الجمعة، 16 ديسمبر 2022

المأساة المهملة


صَدَقَتْ منظمة الأمم المتحدة للطفولة(اليونيسف) عندما أَطلقتْ عبارة "المأساة المهملة" على ظاهرة موجودة في كل دول العالم بدون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة اعتماداً على تقدم الخدمات الصحية في الدولة وتطورها ووفرتها للجميع، وهي حالات موت الجنين قبل أو أثناء الوضع والولادة(Stillbirths).

 

وقد ورد هذا الوصف الدقيق والمُوفق لظاهرة موت الجنين في التقرير الذي نشرته المنظمة في أكتوبر 2020 تحت عنوان: "المأساة المهملة: العبء الدولي لولادة الأجنة الميتة"، حيث جاء في التقرير عن إهمال الكثير من دول العالم لهذه الظاهرة الصحية المتفاقمة وكأنها غير موجودة، ففي كل 16 ثانية يولد جنيناً ميتاً في مكانٍ ما حول العالم، مما يعني بأن عدد الأجنة الميتة سنوياً يصل إلى قرابة مليونين كل سنة على المستوى الدولي، كما يستنتج التقرير بأن عدد هذا النوع من وفيات الأجنة بلغ قرابة 48 مليون خلال العقدين الماضيين، مما يُبرر إطلاق وصف "المأساة المهملة" على هذه الظاهرة الاجتماعية الكارثية المتفاقمة والتي تترك بصماتٍ عميقة ومستدامة نفسية وعضوية في قلوب كل أفراد الأسرة برمتها، إضافة إلى الأعباء المالية التي تتكبدها العائلة والحكومة معاً.

 

ولكن التقرير لم يُبرز بوضوح وبشكلٍ دقيق وشامل جميع مصادر وأسباب تفشي هذه الظاهرة العالمية، سوى التركيز، كما هو الحال بالنسبة للكثير من التقارير، على الأسباب التقليدية القديمة المعروفة، وهي ضعف العناية الصحية المستمرة للأم الحامل والجنين طوال فترة الحمل، إضافة إلى عدم توافر الخدمات الصحية المتخصصة لحالات الوضع والولادة في المستشفيات، وقلة الأطباء الأكفاء والخبراء المختصين بالولادة.

 

ففي السنوات القليلة الماضية قام العلماء بدراساتٍ سريرية وبيئية وبائية اكتشفوا فيها وجود عاملٍ جديد ومؤثر جداً يؤدي إلى ازدياد حالات وفيات الأجنة، قبل أو أثناء الولادة، وهذا العامل الذي يُضاف إلى العوامل السابقة هو تلوث الهواء الجوي، وتعرض المرأة الحامل خلال أشهر الحمل للملوثات بمختلف أنواعها والعيش في بيئة هواؤها غير صحي ولا يتوافق مع معايير جودة الهواء الجوي.

 

وقد تسابق العلماء في العقد الماضي إلى سبر غور هذا المجال البحثي الجديد، وأُجريت الكثير من الدراسات لمعرفة ما إذا كانت هناك علاقة سببية بين تلوث الهواء والعيش في مدينة ملوثة ووفاة الجنين قبل أو بعد الولادة، كما قام فريق آخر من العلماء بدراسة كل ملوثٍ في الهواء الجوي على حدة لمعرفة أي من هذه الملوثات لها التأثير الفاعل والأشد على وقوع هذه الحالات المأساوية.

 

فهناك دراسة شاملة أُجريت في الفترة من 1998 إلى 2016 تحت عنوان: "تقدير حالات الوفيات للأجنة بسبب الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي في 137 دولة"، ونُشرت في مجلة (Nature Communications) في 30 نوفمبر 2022. وهذه الدراسة شملت دولاً في آسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية وقامت بمقارنة حالات وفيات الأجنة بتلوث هواء المدن، حيث أفادت بأن الجسيمات الدقيقة الموجودة في الهواء الجوي، أو التي نُطلق عليها بالدخان، تتحمل مسؤولية موت قرابة مليون جنين سنوياً أثناء أو بعد الولادة، وهذه تمثل 50% من إجمالي حالات الوفيات. فعلى سبيل المثال، سُجلت في عام 2015 قرابة 2.09 حالة وفاة للأجنة، ونحو 830 ألف من هذه الحالات تعزى إلى التعرض للجسيمات الدقيقة أعلى من 10 ميكروجرامات في المتر المكعب، أي نسبة 39.7% من الحالات. كما أفادت الدراسة بأن زيادة 10 ميكروجرامات في المتر المكعب للدخان في الهواء الجوي يرفع ويزيد من مخاطر وقوع حالات الوفاة للجنين بنسبة 11%.

وهناك عدة أسباب لوقوع حالات موت الأجنة عند العيش في بيئة ملوثة بالجسيمات الدقيقة، حيث أكدت دراسات أخرى بأن للجسيمات الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة القدرة على غزو جسم المرأة وتخطي جميع العقبات الطبيعية التي تفصل بين جسم المرأة الحامل والجنين في الرحم، مثل المشيمة والحبل السري، مما يعني بأن الدخان الذي تستنشقه المرأة يدخل مع الزمن إلى جسم الجنين ويحدث تغييرات سلبية في الجنين أثناء التطور والنمو للأعضاء.

فهذا الاكتشاف الحديث عن دور تلوث الهواء في وفاة الأجنة يُضيف إلى الاكتشافات الأخرى حول مسؤولية تلوث الهواء في فساد صحة الإنسان العقلية والنفسية والعضوية، حتى أن منظمة الصحة العالمية أَطلقت على تلوث الهواء بالقاتل الصامت، كما صنَّفت تلوث الهواء بالمادة المسرطنة التي تصيب البشر بالأمراض الحادة والمستعصية على العلاج، وعلى رأسها أمراض السرطان المختلفة، وبناءً عليه فإنني أُطلقَ على التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكل خاص بـ "قنبلة الدمار الشامل للجسم البشري برمته".

 

فالدراسات التي تُبرز الجوانب المتعددة لتلوث الهواء على الجسم البشري كثيرة جداً، آخرها الدراسة المنشورة في مجلة "تطورات العلم"( Science Advances) في 30 نوفمبر 2022، تحت عنوان: "الفقر وتلوث الهواء ونمو الصحة العقلية الذهنية للأطفال". وقد أفادت الدراسة بأن الأطفال الذي يعيشون في بيئات ملوثة فقيرة ينخفض مستواهم العقلي والذهني ويتعثرون في تحصيلهم المدرسي في مادتي الرياضيات والقراءة، حيث أَجرى البحث تقييماً للحالة الذهنية والعقلية لعشرة آلاف طفل منذ أن كانوا في مرحلة رياض الأطفال إلى السن الرابعة.

 

كما اكتشفت عدة دراسات علاقة تلوث الهواء بإضعاف مناعة الجسم، كان آخرها الدراسة المنشورة في 21 نوفمبر 2022 في مجلة "طب الطبيعة" (Nature Medicine) تحت عنوان: "تراكم الجسيمات مع العمر تضعف وظائف المناعة وتؤثر على الرئة". فمن المعروف تقليدياً بأن انخفاض مستوى وفاعلية نظام المناعة عند الإنسان مرتبط بالعمر، فنقص المناعة مع الزمن هو جزء طبيعي مع ازدياد عمر الإنسان، ولكن هذه الدراسة أدخلت عاملاً جديداً على خط انخفاض مناعة الإنسان وهو تلوث الهواء.

 

فهذه الدراسة التحليلية المخبرية لـ 84 عينة من "العقد الليمفاوية"(lymph nodes) من المتبرعين الذين تتراوح أعمارهم بين 11 إلى 93 سنة، أثبتت بأن التعرض للملوثات في الهواء الجوي، وبالتحديد الجسيمات الدقيقة التي تتراكم في خلايا الرئة، تؤثر على الخلايا المناعية وتضعف قدرتها ومناعتها للعدوى من الأمراض التنفسية.

 

فالدراسات تُجمع بأن لتلوث الهواء أبعاداً صحية خطيرة وشاملة تهدد حياة البشر وتسقطهم في أمراض مستعصية كثيرة على رأسها السرطان، ولكن سياسات وبرامج الحكومات لا تعكس هذا التهديد الوجودي لتلوث الهواء، فنجد بأن قضية تلوث الهواء المصيرية لا تحظى بالأهمية التي تتناسب مع خطورتها وتأثيراتها على صحة الفرد والمجتمع، بل وتكون عادة في مؤخرة سلم أولويات البرامج الحكومية، بل وتعتبرها الكثير من الحكومات قضية هامشية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق