الخميس، 29 نوفمبر 2018

إلى تجار السيارات


نشرتْ عدة صحف غربية خبراً يجب أن نقف عنده حكومة وشعباً ورجال أعمال، فلا ندع مثل هذا الخبر الهام يمر علينا مرور الكرام، فعلينا أن نُحلل هذا الخبر من جميع جوانبه وأبعاده، ونفهم مقاصده وأهدافه، ثم نرسم سياساتنا المستقبلية ونبني عليه استراتيجيات واضحة في مجال النقل عموماً والسيارات بشكلٍ خاص، وبخاصة أننا في البحرين نعاني من أزمة خانقة متعلقة بالازدياد المطرد في أعداد السيارات والازدحام المروي المتعاظم وتدهور نوعية الهواء الناجم عن عوادمها وتداعياتها المزمنة على الصحة العامة، وهذه الأزمة العصيبة تتفاقم بشكل ملحوظ ومشهود لكل مواطن ومُقيم ساعة بعد ساعة كل يوم.

فقد نشرتْ "البلومبرج" المختصة في أخبار الاقتصاد على كافة المستويات، ومجلة والْ ستريت جُورنل خبراً في 16 نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان: "الفولكس واجن تُنفق 50 بليون دولار على السيارات الكهربائية"، حيث جاءت تفاصيل الخبر في أن الفولكس واجن، وهي تعد من أكبر الشركات المصنعة للسيارات على المستوى العالمي قد وضعت خطة خمسية للتحول من سيارات الاحتراق الداخلي التي تعمل بوقود الجازولين أو الديزل إلى سيارات حديثة تعمل بالطاقة الكهربائية، بحيث إن تنفيذ هذه الخطة يكتمل بحلول عام 2025. فهذا المبلغ الضخم الذي هو أكبر من ميزانية بعض الدول لم يخصص عشوائياً واعتباطاً وبدون دراسة مستقبلية معمقة أو بدون استشراف لاحتياجات السوق في السنوات القادمة، وإنما تم تحديد هذا المبلغ اقتناعاً من المعنيين في الشركة بأن المستقبل سيكون للسيارات الكهربائية، وأن سيارات الديزل والجازولين وغيرهما من الوقود الأحفوري ستحال قريباً إلى التقاعد، وسيكون مكانها في المتاحف المتخصصة في السيارات القديمة ووسائل النقل.

وفي السياق نفسه نشرتْ صحيفة التليجراف البريطانية مقالاً في 18 نوفمبر حول قيام مستثمرين بريطانيين بوضع مبلغ 50 مليون دولار للاستثمار في وسائل النقل الكهربائية في شركة سويدية متخصصة في صناعة الدراجات الكهربائية.

أما الصين فهي تسابق الزمن وتتنافس بشدة مع الشركات الغربية العملاقة متعددة الجنسيات من أجل الاستحواذ على سوق السيارات وأخذ الريادة في هذا القطاع الحيوي الهام، حيث نشرتْ صحيفة جنوب الصين الصباحية(South China Morning Post) التي تصدر في هونج كونج مقالاً في 19 نوفمبر من العام الجاري حول مستقبل السيارات الكهربائية، وأفاد المقال بأن الصين تضخ مليارات الدولارات للاستثمار في هذه السيارات الجديدة وتقديم التسهيلات والمحفزات الاقتصادية وغير الاقتصادية والدعم اللازم بكل أنواعه للشركات المصنعة لها، وتعمل جاهدة ليلاً ونهاراً على إنتاج جيل جديد من السيارات الكهربائية التي تتميز بتقنيتها العالية المتطورة، والجودة الراقية والممتازة، والمواصفات الرفيعة وذلك بهدف منافسة الشركات العالمية الأخرى في المجال نفسه، وصناعة أول سيارة كهربائية فريدة من نوعها تتحدي السيارات الغربية واليابانية بشكلٍ خاص.

كل هذه المقالات والأخبار من المفروض أن تفتح عيون المستثمرين في قطاع النقل عامة وتجارة واستيراد سيارات الركاب الشخصية بصفةٍ خاصة، حيث إن عليهم قبل أن يفوتهم القطار أن يلحقوا به ويكونوا من ركابه الأوائل من الآن، فيقوموا بالخفض التدريجي في الاعتماد على استيراد سيارات الجازولين والديزل والتوجه مباشرة نحو سيارات الكهرباء، مما يعني أن عليهم البدء في دراسة تفصيلية معمقة لكل ما هو متعلق بالسيارات الكهربائية، سواء من ناحية حجم السيارة ونوعيتها وسعرها، أو من ناحية البنية التحتية والعمالة اللازمة لهذا النوع الجديد من السيارات، كخدمات الصيانة، ومحطات التزود بالوقود الكهربائي، وغيرها من القضايا ذات العلاقة.

ولكي أَكونَ مُنْصفاً للتجار المستثمرين في قطاع السيارات، فإن على الحكومة توفير "الغطاء السياسي" لهذا النوع الجديد من السيارات من خلال تبني سياسات واضحة تؤكد توجهها في المستقبل القريب نحو الاعتماد على سيارات الكهربائية، وأن تعمل الحكومة على اتخاذ قرارات تنفيذية تصب في هذه السياسة العامة، فمثل هذا الغطاء السياسي الحكومي سيكون نقطة انطلاق قوية للتجار وأصحاب رؤوس الأموال، وسيعد دافعاً قوياً لهم جميعاً، وسيشجعهم ويحفزهم على وضع أموالهم في هذا القطاع الجديد.

فالتوجه العالمي الذي نشهده الآن في كل دول العالم للزحف بسرعة نحو السيارات الكهربائية جاء بعد تبني دول الغرب والشرق لسياسات واستراتيجيات حكومية رسمية قوية وواضحة، ومن خلال إرسال رسائل مباشرة للمستثمرين وشركات السيارات في الولوج بقوة نحو هذا القطاع الحيوي. فعلى سبيل المثال، أطلقتْ القارة الأوروبية في يوليو من عام 2017 رؤيتها المستقبلية واستشرافها لمصير السيارات التي نستعملها اليوم، وبالتحديد في مجال نوعية الوقود الذي يشغل السيارات، حيث تمثلت سياستها ورؤيتها في حظر بيع واستخدام السيارات التي تعمل بالديزل والجازولين بحلول عام 2040، والتحول كلياً إلى السيارات الكهربائية كبديل صديق للبيئة، وعلاج لوباء تلوث الهواء القاتل للبشر والنبات والحجر.

ولذلك أتمنى من مجلس الوزراء الموقر الاهتمام أكثر بقضية السيارات بشكلٍ عام ووضعها في أعلى سلم الأولويات لما لها من أبعادٍ خطيرة على المجتمع البحريني برمته في القطاع المروري والصحي والبيئي والاقتصادي، والشروع في تبني سياسات واضحة متعلقة بقطاع النقل والسيارات، وبشكلٍ خاص في تشجيع استيراد السيارات الكهربائية ودعمها وتقديم التسهيلات اللازمة لها لكي تكون مؤشراً إيجابياً للتجار والمستوردين وأصحاب المال للدخول في هذا المجال الجديد.

الاثنين، 26 نوفمبر 2018

ترقبوا الفيلم القادم لهوليود


عندما زرتُ اليابان في التسعينيات من القرن المنصرم لم أكن أبحث عن المرافق السياحية التقليدية التي يبحث عنها عامة الناس ويزورها أغلب السيّاح من متنزهات وحدائق الألعاب والمواقع التراثية والمجمعات والأسواق، ولكن بوصلتي كانت متجهة إلى موقعٍ غريب جداً لا يفكر فيه الكثير من السياح ولا يلقون له بالاً، بل هو موقع فريد من نوعه وحديثْ على المجتمع الدولي برمته، فقد كان اهتمامي منصباً وبشوقٍ شديد نحو التعرف عن كثب وعن قرب على هذا المرفق الذي دخل التاريخ الياباني خاصة وصفحات التاريخ الدولي عامة، ومازالت ذكراه خالدة وحية أمام الناس، وتداعياته قائمة في المجتمع الياباني، حتى إنه تحول إلى جرحٍ عميق مفتوح لا يمكن أن يلتئم مع الزمن وينتقل من جيلٍ إلى آخر.

 

هذا الموقع الذي قُمتم بزيارته يُطلق عليه "المتحف البلدي لمرض ميناماتا"حيث شَهدتْ المدينة كارثة بيئية صحية عصيبة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ أن نزل على المجتمع الياباني، وبالتحديد في خليج ميناماتا في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، فمازالت آلامها ومعاناتها ماثلة أمام الكثير من الناس، ومازالت هناك أعداد من اليابانيين الذين يقاسون من ويلاتها بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على ظهور أول مشهدٍ لها.

 

فقد غُرست بذرة خبيثة في سواحل خليج ميناماتا تمثلت في ممارسة بسيطةٍ جداً وبريئة عندما بدأ أحد المصانع بصرف مخلفاته السائلة في المناطق الساحلية، ولكن هذه المخلفات كانت تحتوي على هذه البذرة الخبيثة التي إسمها "الزئبق"، وهو عنصر ثابت ومستقر وله القدرة على التراكم والتضخم عند دخوله إلى البيئة المائية، فتحول مع الزمن إلى شجرة خبيثة ضخمة ومتعددة الفروع، فآتت أكلها ثمراً خبيثاً وساماً وقاتلاً، فانتقل مع الزمن هذا الثمر الحنظل المرْ إلى النباتات البحرية العالقة ثم إلى الكائنات الحيوانية الصغيرة، ومع مرور الأيام والسنون أخذ في الانتشار والتحرك إلى أعلى سلم الهرم الغذائي من أسماك كبيرة وطيور مائية تقتات على الأسماك، وأخيراً إنتهى المطاف بهذا السم المهلك للحرث والنسل بالإنسان، وعندها وقعت الطامة الكبرى ونزل الكَرْب العظيم فجأة ودون سابق إنذار، وبدأ سكان مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا يشهدون مظاهر مرعبة وغريبة لم يشهدوها من قبل في مدينتهم المستقرة الآمنة، فقِططْ الحي والحيوانات الأخرى التي تأكل الأسماك أخذت في القيام بحركات "هستيرية" والسقوط صرعى ميتة أمام الناس دون سببٍ معروف، ثم انتقل هذا المشهد العقيم إلى الناس، فأصاب سكان المدينة بوعكات حادة شديدة وآلام في المفاصل، وتدمير شامل للجهاز العصبي، وشلل في الأيدي والأطراف، وعدم القدرة على التحكم في أعضاء الجسم، وفقدان البصر، ثم الموت المفاجئ، فوقف الناس مكتوفي الأيدي حائرين لا يعلمون ما سيفعلون أمام هذه الظاهرة التي يرونها أمامهم، وكأن قول ربنا ينطبق عليهم: "يوم تَرونها تذهل كل مُرضعة عما أرضعتْ وتضع كل ذات حَمْل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى".

 

فهذا المشهد الغريب والرهيب الذي رأوه يقع على سكان مدينتهم جعلهم كالسُكارى من شدة هول المنظر، بل وإن أخبار هذه المدينة انتقلت إلى باقي مدن اليابان وبلغت دول أخرى، حتى أن وسائل الإعلام من كل أنحاء العالم شدت الرحال وبدأوا يتوافدون لنقل ونشر ما وقع لهذه المدينة.

 

واليوم وبعد مرور عقودٍ طويلة من الزمن، وبعد أن اتضحت كل خيوط هذا اللغز الغريب والكارثة العامة التي أصابت الجميع جسدياً ونفسياً وعقلياً وخلَّفتْ الآلاف من الضحايا البشرية حتى يومنا هذا، وبعد أن تعرف المجتمع الدولي عن كثب على عمق التأثيرات العظيمة التي تركت وحفرت بصماتها عميقة طوال هذه السنوات على الشعب الياباني وشعوب العالم عامة، قرر مصنع الأفلام في هوليود إنتاج فيلمٍ عن هذا الواقعة الكبيرة أسمه "ميناماتا"، ويشارك فيه كبار الممثلين وعلى رأسهم الممثل الأمريكي المشهور جوني دِب، حسب ما نُشر في مجلة هوليود ريبورتر(Hollywood Reporter) في العدد الصادر في23 أكتوبر من العام الجاري.

 

وسيلعب جوني دب دور المصور الفوتوغرافي الراحل يوجين(Eugene Smith) سميث والمتخصص في تصوير الحروب، حيث قام هذا المصور لسنواتٍ طويلة بنقل معاناة البشر الذين سقطوا ضحايا لجرائم ارتكبتها أيضاً أيدي البشر أنفسهم، وأخذ هذا المصور على عاتقه مهمة توثيق ونشر آلام المصابين والأوجاع التي أصابتهم هُمْ وأسرهم من خلال عدسات جهازه اليدوي إلى كافة أرجاء المعمورة، وأستمر على هذا الحال حتى اشتهرت لقطاته الفوتغرافية الفنية وتوزعت وإنتشرت عند الناس في كل دول العالم، ونجح هذا المصور في تعزيز وعي الحكومات والشعوب بأهمية الاهتمام بمكونات البيئة وعناصرها الحية وغير الحية وحمايتها من فساد الملوثات التي يطلقها الإنسان، وبخاصة بالنسبة للزئبق، وتجسد هذا النجاح في موافقة دول العالم بالإجماع على اتفاقية خاصة تحت مظلة الأمم المتحدة للتعامل مع هذا العنصر الخبيث، وأُطلق عليها باتفاقية ميناماتا. 

               

وختاماً إذا كان هذا الملوث البسيط وهو الزئبق قد دوخ اليابان ودول العالم أجمع لأكثر من ثمانين عاماً، وأنزل على الإنسان كوارث خطيرة أودت بحياة عشرات الآلاف، فماذا عن آلاف الملوثات السامة والخطرة والمشعة التي تدخل بيئتنا في كل ثانية منذ أكثر من قرن؟ 

الخميس، 22 نوفمبر 2018

هل دخلت المخلفات البلاستيكية في أجسامنا؟


خطورة الملوثات والمخلفات عامة لا تكمن فقط في وجودها في الأوساط البيئية المتعددة كالهواء أو الماء أو التربة، فهي إن بقيت هناك واستمر وجودها في تلك الأوساط البيئية فلن تشكل تهديداً مباشراً كبيراً للأمن الصحي للإنسان ولاستدامة حياته على سطح الأرض، وإنما تكمن خطورة الملوثات في قدرتها على الانتشار والانتقال من هذه الأوساط البيئية إلى السلسلة الغذائية للإنسان، ومنها إلى أعضاء جسم الإنسان، إضافة إلى قدرتها عندما تدخل في أجسامنا على التراكم والاستقرار في هذه الأعضاء وإضعاف قوتها وفاعليتها يوماً بعد يوم، والتأثير التدريجي على وظيفتها ودورها الحيوي في أجسامنا، وفي النهاية إصابتنا بالأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج.

ولذلك إذا أردنا أن نُقيِّم خطورة أي ملوث، أو مادة كيميائية، والتهديدات التي يمثلها لصحة الإنسان، فعلينا أولاً وأخيراً أن نتعرف على مدى إمكانية دخولها في أعضاء أجسامنا، ثم دراسة احتمالية تراكمها في هذه الأعضاء وكيفية امتصاص أعضاء الجسم لها وآلية الإضرار بها مع الوقت.

وقد كثر الحديث في السنوات القليلة الماضية عن المخلفات البلاستيكية، وأبدى العلماء قلقهم المشْرُوع وتخوفهم من الازدياد المطرد والملموس لكمياتها وأحجامها في بيئتنا، وبخاصة في المسطحات المائية كالبحار والمحيطات، فمشاهدة المخلفات البلاستيكية بأنواعها المتعددة وأحجامها المختلفة لا تخفى على أحد ولا يمكن تجاهلها.

ففي كل يوم أقرأ عن دراسة علمية ميدانية منشورة تُظهر وجود المخلفات البلاستيكية في أحد الأوساط البيئية، وتكشف عن وجودها في الحياة الفطرية من طيور وحيوانات برية وبحرية.

فعلى سبيل المثال، تم اكتشاف أكثر من 250 قطعة بلاستيك صغيرة الحجم(الميكروبلاستيك) في بطن طائرٍ بحري واحد في 24 سبتمبر من العام الجاري، ويأتي هذا الاكتشاف المذهل من ضمن دراسة ميدانية قامت بها جامعتان يابانيتان هما هوكايدو وطوكيو في الفترة من 2008 إلى 20016 حول وجود المخلفات البلاستيكية في أجسام الطيور المائية التي تعيش في بعض بحار العالم، كما أكدت الدراسة على أن 43% من الطيور التهمت هذه المخلفات التي تطفو فوق سطح الماء، أو تكون عالقة في عمود الماء ظناً منها أنها كائنات فطرية غذائية شهية، وتكمن خطورة هذا الاكتشاف في نقطتين هامتين هما أولاً أن هذه الطيور قد تموت بسبب التهامها للمخلفات البلاستيكية، وثانياً أنها تُطعم صغارها التي تنتظر الغذاء بفارغ الصبر هذه المخلفات البلاستيكية، فتموت نتيجة لذلك وتندثر وينقرض جيل كامل من هذه الطيور.

والمثال الثاني يؤكد غزو هذه المخلفات الميكرو بلاستيكية لأهم عنصر في حياتنا وهو مياه الشرب التي لا يستغني عنها الإنسان كل ساعة من يومه، حيث أفادت الدراسة التي أُجريت في 27 سبتمبر من العام الحالي ونشرتها وزارة البيئية في تايوان على مياه الشرب المنزلية التي تخرج من الصنبور أو الحنفية أنها ملوثة بمواد بلاستيكية مثل البولي إيثلين والنايلون وغيرهما.

ولذلك تواترت الدراسات وأجمعت على وجود المخلفات البلاستيكية في كل الأوساط البيئية، والآن السؤال الخطير والمهم الذي يُثار هو: هل دخلت هذه المخلفات البلاستيكية الموجودة في كل الأوساط البيئية إلى جسم الإنسان؟ وهل وصلت إلى أعضائه المختلفة؟

لقد جاءت الإجابة الشافية عن هذا السؤال في الدراسة التي عُرضت في المؤتمر العالمي حول أمراض الجهاز الهضمي في 22 أكتوبر من العام الجاري في فِينا، حيث قامت بتحليل بُراز الإنسان من ثمان دول هي اليابان وإيطاليا وبريطانيا وفنلندا وهولندا وبولندا وروسيا والنمسا وأثبتت ولأول مرة بأن براز الإنسان يحتوي على المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر وأن هناك تسعة أنواع من المخلفات البلاستيكية التي تم اكتشافها في مخلفات الإنسان، ففي كل عشرة جرامات من البراز كان هناك 20 قطعة من الميكروبلاستيك التي يتراوح حجمها بين 50 إلى 500 ميكروميتر.

فهذه الدراسة تؤكد لنا فعلاً بأن المخلفات البلاستيكية التي نلقيها في البر والبحر دون أن نُلقي لها بالاً ترجع إلينا مرة ثانية فتؤثر علينا وعلى أمننا الصحي، فهذه الدراسة إذن تثبت لنا جمعياً من دون أدنى شك بأننا نُدخل هذه المخلفات البلاستيكية إلى أجسامنا وبالتحديد إلى الجهاز الهضمي عن طريق الوجبات الغذائية التي نتناولها يومياً، أو من خلال مياه الشرب ودون أن نعلم بوجودها، وتفيد الدراسة بأن المصادر الرئيسة لهذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة قد تكون العبوات البلاستيكية الخاصة بمياه الشرب أو منتجات الألبان، أو المواد الغذائية المغلفة بالبلاستيك، أو الأسماك الملوثة بهذه المخلفات.

فهذه الدراسة التي هي الأولى من نوعها وتؤكد على حقيقة دخول المخلفات البلاستيكية إلى أجسامنا ليست هي نهاية المطاف، وإنما هي البداية لمجال بحثي جديد وفريد من نوعه،كما تفتح الباب على مصراعيه للعلماء للإجابة عن أسئلة متعددة منها: كيفية دخول هذه المخلفات البلاستيكية إلى أجسامنا؟ وماذا يحدث لها عندما تدخل في الجسم؟ وما هي الأضرار الصحية التي تنجم عن وجودها في أعضاء أجسامنا؟ وفي أي الأعضاء من جسم الإنسان تستقر وتتراكم؟
والأيام القادمة كفيلة بالإجابة عن هذه التساؤلات، وسأُقدمها لكم في حينها.    

الأحد، 18 نوفمبر 2018

حَقِّي في الهواء النظيف


هل تعلم بأن 93% من أطفالنا وفلذات أكبادنا حول العالم يستنشقون هواءً ملوثاً ويتجرعون مواداً كيميائية سامة وخطرة كل ثانية من حياتهم؟

 

وهل تعلم بأن أكثر من 1.8بليون طفل دون سن الـ 15 عاماً يعانون من أمراضٍ مزمنة نتيجة لتعرضهم كل ساعة للهواء الملوث في داخل المنزل وخارجه؟

 

وهل تعلم بأن قرابة 600 ألف طفل قضوا نحبهم في عام 2017بسبب أمراض الجهاز التنفسي الناجمة عن تلوث وتدهور نوعية الهواء الجوي؟

 

وهل تعلم بأن تلوث الهواء يضر مباشرة بأعضاء جسم الإنسان كالجهاز التنفسي والقلب والكلية وغيرها، وأدى إلى الموت المبكر لقرابة 7 ملايين إنسان يعيش على وجه الأرض في عام 2017؟

 

هذه الحقائق الصاعقة والصادمة جاءت في تقرير المنظمة الدولية الرسمية المعنية بصحة الإنسان على وجه الأرض، وهي منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة والتي نشرت تقريراً مخيفاً في 30 أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان: "تلوث الهواء وصحة الطفل" استعداداً لعرضه على المؤتمر الدولي الأول للمنظمة حول "تلوث الهواء والصحة"، والذي عقد في جنيف في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر من العام الجاري.

 

وهذا التقرير يؤكد بأن تداعيات تلوث الهواء على الصحة العامة تحولت إلى حقيقة لا ريب فيها ولا يمكن أن يشك في واقعيتها أحد، فقد أجمع العلماء في كل أنحاء العالم بأن تلوث الهواء الآن يعتبر من أهم أسباب موت الإنسان وقتله في سنٍ مبكرة، وبخاصة بالنسبة للأطفال صغار السن.

 

فهذه الحقيقة يجب أن تُلزم الدول والحكومات على القضاء على مصادر تلوث الهواء كلياً، أو في الأقل أن تعمل بجدية وإصرار مستمرين على خفض وتقليل حجم ونوعية الملوثات التي تنطلق من مصادر التلوث وتحافظ على نظافة الهواء للمواطنين، فمن "حق" المواطن إذن أن يعيش في بيئةٍ سليمة وصحية، ومن "حق" المواطن أن يستنشق هواءً عليلاً صافياً يعزز من أمنه الصحي، ومن "حق" المواطن أن يشرب ماءً عذباً زلالاً يقيه من الأمراض والأسقام، ومن "حق" المواطن أن تُوفر له الدولة الحياة "البيئية" الكريمة والصحية المتمثلة في الهواء النقي، والماء النظيف، والتربة السليمة، والبحر المعطاء.

 

ولذلك قام المجتمع الدولي منذ عقود بتعريف حقوق الإنسان وواجبات الدول والحكومات تجاه المواطنين، حيث قامت الأمم المتحدة بوضع قوانين خاصة متعلقة بحقوق الإنسان منذ الأربعينيات من القرن المنصرم مثل ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وحدَّدت الواجبات والالتزامات التي تقع على عاتق الحكومات وتهدف إلى حماية وتعزيز الحريّات والحقوق الأساسيّة للأفراد والجماعات، ومنها الحقوق المدنية، والثقافية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية.

 

فحقوق الإنسان، حسب الإعلان العالمي، تشتمل على عدة أمور منها الحق في التعليم، والملكية الخاصة، والراحة والترفيه، وحق الإنسان في مستوى معيشي ملائم، واليوم المستجدات التي طرأت على المجتمع الدولي وعلى حياتنا، وبالتحديد تلك المتعلقة بحماية مكونات البيئة من عشرات الآلاف من الملوثات التي تنبعث من مصادر لا تعد ولا تحصى، وبخاصة تلوث الهواء، تلزمنا إلى توسعة دائرة حقوق الإنسان عامة، أو حقوق المواطن في بلده.

 

فالتلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص يؤثر سلباً على كل الحقوق التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فتلوث الهواء يضر بالتعليم ويخفض من قدرة الإنسان على التعلم وتلقي المعرفة وتطوير إمكاناته الذهنية، حيث أكدت دراسة دولية نُشرت في المجلة الأمريكية "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" في 30 أغسطس من العام الجاري، واستغرق إنجازها أربع سنوات على أن تلوث الهواء له تداعيات مزمنة تهدد القدرات العقلية المعرفية والإدراكية والمهارات اللغوية والرياضية عند الإنسان، وتلوث الهواء، حسب الإجماع الدولي، يؤثر على راحة الإنسان البدنية الجسمية والعقلية والنفسية ومستواه المعيشي من خلال الإصابة بالأمراض الحادة والمزمنة ويؤدي به إلى الموت المبكر.

 

فتلوث الهواء إذن ينعكس على حقوق الإنسان الثابتة والواردة في إعلان الأمم المتحدة، فمن الأولى أن يكون حق الإنسان في الهواء الصحي والنظيف في مقدمة قائمة حقوق الإنسان، وأن يحظى بالأولوية على مستوى المجتمع الدولي وعلى مستوى الدول والحكومات الوطنية فتقوم على توفير الهواء الآمن صحياً للمواطنين حماية وحفاظاً على حقوق الإنسان الأخرى، فالقاعدة الشرعية تؤكد أنه ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

    

الجمعة، 16 نوفمبر 2018

انتخاباتْ من غير مخلفات


أتمنى في الانتخابات القادمة أن نرفع حكومة وشعباً شعاراً بيئياً وصحياً واقتصادياً هو "انتخابات من غير مخلفات"، أي أننا نتجنب وضع الإعلانات الدعائية للمرشحين للانتخابات النيابية والبلدية على الشوارع العامة وفي الطرقات والأحياء، وهذه الدعوة مستندة على عدة أسس ومبادئ تنبع من سياسات الحكومة واستراتيجياتها المعلنة.

فالسياسة الحكومية الأولى هي تبني وتنفيذ مبادئ التنمية المستدامة التي تعتمد على أن يكون القرار الحكومي متماشياً مع أهداف التنمية المستدامة التي أقرها كل دول العالم في قمة الأرض التي عقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في يونيو عام 1992، والتي تنُّص على أن أي قرارٍ حكومي أو غير حكومي يجب أن يأخذ في الاعتبار كافة الجوانب التنموية وفي جميع القطاعات، وأن يتوافق هذا القرار مع الاعتبارات والأبعاد الأخرى غير البعد الاقتصادي الذي عادة ما يؤخذ في الحسبان.

فالقرار الحكومي يجب أن يصب في مصلحة التنمية الاقتصادية جنباً إلى جنب مع المصالح الأخرى، كالتنمية الاجتماعية والبيئية والسياسية والأمنية، وأن لا يطغى أحد الجوانب على الجوانب الأخرى، فتخرج القرارات عندئذٍ متوازنة ومعتدلة وتتوافق مع جميع المصالح الشعبية، وسيُكتب لها الاستدامة وطول العُمر.

فالقرار المتعلق بالسماح لوضع اللوحات الإعلانية أثناء الانتخابات العامة لا يتوافق مع الجانب البيئي الذي هو أحد أركان التنمية المستدامة الرئيسة، ولذلك فهذا القرار غير مستدام بيئياً ويعمل ضد أهداف تحقيق التنمية المستدامة التي تدعو الحكومة إلى تنفيذها، فهذه اللوحات تتحول بعد موسم الانتخابات إلى مخلفات صلبة يتحمل عبؤها ومسؤولية التخلص منها الجهات الحكومية، مما يشكل عبئاً وثقلاً إضافياً على الأجهزة الحكومية المعنية، وبخاصة إذا علمنا بأننا في البحرين نعاني أصلاً من أزمة بيئية وصحية خانقة تتمثل في الارتفاع المطرد والمشهود لأحجام وكميات المخلفات التي تنتج في البلاد، فهي بلغت مستويات مرتفعة جداً مقارنة بمساحة البحرين، وتقدر بأكثر من 1.5 مليون طن سنوياً، ومعظم هذه المخلفات إن لم يكن كلها يكون مصيرها إلى الدفن في مواقع ردم المخلفات الصلبة جنوب البلاد.

وقد قمتُ بتحليلٍ سريع وبسيط لهذه المخلفات من حيث نوعها وحجمها ووزنها، فهي تتكون بشكلٍ رئيس من الأسمنت والخرسانة المسلحة، والمواد البلاستيك، والورق، والأخشاب، والحديد، وقدرتُ كمياتها الإجمالية بنحو 860 طناً من المخلفات الصلبة.

والسياسة الحكومية الثانية هي التوجه نحو الحكومة الإلكترونية والتي حسب فهمي فإن أحد أهدافها هو التخلص من المعاملات والاستخدامات الورقية اليومية، إضافة إلى تسهيل وتسريع إنجاز الأعمال الحكومية والمعاملات الرسمية للوزارات والهيئات والمجالس الحكومية، وبالتالي خفض إنتاج المخلفات الورقية الصلبة وتقليل العبء على مواقع دفن المخلفات، ولذلك فإن قرار منع اللوحات الإعلانية جميعها يصب مباشرة في أهداف الحكومة الإلكترونية.

والنقطة الثالثة التي تحفزني وتشجعني إلى الدعوة لمنع اللوحات الإعلانية في الطرقات هي الجانب المروري، حيث إن هذه اللوحات تلهي السائق عن الطريق وتشغله عن التركيز على السياقة للاطلاع والقراءة لما تحتويها ولو لثوانٍ معدودة، فهذه الثوان البسيطة والقصيرة كافية لوقوع الحوادث المرورية المؤلمة والقاتلة، كما إن هناك بعض اللوحات الإعلانية التي تُعيق الرؤية، وتقلل من تركيز السائق عند السياقة.

والنقطة الرابعة والأخيرة فهي الناحية الجمالية لطرقاتنا وشوارعنا وأحيائنا، فهذه اللوحات تشوه المنظر العام للبحرين، وتعكر جمالها وحسنها وتفسد مظهرها، فكل واحدة من هذه اللوحات توضع بطريقة  عشوائية مختلفة عن الأخرى، فلا تناسق بينهما، وتجدها في كل مكان، حتى على الدوارات، وهذه المشكلة الجمالية تتفاقم وتصبح مشهودة للعيان عند هطول الأمطار وهبوب الرياح حيث تسقط هذه اللوحات على الأرض، أو تنحني راكعة بعض الوقت قبل سقوطها كلياً، وبعضها يتناثر وينتشر في الشوارع والأحياء، وتبقى على هذه الحالة المؤذية للنظر فترة طويلة من الزمن حتى ينتهي موسم الانتخابات، وبعضها يظل فترة أطول من الزمن وبالتحديد بالنسبة للذين لم يحالفهم الحظ في الفوز.

ويمكن استبدال هذه الوسيلة الإعلانية القديمة التي أكل عليها الدهر وشرب بالوسائل الحديثة التي تصل بكل سهولة ويسر إلى كافة أفراد الشعب بدون استثناء وهم في منازلهم، أو في مكاتبهم، أو حتى عندما يعانون من مرض في المستشفيات، أو في سفر خارج البحرين، وهذه الوسائل جميعها متوافرة لدى كل مواطن، فقيراً كان أو غنياً، صغيراً كان أو كبيراً، شاباً أو شيخاً هرماً، متعلماً كان ومثقفاً أم أُمياً جاهلاً، وهي وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي المجانية والتي لا تكلف شيئاً كالتوتر، والانسجام، والفيس بوك، والسناب شات، وغيرها من الوسائل الحديثة الحضارية التي تظهر علينا في كل يوم.

ولذلك علينا من الآن التفكير في البدائل الراقية الجديدة الموجودة حالياً، إضافة إلى البدائل الأخرى التي حتماً ستنكشف لنا في السنوات القادمة، فعلينا أن نتقدم في آلياتنا ووسائلنا الحكومية التنفيذية لا أن نتأخر.