الأحد، 4 نوفمبر 2018

التلوث يُطاردك وأنت في رَحِم أمك!


أكتبُ دائماً وأؤكد بأن الملوثات اليوم اخترقت بعمق وبقوة كل عناصر ومكونات بيئتنا الحية وغير الحية، بل وأصبحت جزءاً أصيلاً لا يتجزأ من كل هذه المكونات المرئية التي يمكن مشاهدتها ومراقبتها بأم أعيننا يومياً في البر والبحر والجو وفي أعالي السماء وفي الفضاء الفسيح، أو الملوثات غير المرئية التي لا تُرى بالعين المجردة وبأحاسيسنا البشرية المحدودة ولكن يمكن الكشف عنها بأجهزتنا المخبرية الدقيقة، فلم يبق في الواقع الميداني على ظهر الأرض بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ إلا ودخله التلوث.

 

فالتلوث دخل في منازلنا وفي عقر دارنا، فهو موجود بين أيدينا، ومن أمامنا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا ومن تحتنا، ولا نتمكن من الهروب من أضراره وتداعياته المهلكة حتى ولو كُنا في بروجٍ مشيدة مغلقة في أعالي السماء، أو تحت البحر وفي أعماقه السحيقة المظلمة، فالتلوث يُدركنا ويطاردنا أينما كنا ولو كان ذلك في رحم أمهاتنا!

 

فما أُحذر منه اليوم حول ولوج الملوثات في كل صغيرةٍ وكبيرة من أعضاء أجسامنا، ودخولها في كل بيئة مهما بَعدت عن البشر ومهما كانت نائية، ليس من باب المبالغة، أو التهويل والترهيب من ضرر الملوثات وقدرتها القوية على الانتقال والانتشار بسرعة وكفاءة عالية جداً، وإنما ينبع هذه التنبيه والتحذير من واقع الأبحاث والدراسات العلمية التي تُجرى في دول العالم وأَطلعُ عليها يومياً وأُتابع تطوراتها وآخر أخبارها وما توصلت إليها من حديثٍ وجديد، وما تُقدمها من معلومات موثقة وأكيدة حول مصير الملوثات وتحركاتها في الأوساط البيئية المتعددة وأعضاء جسم الإنسان.

 

فقد أَجرى فريق متخصص من علماء بريطانيا دراسة شاملة على النساء الحوامل في بريطانيا، وبالتحديد في العاصمة لندن، وأُلقيت نتائج واستنتاجات هذه الدراسة في المؤتمر الدولي الذي نظمته الجمعية الأوروبية للجهاز التنفسي في الفترة من 15 إلى 19 سبتمبر في باريس، حيث قامت الدراسة بأخذ عينات من مشيمة المرأة بعد ولادتها، وأجرت تحاليل مخبرية شاملة على 3500 عينة من خلايا المشيمة باستخدام أجهزة تكبير عالية الجودة والدقة وهي "الميكروسكوب الإلكتروني".

وقد كانت نتائج الدراسة مخيفة ومرعبة ومفاجأة غير سارة للباحثين وللمجتمع البشري برمته، فقد أكدت ولأول مرة على اكتشاف الجسيمات الدقيقة(الدخان)، أو جسيمات الكربون الأسود في المشيمة المتصلة برحم المرأة الحامل والجنين، ولهذا الاكتشاف المثير والخطير دلالات عصيبة ومؤشرات تبين التهديدات الواقعية التي تمثلها الملوثات التي تنطلق إلى البيئة، وبخاصة الهواء الجوي على صحة الأم والجنين على حدٍ سواء، إضافة إلى التهديدات الخطيرة التي تشكلها على الصحة العامة وصحة الأجيال القادمة، فوجود هذه الملوث، أوملوثات أخرى في رحم الأم يؤكد الضرر المباشر الذي يقع يومياً على الأم ونمو الجنين بسبب التعرض للتلوث عامة، كما ينعكس سلباً على استدامة حياة الإنسان على سطح الأرض.

وهذا الاكتشاف العلمي الجديد يعني أن الإنسان إذا تعرض للملوثات من أي مصدرٍ كان، فإن هذه الملوثات لا تَبْقى عادة في مكانٍ واحد، أو عضو واحد في جسم الإنسان، وإنما تنتقل في رحلتها في جسم الإنسان من موقعٍ إلى آخر حتى تستقر في نهاية المطاف وتبدأ في التراكم والتضخم في عضوٍ محدد في الجسم حسب طريق دخول الملوثات إلى جسم الإنسان، سواء من الجلد أو الفم أو الأنف.

فعلى سبيل المثال إذا دخل الملوث إلى جسم الإنسان عن طريق الأنف فإنه يأخذ عدة مسارات وطرق حسب نوعية الملوثات وحجمها وطبيعتها وخصائصها الفيزيائية والكيميائية، فمنها ما يبقى في الجزء العلوي من الجهاز التنفسي، ومنها ما يرحل إلى أعماق الجهاز التنفسي في الرئتين وفي الحويصلات الهوائية فيمكث هناك ويزداد تركيزه مع الزمن، ومنها ما يتحرك سريعاً من الجهاز التنفسي أو الرئتين إلى الدورة الدموية ومجرى الدم ثم ينتقل إلى كافة أعضاء الجسم الأخرى، كخلايا القلب أو المخ أو العظام أو الشعر، ومنها ما ينتقل في حالة المرأة الحامل إلى المشيمة خلال الحبل السري ثم إلى الجنين، حيث يؤثر هناك مع الوقت ومع مرور أشهر الحمل على نمو الجنين وتطوره وحالته الصحية، وينكشف هذا التأثير المدمر على هيئة عدة مظاهر وحالات مرضية حادة أو مزمنة، فمنها ما يؤدي إلى انخفاض وزن الجنين والطفل المولود، أو أن ينجم عنه الولادة المبكرة، أو الموت المبكر، أو الإجهاض في بعض الحالات، أو مشكلات كبيرة في الجهاز التنفسي والقلب يصاب بها الجنين بعد ولادته.

ولذلك أستطيع أن أُجزم وبثقةٍ مُطلقة واقتناع شديد واستناداً إلى الإجماع العلمي الدولي فأكتب بأن الملوثات تلاحقك في كل مكان أينما كنت، وتطاردك في كل مراحل حياتك ونموك، من "المهد إلى اللحد"، منذ أن تكون نُطْفة في رحم أمك ثم عَلَقة فمُضْغطة، وبعد أن تخرج طفلاً إلى هذه الحياة الدنيا فتتعرض لهذه الملوثات من مصادر لا تُعد ولا تحصى إلى أن تُرد إلى أرذل العُمر، وأخيراً تكون معك إلى أن تُنقل إلى مثواك الأخير.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق