الخميس، 29 ديسمبر 2022

هل سنضطر مستقبلاً إلى السماح لبيع سجائر الحشيش؟


مع الانتخابات النصفية التي تُجرى عادة في نوفمبر كل سنتين لمجلسي الشيوخ والنواب، إضافة إلى المناصب السياسية والإدارية على مستوى الولايات، تُجرى في الوقت نفسه استفتاءات شعبية على مستوى بعض الولايات الأمريكية على القضايا الحيوية الحساسة بالنسبة للشعب الأمريكي في كل ولاية على حدة.

 

ومن هذه الاستفتاءات قضية تحليل الحشيش، أو المعروف في أمريكا بالماريوانا ونبتة القنب(cannabis)، واستطلاع رأي المواطن الأمريكي في الولاية خلال عملية التصويت للسماح لاستخدام الحشيش، إما لأغراض طبية وأغراض الدواء والعلاج، وإما لأغراض شخصية للترفيه والترويح عن النفس.

 

ففي التصويت الذي أُجري في التاسع من نوفمبر 2022 في خمس ولايات هي ميرلاند وميسوري وأركنساس ونورث ديكوتا وساوث ديكوتا حول السماح لتعاطي الحشيش للترفيه عن النفس ولأغراض شخصية، وافقت ولايتان هما ميرلاند وميسوري على السماح لاستخدام الحشيش لأغراض شخصية، وبالتالي دخلت هاتان الولايتان في القائمة السوداء التي حللت استخدام الحشيش للترفيه عن النفس، فأصبح مجموع الولايات حتى الآن 21 ولاية أمريكية، إضافة إلى العاصمة واشنطن.    

 

ولذلك نشاهد بأن تحليل استعمال الحشيش للأغراض الشخصية والترفيه عن النفس على مستوى الولايات الأمريكية كل على حدة في ارتفاع ملحوظ في كل سنة، وهذا السماح لاستخدام الحشيش لم يأت بين عشية أو ضحاها، ولم يقع في يوم واحد وبصورة مفاجئة، وإنما جاء هذا السماح بشكلٍ تدريجي بطيء، وعلى مراحل كثيرة استغرقت أكثر من خمسين عاماً من العمل الدؤوب والجهد الشيطاني المستمر، والذي مازال مستمراً ولن يتوقف أبداً لعددٍ كبير من المنتفعين من تحليل الحشيش، وفي مقدمة القائمة شركات التبغ والسجائر التي تبحث عن بديل لتعويض خسائرها من بيع السجائر التقليدية المقيدة.

 

فالمرحلة الأولى، والخطوة الأولى للسماح للحشيش بدأت بفك الحزام قليلاً عن الحشيش من ناحية العقوبات والتجريم، حيث تجرأتْ أول ولاية أمريكية هي ولاية أوريجن في عام 1973 بعدم تجريم كل من يُمسَك وبحيازته كميات بسيطة من الحشيش لأغراضه الشخصية، فلا يدخل السجن، ولا يدفع أية غرامة مالية لحيازته لهذه الكمية الفردية للحشيش. وبعد أن فُتح باب عدم تجريم حيازة الحشيش، تشجعت الولايات الأخرى للدخول في هذا الباب فاتخذت هذا الموقف نفسه، وتبنت هذه السياسة الأولى للتعامل مع قضية الحشيش.

 

فقضية منع تجريم حيازة الحشيش كانت المدخل الشيطاني لتحليل الحشيش على كافة المستويات، والمفتاح الذي فتح كل الأبواب شبه المغلقة، حتى بلغت القضية إلى السماح لجميع الاستخدامات بدءاً بالاستعمالات الطبية والعلاجية في عام 1996 في ولاية كاليفورنيا، وأخيراً السماح لحيازة الحشيش واستخدامه بصفة شخصية وللترفيه والترويح عن النفس. فشهر نوفمبر من عام 2012 كان فاتحة الاستخدام الشخصي، حيث صوَّت سكان ولايتي كولورادوا وواشنطن لصالح حيازة الحشيش وتعاطيه بصفة شخصية، وأخيراً كان في نوفمبر 2022، حيث وافق سكان ولايتي ميريلند وميسوري على هذا النوع من الاستخدام. وأما المحصلة الإجمالية الحالية للقائمة السوداء التي دخلت في نفق استخدامات الحشيش فهي 33 ولاية للاستعمال الطبي، و 21 ولاية إضافة إلى العاصمة واشنطن قامت بتحليل الحشيش للاستخدام الشخصي، وأعضاء هذه القائمة في ازدياد كل عام، حتى أن هذا المد التوسعي سيعم يوماً ما كل ولايات أمريكا، بل وفي تقديري سيغطي ويكتسح كل دول العالم.

 

فعلى المستوى الاتحادي فإن تحليل الحشيش يمشي الآن في المراحل نفسها التي مرَّ بها على مستوى الولايات. فمن المعلوم حالياً بأن الحشيش يقع على المستوى الاتحادي ضمن الجدول رقم (1) للمواد المحظورة والمقيد استخدامها والتي ليست لها فوائد طبية وعلاجية، مثل الهيروين والـ(LSD) ويمكن أن يساء استخدامه، استناداً إلى قانون عام 1970 حول "المواد المقيد استخدامها" (Controlled Substances Act). ولكن الرئيس بايدن بدأ بالخطوة الأولى والمرحلة الأولى من التعامل مع الحشيش، حيث أصدر إعلاناً في السادس من أكتوبر 2022 تحت عنوان: "الإعلان عن العفو عن الجرائم البسيطة المتعلقة بحيازة الحشيش". وهذا الإعلان يتكون من نقطتين هامتين، الأولى هي العفو على المستوى الاتحادي عن المجرمين الذين أُدينوا بتهم حيازة المخدرات بكميات قليلة، كما دعا بايدن حكام الولايات إلى اتخاذ القرار نفسه للإفراج عن مسجوني حيازة الحشيش على مستوى كل ولاية، وأما النقطة الثانية فهي إعلانه بأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة لإجراء مراجعة شاملة، وبالتحديد حول وضع الحشيش في الجدول الأول وتصنيفه ضمن المواد المحظورة والتي لا فائدة منها.

 

ومما يشجع الرئيس بايدن على اتخاذ مثل هذه الإجراءات هو أولاً التشريع الذي أصدره مجلس النوب في الأول من أبريل 2022 بعدم تجريم حيازة الحشيش على المستوى الاتحادي، وثانياً الارتفاع المطرد مع الزمن في نسبة المواطنين الأمريكيين الذين يرغبون في السماح لاستخدام الحشيش. فاستطلاعات الرأي التي قامت بها عدة جهات مختصة مثل(Pew Research Center) و (Gallup poll) أفادت بأن 68% من الأمريكيين يريدون السماح لاستخدام الحشيش، مقارنة بنسبة 12% عام 1969، ونسبة 31% عام 2000، ثم 50% عام 2013. كما أفادت الإحصاءات بأن 16% من الشعب الأمريكي يدخن الحشيش ومعظمهم من الشباب من 18 إلى 34، مقارنة بنسبة 7% في عام 2013. كذلك أشارت الاستطلاعات في 30 أغسطس 2022 بأن 48% من الشعب أفادوا بأنهم جربوا تدخين الحشيش، في حين أن النسبة كانت لمن جرب تدخين الحشيش 4% فقط في 1969، ثم 24% في 1977، و 33 في 1985، وارتفعت إلى 40% في 2015. 

 

ولذلك في تقديري فإن قضية تحليل الحشيش على المستوى الفيدرالي الأمريكي هو مسألة وقت، ووقت قصير جداً، حيث ستقوم الولايات المتحدة الأمريكية بعدها بتوزيع وتصدير هذا المنتج الخبيث إلى كل دول العالم، كما هي تصدر السجائر التقليدية والسجائر الإلكترونية، وستستخدم نفوذها السياسي لتأمين هذا التصدير، وستفرض على الدول قبول هذا المنتج الجديد.

 

والسؤال المشروع الذي أطرحه الآن: ماذا سيكون موقفنا في البحرين خاصة، وموقف دول مجلس التعاون عامة من استيراد منتجات الحشيش، مثل سجائر الحشيش، والمواد الغذائية التي تحتوي على الحشيش، وخاصة أن للولايات المتحدة الأمريكية علاقات تجارية قوية واستراتيجية مع دول مجلس التعاون، مثل اتفاقية التجارة الحرة مع البحرين، والتي تُلزم كل دولة موقعة على قبول منتجات الدولة الثانية دون تحفظ؟

 

الخميس، 22 ديسمبر 2022

هل نحن في مأمن من التلوث عندما نكونُ في عُقر دارنا؟


يظن الكثير من الناس أنهم إذا دخلوا منازلهم وأغلقوا على أنفسهم الأبواب والنوافذ فإنهم قد أمنوا من شر الملوثات، وأنهم قد أصبحوا في عزلةٍ تامة وفي بيئة نظيفة وسليمة خالية من أية شوائب وسموم.

 

فالنظرة السائدة عند عامة الناس والانطباع الخاطئ هو أن مصادر التلوث موجودة فقط في خارج المنزل، وأن البيئة المنزلية أو البيئات المغلقة بشكلٍ عام لا توجد بها أية مصادر تُعكر من صفو هوائها، وتفسد نقاوتها، وتؤثر على نوعيتها وجودتها.

 

ولذلك تطورت فكرة غير صحيحة مع الوقت بأن الأمراض التي نُصاب بها تنزل علينا في أغلب الحالات من خارج المنزل عند التعرض للملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصي من سيارات، ومصانع، ومحطات توليد الكهرباء، ولكن بعد أن اتجهت أنظار العلماء نحو البيئات الداخلية، وبدأوا في إجراء الدراسات على مصادر التلوث الكيميائي والحيوي في هذه البيئات، تأكد لهم بأننا لسنا بمنأى عن التلوث، ولسنا بعيدين عن التعرض لشتى أنواع الملوثات من الداخل، والتي بعضها موجود في البيئات الخارجية. كما اكتشف العلماء بأن هناك أمراضاً خاصة يمكن أن نسقط فيها بسبب تدهور نوعية البيئة الداخلية وتشبعها بمصادر التلوث المختلفة، أي أن هذه الأمراض متعلقة مباشرة بالبيئة الداخلية وليست لها علاقة مباشرة بمصادر التلوث في البيئات الخارجية.

 

ومن هذه الأمراض المرتبطة بتدهور نوعية البيئة الداخلية، والتي اعترفت بها منظمة الصحة العالمية كمرض مستقل في حد ذاته هو مرض المباني المغلقة(Sick Building Syndrome). وهذا المرض العصري يصيب سكان العمارات والمباني المغلقة والمُحكمة، فلا توجد تهوية مباشرة وقوية، سواء أكانت طبيعية أو ميكانيكية تُجدد وتغير من الهواء الجوي الموجود في هذه البيئة الداخلية، فالنوافذ لا يمكن فتحها والأبواب مغلقة من أجل توفير وترشيد استهلاك الطاقة، وفي الوقت نفسه هناك مصادر داخلية تنبعث منها الملوثات بدرجة منخفضة، مثل دهان الجدران، والأثاث، والسجاد، والأجهزة المكتبية، والرطوبة العالية التي تسبب في نمو العفن والفطريات على الجدران والأسقف. ولكن كل هذه المظاهر بسبب عدم تجدد الهواء تتراكم يوماً بعد يوم ويزيد تركيزها في هواء المبنى حتى تُعرض الإنسان للضرر الصحي المزمن، ويصاب الناس في هذه المباني بأعراض متعددة ولكنها متجانسة، منها الصداع، والحساسية، وضيق التنفس.

 

فهذه الحالة المرضية المزمنة الخاصة بالبيئات الداخلية، وحالات أخرى مشابهة، وجهت أنظار العلماء منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى دراسة مصادر التلوث، والتعرف على تركيز الملوثات في هذه البيئات وأنواعها ومصيرها عندما تنبعث داخل المنزل أو المبنى، إضافة إلى التأثير الصحي لوجود هذه الملوثات على الإنسان، وكيفية منعه والتخلص كلياً من تداعياته.

 

وقد اكتشف العلماء بأن هذه القضية البيئية الصحية معقدة جداً ومتشابكة مع عوامل ومتغيرات كثيرة تختلف من حقبة زمنية إلى أخرى، وتختلف من منزلٍ إلى آخر، ومن مدينة إلى مدينة أخرى، كما تختلف من بلد إلى آخر اعتماداً على عادات وسلوكيات الناس ووضعهم المادي، إضافة إلى المواد والأجهزة ونوع الوقود الذي يستخدمه الناس في منازلهم.

 

أما بالنسبة للعامل التاريخي، فملوثات الأمس تختلف عن ملوثات اليوم، فهناك ملوثات تقليدية قديمة وهناك ملوثات جديدة تنكشف بين الحين والآخر. فعلى سبيل المثال، في مطلع القرن الماضي كان الناس يستخدمون الدهان العضوي والذي يحتوي على الرصاص لصباغة جدران منازلهم، فنجم عن هذا ارتفاع خطير في تركيز الملوثات العضوية المتطايرة السامة في هواء المنزل، إضافة إلى تسمم هواء وأرضية المنزل بعنصر الرصاص السام، فانعكس فساد الهواء وتدهور نوعية الغبار المنزلي إلى ارتفاع تركيز الرصاص في دماء سكان هذه المنازل، وبخاصة الأطفال، ونزلت عليهم الأمراض العضوية والنفسية والسلوكية المتعلقة بتراكم الرصاص في أعضاء جسم الأطفال.

 

أما في العقود القليلة الماضية ومع انتشار استخدام المنتجات البلاستيكية في جميع المجالات، وبخاصة المنتجات البلاستيكية المنزلية من أقمشة البولي إستر البلاستيكية، أو أرضية الفاينل، أو الأثاث، فإن الملوثات البلاستيكية الحديثة، وبالتحديد الملوثات والجسيمات الميكروبلاستيكية الدقيقة التي قد لا ترى بالعين المجردة دخلت مشهد التلوث في المنازل، وأصبحت الآن من أهم مصادر تدهور نوعية الهواء المنزلي خاصة، والبيئات الداخلية المغلقة عامة.

 

فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة ميدانية في 28 نوفمبر 2022 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان:" الميكروبلاستيك في الهواء في البيئات الداخلية والخارجية في الدول النامية في جنوب آسيا". وهذه الدراسة شملت الجسيمات البلاستيكية التي قطرها يتراوح من 50 إلى 5000 ميكروميتر في الهواء الجوي في المنازل في سيريلانكا. وقد خلصت الدراسة إلى أن تركيز الملوثات الميكروبلاستيكية داخل المنزل كان أعلى من الخارج فتراوح بين 0.13 إلى 0.93 مقارنة بـ 0.23 جسيم ميكروبلاستيكي لكل متر مكعب في الهواء في الخارج، كما تراوح قطر الجسيمات بين 100 و 300 ميكروميتر، ومعظم هذه الملوثات البلاستيكية كانت من أنسجة البولي إيثلين تربثليت، والبولي إستر الذي يدخل في صناعة الأقمشة.

 

أما بالنسبة لتأثير العادات والتقاليد وسلوكيات الناس على نوعية وتركيز الملوثات في هواء المنازل والبيئات الداخلية، فأقدم لكم مثالاً واحداً فقط نابعاً من تقاليدنا في دول الخليج وفي بعض الدول الآسيوية، وهو حرق البخور والعود والأنواع الأخرى منه. فحرق البخور، حسب الدراسة التي قُمت بها تنبعث عنه ملوثات كثيرة منها الدخان، أو الجسيمات الدقيقة، ومنها الملوثات العضوية المتطايرة، وبعض هذه الملوثات يُصنف كمواد تسبب السرطان مثل الجسيمات الدقيقة، والفورمالدهيد، والأسيتالدهيد، والبنزين، والطولوين، إضافة إلى تأثير الملوثات المنطلقة من البخور والعود بشكلٍ على الجهاز التنفسي والإصابة بأمراض الحساسية. وهذا التقليد المنتشر في حرق البخور ينطبق على سلوك الناس في التدخين في البيئة الداخلية، حيث يُجمع العلماء بأن التدخين يسبب أكثر من 12 نوعاً من السرطان، وحرق البخور والعود لا يقل خطورة على البيئة الداخلية وعلى صحة الإنسان.

 

كذلك فإن نوعية الوقود المستخدم في البيئات الداخلية، سواء للطهي في المواقد أو التدفئة، له تداعيات مباشرة على جودة الهواء المنزلي وصحة الناس. فحرق الأخشاب، أو المخلفات الحيوانية، أو الفحم يُعد من أشد أنواع الوقود فساداً لجودة الهواء، وأكثرها تنكيلاً بالصحة العامة، في حين أن أفضل الممارسات للطهي من الناحيتين البيئية والصحية هو الفرن الكهربائي، ثم الفرن الذي يعمل بالغاز الطبيعي، علماً بأن دراساتي أكدت وجود تلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد النيتروجين عند استخدام الغاز، وأن معدل تركيزه في المنزل، وبخاصة في المطبخ أعلى من خارج المنزل.

 

فمن هذا التحليل السريع لقضية حالة البيئة في المنزل وغيره من البيئات الداخلية شبه المغلقة، أستطيع أن أستنتج بأن حالة البيئة تختلف من منزلٍ إلى آخر في المدينة نفسها، وفي الدولة نفسها أيضاً، وأن هناك الكثير من العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والجغرافية، إضافة إلى مواد البناء والمواد الاستهلاكية التي تُستخدم أو تُوضع في المنزل، وجميعها مع بعض تلعب دوراً تراكمياً وتعاونياً في إحداث هذه التغيرات البيئية المنزلية والتي تنعكس مع الزمن صحياً على الناس.

 

الجمعة، 16 ديسمبر 2022

المأساة المهملة


صَدَقَتْ منظمة الأمم المتحدة للطفولة(اليونيسف) عندما أَطلقتْ عبارة "المأساة المهملة" على ظاهرة موجودة في كل دول العالم بدون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة اعتماداً على تقدم الخدمات الصحية في الدولة وتطورها ووفرتها للجميع، وهي حالات موت الجنين قبل أو أثناء الوضع والولادة(Stillbirths).

 

وقد ورد هذا الوصف الدقيق والمُوفق لظاهرة موت الجنين في التقرير الذي نشرته المنظمة في أكتوبر 2020 تحت عنوان: "المأساة المهملة: العبء الدولي لولادة الأجنة الميتة"، حيث جاء في التقرير عن إهمال الكثير من دول العالم لهذه الظاهرة الصحية المتفاقمة وكأنها غير موجودة، ففي كل 16 ثانية يولد جنيناً ميتاً في مكانٍ ما حول العالم، مما يعني بأن عدد الأجنة الميتة سنوياً يصل إلى قرابة مليونين كل سنة على المستوى الدولي، كما يستنتج التقرير بأن عدد هذا النوع من وفيات الأجنة بلغ قرابة 48 مليون خلال العقدين الماضيين، مما يُبرر إطلاق وصف "المأساة المهملة" على هذه الظاهرة الاجتماعية الكارثية المتفاقمة والتي تترك بصماتٍ عميقة ومستدامة نفسية وعضوية في قلوب كل أفراد الأسرة برمتها، إضافة إلى الأعباء المالية التي تتكبدها العائلة والحكومة معاً.

 

ولكن التقرير لم يُبرز بوضوح وبشكلٍ دقيق وشامل جميع مصادر وأسباب تفشي هذه الظاهرة العالمية، سوى التركيز، كما هو الحال بالنسبة للكثير من التقارير، على الأسباب التقليدية القديمة المعروفة، وهي ضعف العناية الصحية المستمرة للأم الحامل والجنين طوال فترة الحمل، إضافة إلى عدم توافر الخدمات الصحية المتخصصة لحالات الوضع والولادة في المستشفيات، وقلة الأطباء الأكفاء والخبراء المختصين بالولادة.

 

ففي السنوات القليلة الماضية قام العلماء بدراساتٍ سريرية وبيئية وبائية اكتشفوا فيها وجود عاملٍ جديد ومؤثر جداً يؤدي إلى ازدياد حالات وفيات الأجنة، قبل أو أثناء الولادة، وهذا العامل الذي يُضاف إلى العوامل السابقة هو تلوث الهواء الجوي، وتعرض المرأة الحامل خلال أشهر الحمل للملوثات بمختلف أنواعها والعيش في بيئة هواؤها غير صحي ولا يتوافق مع معايير جودة الهواء الجوي.

 

وقد تسابق العلماء في العقد الماضي إلى سبر غور هذا المجال البحثي الجديد، وأُجريت الكثير من الدراسات لمعرفة ما إذا كانت هناك علاقة سببية بين تلوث الهواء والعيش في مدينة ملوثة ووفاة الجنين قبل أو بعد الولادة، كما قام فريق آخر من العلماء بدراسة كل ملوثٍ في الهواء الجوي على حدة لمعرفة أي من هذه الملوثات لها التأثير الفاعل والأشد على وقوع هذه الحالات المأساوية.

 

فهناك دراسة شاملة أُجريت في الفترة من 1998 إلى 2016 تحت عنوان: "تقدير حالات الوفيات للأجنة بسبب الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي في 137 دولة"، ونُشرت في مجلة (Nature Communications) في 30 نوفمبر 2022. وهذه الدراسة شملت دولاً في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية وقامت بمقارنة حالات وفيات الأجنة بتلوث هواء المدن، حيث أفادت بأن الجسيمات الدقيقة الموجودة في الهواء الجوي، أو التي نُطلق عليها بالدخان، تتحمل مسؤولية موت قرابة مليون جنين سنوياً أثناء أو بعد الولادة، وهذه تمثل 50% من إجمالي حالات الوفيات. فعلى سبيل المثال، سُجلت في عام 2015 قرابة 2.09 حالة وفاة للأجنة، ونحو 830 ألف من هذه الحالات تعزى إلى التعرض للجسيمات الدقيقة أعلى من 10 ميكروجرامات في المتر المكعب، أي نسبة 39.7% من الحالات. كما أفادت الدراسة بأن زيادة 10 ميكروجرامات في المتر المكعب للدخان في الهواء الجوي يرفع ويزيد من مخاطر وقوع حالات الوفاة للجنين بنسبة 11%.

وهناك عدة أسباب لوقوع حالات موت الأجنة عند العيش في بيئة ملوثة بالجسيمات الدقيقة، حيث أكدت دراسات أخرى بأن للجسيمات الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة القدرة على غزو جسم المرأة وتخطي جميع العقبات الطبيعية التي تفصل بين جسم المرأة الحامل والجنين في الرحم، مثل المشيمة والحبل السري، مما يعني بأن الدخان الذي تستنشقه المرأة يدخل مع الزمن إلى جسم الجنين ويحدث تغييرات سلبية في الجنين أثناء التطور والنمو للأعضاء.

فهذا الاكتشاف الحديث عن دور تلوث الهواء في وفاة الأجنة يُضيف إلى الاكتشافات الأخرى حول مسؤولية تلوث الهواء في فساد صحة الإنسان العقلية والنفسية والعضوية، حتى أن منظمة الصحة العالمية أَطلقت على تلوث الهواء بالقاتل الصامت، كما صنَّفت تلوث الهواء بالمادة المسرطنة التي تصيب البشر بالأمراض الحادة والمستعصية على العلاج، وعلى رأسها أمراض السرطان المختلفة، وبناءً عليه فإنني أُطلقَ على التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكل خاص بـ "قنبلة الدمار الشامل للجسم البشري برمته".

 

فالدراسات التي تُبرز الجوانب المتعددة لتلوث الهواء على الجسم البشري كثيرة جداً، آخرها الدراسة المنشورة في مجلة "تطورات العلم"( Science Advances) في 30 نوفمبر 2022، تحت عنوان: "الفقر وتلوث الهواء ونمو الصحة العقلية الذهنية للأطفال". وقد أفادت الدراسة بأن الأطفال الذي يعيشون في بيئات ملوثة فقيرة ينخفض مستواهم العقلي والذهني ويتعثرون في تحصيلهم المدرسي في مادتي الرياضيات والقراءة، حيث أَجرى البحث تقييماً للحالة الذهنية والعقلية لعشرة آلاف طفل منذ أن كانوا في مرحلة رياض الأطفال إلى السن الرابعة.

 

كما اكتشفت عدة دراسات علاقة تلوث الهواء بإضعاف مناعة الجسم، كان آخرها الدراسة المنشورة في 21 نوفمبر 2022 في مجلة "طب الطبيعة" (Nature Medicine) تحت عنوان: "تراكم الجسيمات مع العمر تضعف وظائف المناعة وتؤثر على الرئة". فمن المعروف تقليدياً بأن انخفاض مستوى وفاعلية نظام المناعة عند الإنسان مرتبط بالعمر، فنقص المناعة مع الزمن هو جزء طبيعي مع ازدياد عمر الإنسان، ولكن هذه الدراسة أدخلت عاملاً جديداً على خط انخفاض مناعة الإنسان وهو تلوث الهواء.

 

فهذه الدراسة التحليلية المخبرية لـ 84 عينة من "العقد الليمفاوية"(lymph nodes) من المتبرعين الذين تتراوح أعمارهم بين 11 إلى 93 سنة، أثبتت بأن التعرض للملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد الجسيمات الدقيقة التي تتراكم في خلايا الرئة، تؤثر على الخلايا المناعية وتضعف قدرتها ومناعتها للعدوى من الأمراض التنفسية.

 

فالدراسات تُجمع بأن لتلوث الهواء أبعاداً صحية خطيرة وشاملة تهدد حياة البشر وتسقطهم في أمراض مستعصية كثيرة على رأسها السرطان، ولكن سياسات وبرامج الحكومات لا تعكس هذا التهديد الوجودي لتلوث الهواء، فنجد بأن قضية تلوث الهواء المصيرية لا تحظى بالأهمية التي تتناسب مع خطورتها وتأثيراتها على صحة الفرد والمجتمع، بل وتكون عادة في مؤخرة سلم أولويات البرامج الحكومية، بل وتعتبرها الكثير من الحكومات قضية هامشية.

الخميس، 8 ديسمبر 2022

غزو المخلفات البلاستيكية لكل شبرٍ من كوكبنا


عندما نريد أن نتعرف على درجة وحجم انتشار أي نوعٍ من الملوثات وعمق توغله في الأوساط البيئية المختلفة، فإننا نذهب إلى أبعد بقعة في كوكبنا عن المدن والأنشطة البشرية بشكلٍ عام، وإلى المواقع التي تُعد فطرية لم تمسها أيدي البشر ونائية وقاسية الظروف المناخية، فلا يمكن للبشر الوصول إليها بسهولة ويسر، ولذلك فإن مثل هذه المواقع والبيئات والكائنات الفطرية التي تعيش فيها من المفروض أن تكون كما خلقها الله سبحانه وتعالي خالية من الشوائب والملوثات التي هي من صنع البشر .

ومن المواقع التي يتم اختيارها عادة هي أعالي الجبال الشاهقة، أو أعماق خنادق المحيطات السحيقة المظلمة والشديدة البروة، أو مواقع في القطبين الشمالي والجنوبي، وبخاصة القارة القطبية الجنوبية، أنتاركتيكا(Antarctica).

ومنذ أكثر من عقد من الزمان والعلماء يحاولون التعرف عن كثب على مدى توغل وتجذر المخلفات البلاستيكية التي صنعها الإنسان بيدية في الأوساط البيئية من جهة، وفي أجسامنا وأجسام الكائنات الحية من جهة أخرى. وقد بدأ الإنسان رحلته البحثية الماراثونية لسبر غور هذه المخلفات بدءاً بالمواقع الحضرية التي تتكثف فيها وتشتد الأنشطة التنموية، ولذلك فهناك احتمال كبير من وجود هذه المخلفات البلاستيكية التي سمحنا لها بالولوج طواعية في بيئتنا، ثم بعد أن أثبتَ العلماء قوة البصمة البلاستيكية في مدننا وتعمقها في كل مكونات البيئة الحية وغير الحية، توجه بأبحاثه للكشف عنها في المناطق النائية والبيئات الطبيعية الفطرية الخالية من الأنشطة البشرية والمصادر البلاستيكية، والتي من المفروض أن تكون بمنأى عن بقايا البلاستيك كلياً.

وقد أُجريتْ الكثير من الأبحاث الميدانية في مواقع نائية وبعيدة منذ عدة سنوات، وآخر هذه الدراسات الشاملة كانت لعينات جُمعت من عدة أوساط بيئية في القارة القطبية الجنوبية، وبالتحديد في بحر ويدل(Antarctic Weddell Sea) في المحيط المتجمد الجنوبي، حيث أُخذت 53 عينة من الهواء الجوي، ومن الثلج عينتين، و 11 عينة من التربة القاعية للبحر على عمق يتراوح بين 323 إلى 530 متراً تحت سطح البحر، وأخيراً 18 عينة من مياه البحر على السطح. وقد نُشرت هذه الدراسة الأولى من نوعها التي أُجريت على جميع الأوساط البيئة في آنٍ واحد في 21 نوفمبر 2022 في مجلة "الحدود في علوم البحار(Frontiers in Marine Science) تحت عنوان: "انتقال ومصير الألياف الميكروبلاستيكية في القارة القطبية الجنوبية: دور العمليات على المستوى الدولي". فقد قام بهذه الدراسة الميدانية المتخصصة فريق من جامعة أكسفورد البريطانية ومعهد نكتون البحثي، حيث أكدت الدراسة عن وجود ألياف من الميكروبلاستيك في جميع العينات التي تم جمعها من الأوساط البيئية الأربعة من نوع بولي إستر، والنيلون، وبولي بروبلين، وأكرليك.

وقد توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ عام ومهم جداً وله مدلولات خطيرة على كوكبنا والحياة الفطرية فيها فتشير إلى التهديد الذي تمثله المخلفات البلاستيكية البشرية، ليس في المدن والمناطق الحضرية فحسب، وإنما في البيئات الطبيعية الفطرية البعيدة النائية من كوكبنا، مما يؤكد بأن مخلفاتنا البلاستيكية التي نتخلص منها تسير وتتحرك وتنتقل مسافات طويلة من مكان إلى آخر عبر الحدود الجغرافية المصطنعة لتصل مع الوقت إلى كل شبرٍ من كوكبنا، فلن يكون هناك بعد اليوم أي شبرٍ يَسْلم من شر هذه المخلفات الميكروبلاستيكية الدقيقة والتي لا ترى بالعين المجردة. ففي بعض الحالات تنتقل هذه الجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم عبر الرياح، وفي حالات أخرى عبر تيارات المحيطات حتى تصل إلى القطب الجنوبي، وتبدأ هناك في التراكم يوماً بعد يوم واحتلال الموقع بأكمله، ثم الانتقال مع الزمن إلى الكائنات الفطرية الحيوانية التي تعيش في تلك المناطق من الكرة الأرضية، فيتعرض حياتها للخطر بسبب هذه المخلفات، وقد تنخفض أعدادها مع الوقت حتى يصيبها وباء الانقراض والزوال من سطح الكرة الأرضية.

فهذه الدراسة، ودراسات ميدانية أخرى تكشف لنا أزمة المخلفات الميكروبلاستيكية على كافة المستويات، مما يدعونا إلى أن نقف أمامها كثيراً ونتفكر في كيفية الخروج منها، سواء من رجال العلم والاختصاص، أو رجال السياسة والحكم، أو من المنظمات الأممية المعنية. فمن بين القضايا المتعلقة بالمخلفات الميكروبلاستيكية أنها ليست ثابتة وجامدة في مكانها وفي موقع صدورها وانبعاثها، فليست لها حدوداً جغرافية تقف عندها، وإنما هي قضية ديناميكية متطورة ومتراكمة مع الزمن وغطت الكرة الأرضية برمتها، كما أن جميع هذه الدراسات تؤكد بأن مصدر هذه المخلفات هو جميع دول العالم بدون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة ومتباينة حسب قِدم وعراقة الدولة في إنتاج وصناعة واستخدام المواد البلاستيكية في مجتمعاتها، مما يعني بأن علاج هذه القضية الكبيرة لا يمكن أن تتحمله دولة واحدة فقط مهما أُوتيت من قوة وموارد مالية وتقنية وفنية، وإنما يكمن مكافحتها في العمل الدولي الجماعي المشترك من خلال آلية المعاهدات الدولية التي ترعاها الأمم المتحدة.

وقد اقتنعتْ دول العالم مؤخراً بهذه الحقيقة فاتخذت قراراً في الاجتماع الخامس لجمعية الأمم المتحدة للبيئة( The U.N. Environment Assembly) الذي عُقد في العاصمة الكينية، نيروبي في الفترة من 28 فبراير إلى الثاني من مارس 2022، وجاء فيه عدة نقاط منها إنشاء لجنة شبه حكومية لإجراء المفاوضات(Intergovernmental Negotiating Committee (INC)). ومن مهام هذه اللجنة الإعداد لمسودة معاهدة ملزمة حول البلاستيك بحلول عام 2024، ثم تُطرح للتفاوض والتوقيع عليها أخيراً من الدول الراغبة في الانضمام، علماً بأن هذه اللجنة عَقَدتْ الجولة الأولى والدورة الأولى من المفاوضات في الأوروجواي في الفترة من 28 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2022. وهذه المعاهدة البلاستيكية المرتقبة ستكون حول عدة محاور منها تبني مدخل الاقتصاد الدائري للبلاستيك وفكرة إدارة البلاستيك من المهد إلى اللحد، ثم الاستفادة من مدخل التصميم البيئي لإنتاج مواد بلاستيكية قابلة للتحلل الطبيعي وقابلة للتدوير وإعادة الاستعمال، إضافة إلى دراسة تأثيراتها على النظام البيئي.

ولكن تكمن المعضلة العقيمة في أن مثل هذه المعاهدات البيئية الدولية تأخذ دهراً من الزمن حتى ترى النور، وتستغرق سنوات طويلة حتى يتم تنفيذها على أرض الواقع ومشاهدة إفرازاتها الإيجابية على الإنسان وبيئته.

 

الاثنين، 28 نوفمبر 2022

هل سيرى صندوق المناخ الجديد النور؟

اجتماع الدول الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي رقم (27) والذي عُقد في شرم الشيخ في الفترة من 7 إلى 18 نوفمبر 2022 لم يأت بجديد لسكان الكرة الأرضية، ولم تتمخض عنه قرارات حازمة وحاسمة تنقذ كوكبنا من الغرق في تداعيات التغير المناخي، فكل القرارات في تقديري كانت تأكيداً على القرارات التي اتخذت في الاجتماعات السابقة، وكلها كرَّرت وجددت مواقف وسياسات دول العالم حول القضايا المتعلقة بمواجهة التغير المناخي ومكافحة تداعياته المشهودة في كل شبرٍ من كوكبنا.

ومن القرارات التي اعتبرها البعض نصراً مؤزراً، واختراقاً جديداً لمواقف المجتمع الدولي حول التغير المناخي، وبالتحديد آلية الدعم المالي للدول النامية والفقيرة التي تعاني من تداعيات المناخ، هو الموافقة على إنشاء صندوق تحت مسمى "الخسائر والأضرار"( loss and damage).

وفي الحقيقة فإن فكرة تأسيس صندوق لمساعدة الدول المتضررة من تداعيات التغير المناخي ليست جديدة، وليست وليدة في شرم الشيخ، وإنما هي مقترح قديم تم تقديمه في عام 1992، ثم تم التفاوض حوله فعلياً منذ عام 2009 في الاجتماع رقم (15) في مدينة كوبنهاجن الدنماركية، وطُرح في هذا الاجتماع للتشاور والتفاوض حوله والخروج بنظرةٍ وتصور مشترك يوافق عليه الجميع، ولكن الفرق أنه جاء قبل أكثر من ثلاثين عاماً تحت مسمى وهدف مختلفين قليلاً وهو صندوق المناخ الأخضر(Green Climate Fund (GCF)).

وقد هدف هذا الصندوق إلى مساعدة الدول النامية المستضعفة التي ليست لها القدرة والإمكانات المالية والموارد الحيوية الرئيسة للوقوف أمام تداعيات التغير المناخي، حيث وافق المجتمعون على أن يكون الدعم في مجالين، الأول هو مساعدة الدول النامية على التكيف(adaptation) مع تداعيات الكوارث المناخية العصيبة، كموجات الحر، وارتفاع مستوى سطح البحر والفيضانات الناجمة عنه، والثاني هو دعم جهود التخفيف والتقليل من حدتها(mitigation). كما وافقت الدول الثرية والصناعية المتقدمة على تخصيص مبلغ 100 مليار دولار سنوياً بحلول 2020 كمساهمة مالية لهذا الصندوق.

وهذا الصندوق قبل أن يُعترف به رسمياً من المجتمع الدولي، ثم يُفعَّل ويدخل حيز التنفيذ مرَّ بعدة مراحل عقيمة، منها مرحلة الهيكلة والتدشين، حيث سُلطت عليه الأضواء في الاجتماع رقم(16) في 2010 في مدينة كنكون في المكسيك، ثم مرحلة تحديد الجهاز الإداري واختيار كوريا الجنوبية كمقر رئيس للصندوق، والذي تمت الموافقة عليه في الاجتماع رقم(17) في مدينة ديربن بدولة جنوب أفريقيا في 2011.

ولكن هذا الصندوق يؤكد لي حقيقة مهمة جداً هي أن تعهدات والتزامات الدول في الاجتماعات الأممية التي تخضع لمراقبة العالم، من وسائل إعلامية ومنظمات أهلية، تكون مظهرية وسطحية، أي تكون بمثابة علاقات عامة وإظهار الدولة بالمظهر اللائق والمسؤول أمام الشعوب، ثم في الواقع لا تفي الكثير من الدول بهذه التعهدات التي قطعت على نفسها. فمبلغ المائة مليار دولار سنوياً لصندوق المناخ الأخضر كمساهمة من الدول الصناعية الكبرى المسؤولة تاريخياً عن وقوع التغير المناخي كانت فقط على الورق وأمام عدسات ووسائل الإعلام، حيث أفادت تقارير أممية بأن المبلغ الذي وصل إلى الدول النامية المتضررة من الكوارث المناخية تراوح بين 3 إلى 4 مليارات دولار فقط، وبعضها على شكل قروض مرهقة، أي أنها أخرجت الدول النامية من متاهة معالجة تداعيات المناخ إلى متاهة القروض والأعباء المالية والديون التي أثقلت كاهلها وقصمت ظهرها.

فكما أن هذا الصندوق المناخي الأخضر القديم أخذ سنوات طويلة ليرى النور، ثم سنوات طويلة أخرى لجمع المال من الدول الصناعية المساهمة في الصندوق، ثم سنوات عجاف أخرى لإنفاق وصرف جزءٍ بسيطٍ من هذا المال الذي تعهدت بدفعه الدول الغنية للدول الفقيرة، فإن الصندوق الجديد سيمر حتماً بهذه المراحل الشاقة الماراثونية، فالدول المعنية بالمساهمة والدفع ليست بعجلة من أمرها، وقد يموت موتاً مبكراً كما وقع لصندوق المناخ الأخضر.

فصندوق "الخسائر والأضرار" الذي تمت الموافقة عليه في اجتماع شرم الشيخ سيخضع لمرحلة دقيقة من التعريف والإعداد والتفاوض، حيث شُكلت لجنة للقيام بهذه المهمة وتقديم تقرير للمناقشة في الاجتماع رقم (28) في دولة الإمارات في نوفمبر 2023، وعلى اللجنة من أجل إعداد التقرير محاولة الإجابة عن أسئلة كثيرة صعبة ومعقدة وخلافية، منها على سبيل المثال:

أولاً: ما هو تعريف وتفسير صندوق "الخسائر والأضرار"، وماذا تعني كلمة "الخسائر"، وكلمة "الأضرار"؟

ثانياً: ما هو حجم الصندوق، أي كم المبلغ المطلوب لتشغيل الصندوق، وأين سيكون مقر الصندوق؟

ثالثاً: من هي الدول التي ستساهم في الصندوق، ومن الذي يحدد أسماء هذه الدول؟ وهل سيكون الدفع إلزامياً أو طوعياً؟ وهل ستتبنى الدول مبدأ "الملوث يدفع"، أي أن الدول التي تلوث الهواء بغازات الاحتباس الحراري هي التي ستدفع المال للصندوق.

رابعاً: ما هي الدول التي تستحق الدعم من الصندوق وما هي الدول التي تستفيد مباشرة من الصندوق؟

خامساً: ما هو نوع الدعم؟ هل هو صدقة ومساعدة إنسانية وإعانة مالية مباشرة للأضرار البشرية والمادية الناجمة عن الكوارث المناخية التي لها علاقة بالتغير المناخي أم أنها قروضاً وديوناً تدفع لاحقاً؟ أم أن إنفاق الدول المعنية سيكون على صورة التأمين على البنية التحتية والمرافق التي قد تتضرر من التغير المناخي في الدول الفقيرة، والذي يُطلق عليه "الدرع الدولي"(Global Shield

سادساً: هل سيكون الدعم للأضرار والخسائر الناجمة عن تداعيات التغير المناخي والكوارث المناخية بعد وقوعها؟ أم أن الدعم سيوجه نحو مشاريع مستقبلية تقع في باب مواجهة التغير المناخي وخفض الانبعاثات؟   

فهذا الصندوق حتماً سيواجه تحديات عقيمة، وفي تقديري أن الدول الصناعية الغنية التي من المفروض أن يقع عليها عبء ملء الصندوق ستحاول الهرب من الدفع والمماطلة في الموافقة عليه كما فعلت في الماضي، كما أنها ستعمل من جانب آخر على إجبار دول الخليج خاصة، والصين والضغط عليهم بكل الوسائل لتحمل جزءٍ من المساهمة في الصندوق، فنحن والصين في نظر الغرب نتحمل اليوم مسؤولية ارتفاع سخونة الأرض لأن المواطن الخليجي يُعد من أكثر مواطني العالم انبعاثاً للملوثات المناخية!!

السبت، 26 نوفمبر 2022

انقراض بقر البحر، وماذا يعنيه لنا؟

حيوان بحري كبير وضخم الحجم والمنظر، ومخيف الهيئة والشكل لطوله الذي يزيد عن الثلاثة أمتار، ووزنه الثقيل الذي يتجاوز الـ 550 كيلوجراماً، ولكنه في الوقت نفسه وديع وأليف، ولا يؤذي أحداً، بل هو مُسالم جداً فلا يفترس ولا يأكل أي كائن حي آخر، وإنما يعيش على النباتات البحرية، وبخاصة الحشائش التي تنمو في السواحل الضحلة. كما أن هذا الكائن الحي الوديع والطيب تحول إلى رمزٍ للسكينة، والسلم، والألفة، والمحبة في الكثير من كتب الروايات والقصص والأساطير والخيال العلمي، وبالتحديد تلك الروايات حول عرائس البحر.

 

 هذا الحيوان الذي يُعتبر من أحد أنواع الثدييات البحرية هو أحد فصائل الأطوم، أو خروف البحر، ونُطلق عيه في البحرين ببقر البحر، أو الدو جونج(dugong)، حيث يعيش معنا وبجوارنا منذ آلاف السنين بأعداد كبيرة نسبياً مقارنة بما هو موجود الآن في بحار العالم، فهو يقضي حياته تحت ظلالنا فيتكاثر ويُكون أسراً جديدة من بقر البحر، ويتواجد بالتحديد في السواحل الضحلة من مياه البحرين في جزر حوار وفي خليج سلوى، ولذلك نعدُّه في بلادنا من التراث الطبيعي الفطري الذي نتمتع به، ونعتبره كنزاً حيوياً وتراثياً ثرياً يجب حمايته والحافظ عليه. فرعاية هذا الحيوان والاهتمام به وحمايته من كل العوامل التي تؤثر على سلامته يعتبر مؤشراً عملياً على حماية البحرين للحياة الفطرية، ودليل واقعي على اهتمامنا بتعزيز التنوع الحيوي البحري والحفاظ عليه كتراث لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، بل وإن هذا الحيوان بصفةٍ خاصة يُعد تراثاً طبيعياً حيوياً للعالم أجمع وله قيمة عالية ومميزة على المستوى الدولي، وذلك بسبب نُدرة وجوده، وانخفاض أعداده حول العالم، وتصنيفه على المستوى الدولي كحيوان بحري نادر ومهدد بالانقراض، أو يوشك على الانقراض.

 

ولكن هذا الحيوان الوديع، كغيره من الحيوانات البحرية أو البرية يعاني منذ سنوات من ضغوطٍ شديدة، وممارسات جائرة، وبرامج تنموية معوقة أحادية الجانب تعدَّتْ على حرمات بيئته البحرية الساحلية، وأضرت كثيراً بالمورد الوحيد لغذائه اليومي، ودمرت كمياً ونوعياً مصدر هذا الغذاء الذي لا حياة لهذا الحيوان بدونه.

 

وكل هذه الممارسات المستمرة في كل دول العالم منذ عقود على بيئة هذا الحيوان وعلى جسده، أضعفت قوته وحيوته، فانهار صريعاً ميتاً حتى اختفى كلياً من بعض المناطق البحرية، وتم تصنيفه ضمن الأموات والكائنات الحية المنقرضة من بحارنا ومن على سطح كوكبنا.

 

وهذا ليس سيناريو نظري أتحدث عنه، وليست توقعات مستقبلية مني شخصياً حول مصير هذا الحيوان، أو غيره، والذي يتعرض لكل هذه الضغوط الشديدة والمستمرة من أنشطة البشر التنموية، ولكنه في الواقع هذا حدثٌ ميداني رأيناه ينزل في الصين، ونُشرت حوله الدراسات العلمية الميدانية التي أثبت اختفاء بقر البحر إلى الأبد، وأكدت على انقراضه كلياً في الصين.

 

فق تم الإعلان رسمياً بأن بقر البحر قد انقرض وظيفياً في الصين، أي اختفى من المشهد البحري ومن أعين الناس، أو أنه وإنْ وُجد بأعدادٍ منخفضة جداً فليس له دور وأهمية في النظام البيئي في تلك المنطقة البحرية، فقد جاء في الإعلان الصريح بأن بقر البحر الموجود منذ مئات السنين في بحر الصين لم يشاهده أحد منذ عام 2008، حيث تم نشر هذا الاعتراف الرسمي بانقراضه في مجلة بريطانية تابعة للجمعية الملكية لعلم الحيوان(Royal Society of Open Science) في 24 أغسطس 2022، تحت عنوان: "الانقراض الوظيفي لبقر البحر في الصين".

 

فقد أكدت الدراسة بأن أعداد بقر البحر بدأت واقعياً في الانحدار الشديد والانخفاض المستمر منذ عام 1975 مع دخول الصين والشروع في الأعمال التنموية الشاملة في كافة القطاعات، مما اضطر السلطات الصينية في عام 1988 إلى تصنيف بقر البحر بأن حيوان "محمي من الدرجة الأولى على المستوى القومي"، أي أعلى مستوى للحماية والرعاية. ولكن، كما هو الحال بالنسبة لجميع دول العالم بدون استثناء، فإن مثل هذه التشريعات البيئية الفطرية لا تُفعَّل، ولا تصمد أمام التنمية الاقتصادية والربح السريع والكبير، فالأولوية دائماً للنمو الاقتصادي وليس النمو البيئي، والأولوية دائماً لجمع المال وليس لحماية الثروات البيئية الفطرية.

 

وقد عزت الدراسة أسباب انقراض بقر البحر إلى عدة عوامل مرتبطة مباشرة ببرامج التنمية في كل القطاعات. فهناك أولاً القطاع السمكي المتمثل في الصيد الجائر للثروة السمكية بشكلٍ عام، إضافة إلى تعرقل هذا الحيوان في شباك الصيد واختناقه وموته، أو تناول المخلفات البلاستيكية صغيرة الحجم بالخطأ. وثانياً هناك الأنشطة التعميرية الساحلية وبناء مرافق في الساحل، والتي تتطلب عمليات حفر مواقع بحرية ودفن السواحل الضحلة، وبعضها قد تكون بيئات للأعشاب والطحالب التي يتغذى عليهما بقر البحر، مما يتسبب في مجاعة جماعية لهذه الكائنات العشبية وغيرها من الأسماك التي تعيش في تلك البيئات. أما السبب الثالث فهو حوادث اصطدام السفن ببقر البحر والقضاء عليه فوراً، ورابعاً هو تلوث البحر من مصادر متعددة منها صرف مياه المجاري ومياه الصرف الزراعي، إضافة إلى مياه المصانع، فكل هذه المصادر مجتمعة تعمل بشكلٍ تراكمي ومجموعي ومع الزمن على التدهور النوعي والكمي لبيئات بقر البحر، وتؤدي إلى انخفاض أعدادها وفساد استمرارية حياتها نوعياً وكمياً، ثم انقراضها إذا استمرت هذه المصادر في تدمير البيئة البحرية.

 

فهذا الموضوع الذي أتحدث عنه في هذا المقال ليس فقط حول حيوان بحري يعاني من عبث الإنسان ببيئته وتعديه على حرمات وسيادة غيره من الكائنات، وإنما هو مثال فاضح من بين أمثلة ووقائع كثيرة نشهدها منذ بدء الإنسان بالثورة الصناعية، ومنذ الشروع في أنشطته التنموية غير المستدامة وغير الرشيدة، التي جعلت الهدف الرئيس والوحيد هو النمو الاقتصادي فقط وعلى حساب كل شيء من صحة الإنسان وسلامة مكونات وثروات البيئة الحية وغير الحية.

 

فانقراض هذا الحيوان في الصين مؤشر ودليل ميداني وحيوي على ما ارتكبته أيدينا من تدميرٍ ممنهج لجودة بيئتنا من الناحيتين النوعية والكمية، ودليل على أن برامجنا التنموية غير مستدامة وتفسد البيئة والكائنات التي تعيش عليها، بما في ذلك الأمن الصحي للإنسان.

 

وانقراض هذا الحيوان من المفروض أن يكون درساً قاسياً لا ننساه أبداً، ونتعلم منه بأن لا نسمح للكائنات الحية الأخرى أن تلقى مصير بقر البحر، وأن نغير من أسلوب ونمط تنميتنا بحيث أن تكون تنمية تُعمر ولا تفسد، وتبني ولا تهدم، فتكون تنمية مستدامة تورث الأجيال موارد بيئية نظيفة، وسليمة، ومنتجة، نتمتع بها في هذا الجيل والأجيال اللاحقة.