والقضاء عليها جذرياً دون المساس بالقضايا الأخرى الشائكة. فالمتهم الرئيس بحدوث ظاهرة التغير المناخي هو غاز ثاني أكسيد الكربون، وهذا الغاز ينبعث من أية عملية احتراق للوقود الأحفوري مهما كان نوعه. فإذا تحركتْ سياراتُنا في الشوارع بكل أنواعها وأحجامها، فهذا الغاز ينطلق منها، وإذا حلَّقت طائراتنا في السماء فهذا الغاز هو أول ما ينطلق منها، وإذا أبحرتْ سفننا في البحر فإن ثاني أكسيد الكربون ينطلق منها، وعلاوة على ذلك كله فإن توليد الكهرباء في المحطات التي تمتلأ بها المدن في كل دول العالم ينبعث عنها هذا الغاز، كذلك ينبعث ثاني أكسيد الكربون من العمليات الصناعية والزراعية الموجودة في كل دول العالم بدون استثناء.

فكل هذا يعني بأن أي علاج وحل يُطرح لمواجهة ظاهرة التغير المناخي سيكون له تأثيرات وخيمة ومباشرة على أمن الطاقة في دول العالم من جهة، والأمن الغذائي من جهةٍ أخرى، وأي حل يقدم لمكافحة هذه الظاهرة الدولية يعني تغييراً شاملاً وجذرياً لأنماط وأسلوب الحياة في دول العالم على مستوى الحكومات والشعوب، وبخاصة الدول الغربية والصناعية الكبرى المرفهة، ويعني كذلك التحول من ثقافة الاستهلاك والاستنزاف للموارد والثروات الطبيعية الحية وغير الحية إلى ثقافة الترشيد والاعتدال في الاستعمال، كما أن أي حل لهذه الظاهرة يعني وجوب إحداث تحولٍ جذري وشامل من الاقتصاد المبني على الكربون أو الوقود الأحفوري الناضب والملوث للبيئة إلى الاقتصاد المبني على مصادر الطاقة البديلة والنظيفة والمتجددة والمستدامة.

فكل هذه التغييرات والحلول تمس بشكلٍ مباشر سياسات واقتصاديات الدول العميقة وقد تُعيق استدامة تنميتها ورفاهيتها، كما تمس في الوقت نفسه اقتصاديات الشركات الكبرى العملاقة المتنفذة في كل دول العالم، وبخاصة شركات الفحم والنفط المتعددة الجنسيات، وبالتالي نجد تباطؤاً شديداً في حل هذه القضية العصيبة منذ أكثر من أربعة عقود، ونرى أمامنا تقدماً طفيفاً لا يتناسب مع ضخامة تداعيات القضية على الإنسان وكوكبنا.

وانطلاقاً من هذه التعقيدات والأبعاد المرتبطة بعلاج معضلة التغير المناخي، فإنها ستدور في حلقة مغلقة لسنوات أخرى قادمة حتى تطمئن وتتأكد الدول المتقدمة الصناعية الغنية الكبرى بأن مصالحها القومية والحزبية ومصالح شركاتها لن تتضرر أبداً، وأن أنشطتها التنموية والاقتصادية ستستمر دون توقف عند تنفيذ أي حلٍ دولي مقترح.              

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق