الاثنين، 26 نوفمبر 2018

ترقبوا الفيلم القادم لهوليود


عندما زرتُ اليابان في التسعينيات من القرن المنصرم لم أكن أبحث عن المرافق السياحية التقليدية التي يبحث عنها عامة الناس ويزورها أغلب السيّاح من متنزهات وحدائق الألعاب والمواقع التراثية والمجمعات والأسواق، ولكن بوصلتي كانت متجهة إلى موقعٍ غريب جداً لا يفكر فيه الكثير من السياح ولا يلقون له بالاً، بل هو موقع فريد من نوعه وحديثْ على المجتمع الدولي برمته، فقد كان اهتمامي منصباً وبشوقٍ شديد نحو التعرف عن كثب وعن قرب على هذا المرفق الذي دخل التاريخ الياباني خاصة وصفحات التاريخ الدولي عامة، ومازالت ذكراه خالدة وحية أمام الناس، وتداعياته قائمة في المجتمع الياباني، حتى إنه تحول إلى جرحٍ عميق مفتوح لا يمكن أن يلتئم مع الزمن وينتقل من جيلٍ إلى آخر.

 

هذا الموقع الذي قُمتم بزيارته يُطلق عليه "المتحف البلدي لمرض ميناماتا"حيث شَهدتْ المدينة كارثة بيئية صحية عصيبة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ أن نزل على المجتمع الياباني، وبالتحديد في خليج ميناماتا في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، فمازالت آلامها ومعاناتها ماثلة أمام الكثير من الناس، ومازالت هناك أعداد من اليابانيين الذين يقاسون من ويلاتها بعد مرور أكثر من سبعين عاماً على ظهور أول مشهدٍ لها.

 

فقد غُرست بذرة خبيثة في سواحل خليج ميناماتا تمثلت في ممارسة بسيطةٍ جداً وبريئة عندما بدأ أحد المصانع بصرف مخلفاته السائلة في المناطق الساحلية، ولكن هذه المخلفات كانت تحتوي على هذه البذرة الخبيثة التي إسمها "الزئبق"، وهو عنصر ثابت ومستقر وله القدرة على التراكم والتضخم عند دخوله إلى البيئة المائية، فتحول مع الزمن إلى شجرة خبيثة ضخمة ومتعددة الفروع، فآتت أكلها ثمراً خبيثاً وساماً وقاتلاً، فانتقل مع الزمن هذا الثمر الحنظل المرْ إلى النباتات البحرية العالقة ثم إلى الكائنات الحيوانية الصغيرة، ومع مرور الأيام والسنون أخذ في الانتشار والتحرك إلى أعلى سلم الهرم الغذائي من أسماك كبيرة وطيور مائية تقتات على الأسماك، وأخيراً إنتهى المطاف بهذا السم المهلك للحرث والنسل بالإنسان، وعندها وقعت الطامة الكبرى ونزل الكَرْب العظيم فجأة ودون سابق إنذار، وبدأ سكان مدينة ميناماتا الواقعة على خليج ميناماتا يشهدون مظاهر مرعبة وغريبة لم يشهدوها من قبل في مدينتهم المستقرة الآمنة، فقِططْ الحي والحيوانات الأخرى التي تأكل الأسماك أخذت في القيام بحركات "هستيرية" والسقوط صرعى ميتة أمام الناس دون سببٍ معروف، ثم انتقل هذا المشهد العقيم إلى الناس، فأصاب سكان المدينة بوعكات حادة شديدة وآلام في المفاصل، وتدمير شامل للجهاز العصبي، وشلل في الأيدي والأطراف، وعدم القدرة على التحكم في أعضاء الجسم، وفقدان البصر، ثم الموت المفاجئ، فوقف الناس مكتوفي الأيدي حائرين لا يعلمون ما سيفعلون أمام هذه الظاهرة التي يرونها أمامهم، وكأن قول ربنا ينطبق عليهم: "يوم تَرونها تذهل كل مُرضعة عما أرضعتْ وتضع كل ذات حَمْل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى".

 

فهذا المشهد الغريب والرهيب الذي رأوه يقع على سكان مدينتهم جعلهم كالسُكارى من شدة هول المنظر، بل وإن أخبار هذه المدينة انتقلت إلى باقي مدن اليابان وبلغت دول أخرى، حتى أن وسائل الإعلام من كل أنحاء العالم شدت الرحال وبدأوا يتوافدون لنقل ونشر ما وقع لهذه المدينة.

 

واليوم وبعد مرور عقودٍ طويلة من الزمن، وبعد أن اتضحت كل خيوط هذا اللغز الغريب والكارثة العامة التي أصابت الجميع جسدياً ونفسياً وعقلياً وخلَّفتْ الآلاف من الضحايا البشرية حتى يومنا هذا، وبعد أن تعرف المجتمع الدولي عن كثب على عمق التأثيرات العظيمة التي تركت وحفرت بصماتها عميقة طوال هذه السنوات على الشعب الياباني وشعوب العالم عامة، قرر مصنع الأفلام في هوليود إنتاج فيلمٍ عن هذا الواقعة الكبيرة أسمه "ميناماتا"، ويشارك فيه كبار الممثلين وعلى رأسهم الممثل الأمريكي المشهور جوني دِب، حسب ما نُشر في مجلة هوليود ريبورتر(Hollywood Reporter) في العدد الصادر في23 أكتوبر من العام الجاري.

 

وسيلعب جوني دب دور المصور الفوتوغرافي الراحل يوجين(Eugene Smith) سميث والمتخصص في تصوير الحروب، حيث قام هذا المصور لسنواتٍ طويلة بنقل معاناة البشر الذين سقطوا ضحايا لجرائم ارتكبتها أيضاً أيدي البشر أنفسهم، وأخذ هذا المصور على عاتقه مهمة توثيق ونشر آلام المصابين والأوجاع التي أصابتهم هُمْ وأسرهم من خلال عدسات جهازه اليدوي إلى كافة أرجاء المعمورة، وأستمر على هذا الحال حتى اشتهرت لقطاته الفوتغرافية الفنية وتوزعت وإنتشرت عند الناس في كل دول العالم، ونجح هذا المصور في تعزيز وعي الحكومات والشعوب بأهمية الاهتمام بمكونات البيئة وعناصرها الحية وغير الحية وحمايتها من فساد الملوثات التي يطلقها الإنسان، وبخاصة بالنسبة للزئبق، وتجسد هذا النجاح في موافقة دول العالم بالإجماع على اتفاقية خاصة تحت مظلة الأمم المتحدة للتعامل مع هذا العنصر الخبيث، وأُطلق عليها باتفاقية ميناماتا. 

               

وختاماً إذا كان هذا الملوث البسيط وهو الزئبق قد دوخ اليابان ودول العالم أجمع لأكثر من ثمانين عاماً، وأنزل على الإنسان كوارث خطيرة أودت بحياة عشرات الآلاف، فماذا عن آلاف الملوثات السامة والخطرة والمشعة التي تدخل بيئتنا في كل ثانية منذ أكثر من قرن؟ 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق