الخميس، 8 ديسمبر 2022

غزو المخلفات البلاستيكية لكل شبرٍ من كوكبنا


عندما نريد أن نتعرف على درجة وحجم انتشار أي نوعٍ من الملوثات وعمق توغله في الأوساط البيئية المختلفة، فإننا نذهب إلى أبعد بقعة في كوكبنا عن المدن والأنشطة البشرية بشكلٍ عام، وإلى المواقع التي تُعد فطرية لم تمسها أيدي البشر ونائية وقاسية الظروف المناخية، فلا يمكن للبشر الوصول إليها بسهولة ويسر، ولذلك فإن مثل هذه المواقع والبيئات والكائنات الفطرية التي تعيش فيها من المفروض أن تكون كما خلقها الله سبحانه وتعالي خالية من الشوائب والملوثات التي هي من صنع البشر .

ومن المواقع التي يتم اختيارها عادة هي أعالي الجبال الشاهقة، أو أعماق خنادق المحيطات السحيقة المظلمة والشديدة البروة، أو مواقع في القطبين الشمالي والجنوبي، وبخاصة القارة القطبية الجنوبية، أنتاركتيكا(Antarctica).

ومنذ أكثر من عقد من الزمان والعلماء يحاولون التعرف عن كثب على مدى توغل وتجذر المخلفات البلاستيكية التي صنعها الإنسان بيدية في الأوساط البيئية من جهة، وفي أجسامنا وأجسام الكائنات الحية من جهة أخرى. وقد بدأ الإنسان رحلته البحثية الماراثونية لسبر غور هذه المخلفات بدءاً بالمواقع الحضرية التي تتكثف فيها وتشتد الأنشطة التنموية، ولذلك فهناك احتمال كبير من وجود هذه المخلفات البلاستيكية التي سمحنا لها بالولوج طواعية في بيئتنا، ثم بعد أن أثبتَ العلماء قوة البصمة البلاستيكية في مدننا وتعمقها في كل مكونات البيئة الحية وغير الحية، توجه بأبحاثه للكشف عنها في المناطق النائية والبيئات الطبيعية الفطرية الخالية من الأنشطة البشرية والمصادر البلاستيكية، والتي من المفروض أن تكون بمنأى عن بقايا البلاستيك كلياً.

وقد أُجريتْ الكثير من الأبحاث الميدانية في مواقع نائية وبعيدة منذ عدة سنوات، وآخر هذه الدراسات الشاملة كانت لعينات جُمعت من عدة أوساط بيئية في القارة القطبية الجنوبية، وبالتحديد في بحر ويدل(Antarctic Weddell Sea) في المحيط المتجمد الجنوبي، حيث أُخذت 53 عينة من الهواء الجوي، ومن الثلج عينتين، و 11 عينة من التربة القاعية للبحر على عمق يتراوح بين 323 إلى 530 متراً تحت سطح البحر، وأخيراً 18 عينة من مياه البحر على السطح. وقد نُشرت هذه الدراسة الأولى من نوعها التي أُجريت على جميع الأوساط البيئة في آنٍ واحد في 21 نوفمبر 2022 في مجلة "الحدود في علوم البحار(Frontiers in Marine Science) تحت عنوان: "انتقال ومصير الألياف الميكروبلاستيكية في القارة القطبية الجنوبية: دور العمليات على المستوى الدولي". فقد قام بهذه الدراسة الميدانية المتخصصة فريق من جامعة أكسفورد البريطانية ومعهد نكتون البحثي، حيث أكدت الدراسة عن وجود ألياف من الميكروبلاستيك في جميع العينات التي تم جمعها من الأوساط البيئية الأربعة من نوع بولي إستر، والنيلون، وبولي بروبلين، وأكرليك.

وقد توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ عام ومهم جداً وله مدلولات خطيرة على كوكبنا والحياة الفطرية فيها فتشير إلى التهديد الذي تمثله المخلفات البلاستيكية البشرية، ليس في المدن والمناطق الحضرية فحسب، وإنما في البيئات الطبيعية الفطرية البعيدة النائية من كوكبنا، مما يؤكد بأن مخلفاتنا البلاستيكية التي نتخلص منها تسير وتتحرك وتنتقل مسافات طويلة من مكان إلى آخر عبر الحدود الجغرافية المصطنعة لتصل مع الوقت إلى كل شبرٍ من كوكبنا، فلن يكون هناك بعد اليوم أي شبرٍ يَسْلم من شر هذه المخلفات الميكروبلاستيكية الدقيقة والتي لا ترى بالعين المجردة. ففي بعض الحالات تنتقل هذه الجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم عبر الرياح، وفي حالات أخرى عبر تيارات المحيطات حتى تصل إلى القطب الجنوبي، وتبدأ هناك في التراكم يوماً بعد يوم واحتلال الموقع بأكمله، ثم الانتقال مع الزمن إلى الكائنات الفطرية الحيوانية التي تعيش في تلك المناطق من الكرة الأرضية، فيتعرض حياتها للخطر بسبب هذه المخلفات، وقد تنخفض أعدادها مع الوقت حتى يصيبها وباء الانقراض والزوال من سطح الكرة الأرضية.

فهذه الدراسة، ودراسات ميدانية أخرى تكشف لنا أزمة المخلفات الميكروبلاستيكية على كافة المستويات، مما يدعونا إلى أن نقف أمامها كثيراً ونتفكر في كيفية الخروج منها، سواء من رجال العلم والاختصاص، أو رجال السياسة والحكم، أو من المنظمات الأممية المعنية. فمن بين القضايا المتعلقة بالمخلفات الميكروبلاستيكية أنها ليست ثابتة وجامدة في مكانها وفي موقع صدورها وانبعاثها، فليست لها حدوداً جغرافية تقف عندها، وإنما هي قضية ديناميكية متطورة ومتراكمة مع الزمن وغطت الكرة الأرضية برمتها، كما أن جميع هذه الدراسات تؤكد بأن مصدر هذه المخلفات هو جميع دول العالم بدون استثناء، ولكن بدرجات متفاوتة ومتباينة حسب قِدم وعراقة الدولة في إنتاج وصناعة واستخدام المواد البلاستيكية في مجتمعاتها، مما يعني بأن علاج هذه القضية الكبيرة لا يمكن أن تتحمله دولة واحدة فقط مهما أُوتيت من قوة وموارد مالية وتقنية وفنية، وإنما يكمن مكافحتها في العمل الدولي الجماعي المشترك من خلال آلية المعاهدات الدولية التي ترعاها الأمم المتحدة.

وقد اقتنعتْ دول العالم مؤخراً بهذه الحقيقة فاتخذت قراراً في الاجتماع الخامس لجمعية الأمم المتحدة للبيئة( The U.N. Environment Assembly) الذي عُقد في العاصمة الكينية، نيروبي في الفترة من 28 فبراير إلى الثاني من مارس 2022، وجاء فيه عدة نقاط منها إنشاء لجنة شبه حكومية لإجراء المفاوضات(Intergovernmental Negotiating Committee (INC)). ومن مهام هذه اللجنة الإعداد لمسودة معاهدة ملزمة حول البلاستيك بحلول عام 2024، ثم تُطرح للتفاوض والتوقيع عليها أخيراً من الدول الراغبة في الانضمام، علماً بأن هذه اللجنة عَقَدتْ الجولة الأولى والدورة الأولى من المفاوضات في الأوروجواي في الفترة من 28 نوفمبر إلى 2 ديسمبر 2022. وهذه المعاهدة البلاستيكية المرتقبة ستكون حول عدة محاور منها تبني مدخل الاقتصاد الدائري للبلاستيك وفكرة إدارة البلاستيك من المهد إلى اللحد، ثم الاستفادة من مدخل التصميم البيئي لإنتاج مواد بلاستيكية قابلة للتحلل الطبيعي وقابلة للتدوير وإعادة الاستعمال، إضافة إلى دراسة تأثيراتها على النظام البيئي.

ولكن تكمن المعضلة العقيمة في أن مثل هذه المعاهدات البيئية الدولية تأخذ دهراً من الزمن حتى ترى النور، وتستغرق سنوات طويلة حتى يتم تنفيذها على أرض الواقع ومشاهدة إفرازاتها الإيجابية على الإنسان وبيئته.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق