الخميس، 30 مارس 2023

المبيد الحشري "دي دي تي" مازال حياً


الجيل الحالي لا يعرف المبيد الحشري المشهور الذي استخدم في فترة الأربعينيات إلى مطلع السبعينيات من القرن المنصرم في كل أنحاء العالم بدون استثناء، في المنازل والمستشفيات والحقول الزراعية والمستنقعات المائية، وهو المبيد المشهور بــ"دي دي تي"(DDT).

 

فهذا المبيد المعجزة، الواقي من الأمراض المعدية والمستعصية على العلاج كالملاريا والتيفوئيد وغيرهما بلغ كل شبرٍ من كل بلد في جميع دول العالم، كما دخل منازل البشر في كل المدن والقرى القريبة والنائية حول العالم، ولكن جِيلي له ذكريات ومشاهد وصور مضحكة ومحزنة في الوقت نفسه مع هذا المبيد الأعجوبة.

 

ففي الستينيات من القرن المنصرم كان يزورنا في أحيائنا عامل وزارة الصحة بين الحين والآخر، ويحمل على ظهره حاوية معدنية صغيرة الحجم، وتحتوي هذه الحاوية التي على ظهره المبيد الحشري "دي دي تي"، حيث تمتد أنبوبة مطاطية من هذه الحاوية فيرش بها العامل البواليع في داخل وخارج المنزل، والمستنقعات المائية. فعندما كُنا نرى هذا العامل نركض وراءه، ونحوم حوله، ونلتمسه أن يرش علينا هذه المادة البيضاء التي تخرج من الأنبوبة، فيقوم استجابة لالتماسنا بالرش علينا وتكوين سحباً بيضاء كثيفة ندخل فيها، ثم نخرج منها فرحين مبتهجين في غاية الأنس والسرور. فقد كانت فعلاً أوقاتُ مرحٍٍ بريئة وساذجة، وأوقات ضحك وتسلية مكلفة جداً على بيئتنا وصحتنا، فلم ندرك في ذلك الوقت، كما أن العالم كله لم يكن يعرف حقيقة هذه المادة، وما تحملها من سموم مستقرة وثابتة تتراكم في جميع مكونات البيئة، فتقتل الآفات والحشرات، كما هي تقتل في الوقت نفسه الإنسان والحياة الفطرية على المدى البعيد.

 

وبعد تفشي وانتشار استعمال هذا المبيد، بدأت تنكشف خيوط دقيقة ومقلقة على مكونات بيئتنا، وعلى الحياة الفطرية، وأخيراً على الإنسان، ومع مرور الوقت، ومع الإفراط في رش هذا المبيد براً، وبحراً، وجواً ظهرت ملامح ومؤشرات أكثر عمقاً ووضوحاً تثبت نزول واحدة من أكبر الكوارث البيئية الصحية العقيمة التي شهدها الإنسان. فهذا المبيد العضوي الثابت والمستقر الذي لا يتحلل ويقاوم الظروف الطبيعية، تم اكتشافه وبتراكيز مرتفعة جداً في كافة الأوساط البيئية في كل بقعة من بقاع الأرض، بعيدة كانت أم قريبة، في البر والأدغال الكثيفة، أو في أعماق البحار المظلمة، وهذا المبيد أيضاً تشبعت به أجسام الكائنات الفطرية، سواء أكانت الطيور المائية التي تتغذى على الأسماك، أو الكائنات البحرية النباتية والحيوانية، المجهرية والصغيرة منها أو الكبيرة كأسد البحر والدلافين والحيتان. ومع اكتشاف هذا المبيد في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، كان الإنسان الضحية الأخيرة التي وقعت فريسة سهلة لهذا المبيد، فظهر المبيد في كل خلية من خلايا جسم الإنسان، بل وتم اكتشاف المبيد في حليب الأم، أي أن تأثيرات المبيد السامة والقاتلة تعدت الأجيال البشرية الواحدة، فلم تكن تداعياتها تمس هذا الجيل الذي تعرض له مباشرة، وإنما تخطت وتجذرت في  أعماق الأجيال اللاحقة التي شربت مباشرة حليباً ملوثاً بهذا المبيد، كما تعرضت بشكل غير مباشر لبقايا المبيد في مكونات بيئتنا والمواد الغذائية التي نتناولها.

 

فهذا الوضع المأساوي الذي نزل على البشرية والحياة الفطرية، اضطر دول العالم ومنظمة الصحة العالمية إلى التوقف عن استخدام المبيد، وحظر استعماله كلياً، إلا في الحالات الضيقة والمستعصية جداً، حيث قامت الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال بحظر استعماله في عام 1972.  

 

ولذلك اعتبر العالم بهذا القرار أنه قد انتهى من كارثة "دي دي تي" كلياً، فدفنها وجعلها وراء ظهره، فأصبحت جزءاً من التاريخ البيئي الصحي، ولكن تعلمنا الآن بعد تجارب مريرة قاسية، ومن دروس كثيرة واقعية شاهدناها أمامنا بأن بعض القضايا البيئية لا تنتهي مهما اتخذنا من إجراءات صارمة على المستوى الدولي، فهي تبقى خالدة مخلدة في بيئتنا وفي أعضاء أجسامنا.

 

وهذا هو الحال مع "دي دي تي"، فهو ومنذ سنوات قليلة يظهر فجأة أمامنا، وبالتحديد في سواحل مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، ويثبت لنا جميعاً بأنه وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً على منعه مازال حياً ينبض بالحياة، ومازال موجوداً في بيئتنا.

 

فقد نشرت صحيفة "لوس أنجلوس تايمس" في 24 مارس 2023 تحقيقاً تحت عنوان: "تراكيز مرتفعة من دي دي تي تم اكتشافها في مناطق واسعة من قاع البحر في كاليفورنيا"، وهذا التحقيق العلمي يستند إلى معلومات من الباحثين الذين يقومون منذ نحو عشر سنوات بدراسة المنطقة البحرية في المحيط الملوثة بالمبيد، ويقومون بتحليل عينات من التربة القاعية على مساحة واسعة تزيد على مساحة البحرين عدة مرات.

 

ومن خلال هذه الدراسات توصلوا إلى عدة حقائق تهم الجميع حول العالم، كما يلي:

أولاً: قام أكبر مصنع لإنتاج المبيد في الفترة من 1947 إلى 1982 وهو "مونتروز"(Montrose) في مدينة لوس أنجلوس بصرف مخلفاته الصناعية مع مياه المجاري إلى سواحل المحيط، كما قام طوال 35 عاماً على تكديس أطنانٍ من المخلفات الحمضية شبه الصلبة الحمضية التي تحتوي على دي دي تي في نحو نصف مليون برميل ورميها في سرية تامة عند جنح الليل في ظلمات المحيط على عمق نحو ألف متر عند جزيرة سانتا كاتالينا(Santa Catalina).

ثانياً: عينات التربة القاعية في المحيط التي جُمعت بعد خمسة عقود من إلقاء مخلفات المبيد الحشري دي دي تي، أكدت عن وجود المبيد في قاع البحر وفي الحياة الفطرية البحرية بمستويات مرتفعة جداً وفي مناطق واسعة من قاع البحر وفي الطبقات السفلى من التربة، حيث قال أحد العلماء الذين يُجرون هذه الدراسة: "إننا ما زلنا نكتشف دي دي تي الذي تم رميه في براميل قبل أكثر من ستين عاماً، وهذا يعني بأن هذه المادة لا تتحلل كما كُنا نتوقع سابقاً، وهذا المبيد يغطي مساحات واسعة من قاع المحيط"، كما قدَّر العلماء كمية المبيد في قاع البحر من 384 إلى 1535 طناً.

ثالثاً: هذه الكارثة تكررت عدة مرات في دول مختلفة خلال المائة سنة الماضية، منها على سبيل المثال لا الحصر كارثة تلوث بحيرة مينماتا في اليابان منذ الخمسينيات من القرن المنصرم بعنصر الزئبق الشديد السمية، ومنها تلوث كوكبنا بالمخلفات الميكروبلاستيكية الصغيرة الحجم التي لا تتحلل وتبقى مستقرة في بيئتنا وتتراكم في أجسامنا، وأخيراً هناك الملوثات العضوية متعددة الفلورين التي أَطلق عليها العلماء بالملوثات الخالدة التي لا تتغير ولا تتحلل عند دخولها في بيئتنا.

 

فكل هذه الكوارث القديمة المتجددة التي تنزل علينا سببها هو استعجال الإنسان في إدخال المنتجات التي تحتوي على مواد خطرة وسامة إلى الأسواق وإلى بيئتنا بدون إجراء الدراسات الضرورية الشاملة لمعرفة كيفية تَصرف هذه المنتجات بعد الانتهاء من صلاحيتها واستخدامها، وماذا سيكون مصيرها عند صرفها في الأوساط البيئية المختلفة.   

 

الأحد، 26 مارس 2023

الأمم المتحدة وضوضاء السفن

 ونحن نعيش على سطح الأرض نعاني نفسياً وعضوياً من الضوضاء والأصوات المزعجة التي نتعرض لها يومياً، سواء أكانت من مصادر الضوضاء في عقر دارنا في منازلنا من أصوات المكيفات المرتفعة، أو من المصادر المزعجة خارج المنزل من أبواق السيارات المرتفعة ومن آلات حفر الشوارع (الوَرْ وَرْ) بمختلف أحجامها وقوتها، أو من أصوات الطائرات

فجميع هذه المصادر المسببة للتلوث الضوضائي تحت سيطرتنا المباشرة، ويمكننا بطريقة أو أخرى التحكم فيها، والتكيف معها، وخفض تأثيرها على صحتنا النفسية والعضوية. ولكن ماذا لو كانت هذه الأصوات ومصادر الضوضاء تحت البحر الصامت والغامض بكائناته الفطرية النباتية والحيوانية التي تسبح في رحاب هذا البحر العظيم، فتتعرض لهذه الموجات العالية والشديدة المستمرة ليلاً نهاراً، فهل بمقدور هذه الكائنات أن تفعل شيئاً يُجنبها هذا التلوث الضوضائي تحت الماء، ويخفف عنها آثارها التي لا يعلم مداها إلا الله على المستوى البعيد؟ وهل بإمكانها أن ترفع شكواها ومعاناتها إلى أحد لكي يشفيها مما أصابها من توتر وخلل وعِلل طوال قرون طويلة من الزمن؟

 

ولحسن الحظ أن هناك منظمات تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، منها "المنظمة البحرية الدولية"( International Maritime Organization) المعنية بسلامة السفن على المستوى الدولي ومنع التلوث البحري، حيث تنبهتْ مؤخراً بعد صرخات العلماء لعقود طويلة من الزمن إلى أضرار هذا التلوث الضوضائي من خلال الأبحاث الميدانية التي أُجريت ومازالت تُجرى حتى يومنا هذا، ولذلك فهذه المنظمات الأممية تحاول منذ زمنٍ قليل التصدي، ولو بجهودٍ بسيطة وبطيئة جداً، لهذه الظاهرة المتفاقمة تحت سطح البحر، وتعمل على مواجهة المصادر التي تزعزع أمن وسلامة الكائنات الفطرية البحرية.

 

ولكن مع الأسف أن هذه الجهود الدولية والعمل الدولي المشترك لا ينبني ولا يهدف إلى منع واستئصال هذه المصادر الملوثة للبحر من جذورها، ولا يسعى إلى وقاية الكائنات البحرية كلياً من شر هذا التلوث الضوضائي البحري، وهو في تقديري الأفضل كاستراتيجية وسياسة مستدامة بعيدة الأمد، ولكن جُل هذه الجهود تصب فقط في السياسة العلاجية المتمثلة في تقنين وخفض مستوى الضوضاء الصادرة عن بعض هذه المصادر، وليس كلها. وعلاوة على ذلك فإن هذه الجهود لا تواكب التحديات الناجمة عن الزيادة المطردة في مصادر الأصوات والموجات الضوضائية المرتفعة في كل بحار ومحيطات العالم التي أصبحت أشد تنكيلاً، وأكثر انتشاراً. فعلى سبيل المثال، الأصوات والموجات التي تنبعث من مصادر بشرية( anthrophony)، منها مئات الآلاف من السفن التي تمخر عباب البحار وتجوب محيطات العالم، سواء أكانت السفن والمدن العملاقة السياحية، أو البارجات النفطية، أو السفن الضخمة التجارية، أو سفن الصيد، أو السفن والطرادات والفرقاطات الحربية. كذلك هناك عمليات الحفر البحرية التي تستمر طوال اليوم، سواء في البحار الضحلة، أو في أعماق المحيطات المظلمة للتنقيب عن النفط والغاز والمعادن، فتزلزل قاع البحر وتُحدث موجات صوتية شديدة تسير إلى مسافات طويلة وأعماق كبيرة تحت سطح البحر. ومن جانب آخر هناك السفن التي تحتوي على أجهزة السونار التي تُطلق موجات صوتية للكشف عن أي جسم تحت سطح الماء وتحديد موقعه ومكانه بالضبط، إضافة إلى دراسة قاع البحر. ومن المصادر الأخرى للضوضاء عمل القواعد البحرية للتنقيب عن النفط والغاز وغيرهما وإحداث التفجيرات القاعية، إضافة إلى إنشاء قواعد لطاقة الرياح.  

 

فكل هذه المصادر التي لا تعد ولا تحصى الملوثة للعمود المائي في البحار والمحيطات والمؤثرة على الكائنات البحرية التي تسبح في الماء أو التي تعيش في قاع البحر، قد كشف عنها العلماء في أبحاث كثيرة منشورة في كل دول العالم، والأبحاث مازالت جارية ومستمرة ليس فقط حول تأثير الضوضاء على الحياة الفطرية، وإنما الدخول مستقبلاً في دراسة تأثير هذه التداعيات على الحياة الفطرية على الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر على المدى القريب والبعيد.

 

فهناك دراسة نُشرت في مجلة "الطبيعة" في 3 نوفمبر 2022 تحت عنوان: "تأثير حركة السفن وضوضاء المحيط على هرمونات التوتر في الحوت الرمادي"، حيث قامت الدراسة بجمع عينات من براز هذا الحوت(fecal glucocorticoid metabolite)، وأجرتْ عليها تحليلات مخبرية لمعرفة تركيز مجموعة من هرمونات الستيرويد(steroid hormones)، ومنها التي تقيس نسبة التوتر والإجهاد الذي عانى منه الحوت. وقد خلصت نتائج التحاليل إلى أن هناك علاقة بين تركيز هرمونات التوتر والمواقع التي ترتفع فيها مستويات الضوضاء والأصوات العالية المستمرة، أي أن الأصوات الشديدة تحت البحر أثرت فسيولوجياً على الحوت وعلى عملياته الحيوية داخل الجسم، وبالطبع هذه التأثيرات ستكون مماثلة على الكائنات الأخرى.

 

كذلك نُشرت دراسة في مجلة "العلوم" في 5 فبراير 2021 تحت عنوان: "الأصوات المزعجة من مصادر بشرية"، وقامت بحصر وتلخيص الأضرار التي اكتشفها العلماء حتى الآن لهذا التلوث الضوضائي. فقد أكدت الدراسة أن الموجات الصوتية تسير مسافات أطول وبسرعة أكبر في الماء مقارنة بتحركها في الهواء، ولذلك تأثيرها سيقع على منطقة واسعة من البيئة البحرية. ومن هذه التأثيرات أن هذه الأمواج التي يطلقها البشر تتضارب وتتعارض مع الموجات الفطرية التي تصدرها الحيوانات المائية لأسباب كثيرة منها مساعدتها في الإبحار والانتقال من موقع إلى آخر، ومنها التواصل مع بعض، والتكاثر، واصطياد الحيوانات الأخرى.

 

ومن أجل مواجهة كل هذه المصادر الضوضائية والتحديات الناجمة عنها، قررت المنظمة البحرية الدولية في 27 يناير 2023 مراجعة معاييرها القديمة المتعلقة بالضوضاء والتي وضعتها في 2014 حول السفن التجارية، ومنها تغيير تصميم مراوح السفن، وخفض السرعة، وتغيير المسارات الملاحية لهذه السفن وتجنب المناطق الحساسة الثرية بالتنوع الحيوي التجاري وغير التجاري.

ولكن هذا الجهد، وجهود منظمات أممية أخرى لا ترقى إلى حجم وسرعة الضرر الذي يقع على الكائنات البحرية، ليس من انعكاسات التلوث الضوضائي فحسب، وإنما هناك ضغوطاً كثيرة أخرى تتعرض لها هذا الكائنات في الوقت نفسه فتزيد من حدة المشكلة الصحية، منها التغير المناخي وتداعياته المتمثلة في ارتفاع حرارة وحمضية مياه البحار، ومنها تدهور جودة مياه البحر بسبب التلوث، ومنها تدهور التنوع الحيوي من الناحيتين النوعية والكمية، فكل هذه المصادر تشكل ضغوطاً تراكمية ومجموعية تهدد سلامة وصحة الكائنات البحرية، ومن ثم حياة الإنسان.

 

الخميس، 23 مارس 2023

المرض الذي أصاب الجنود الأمريكيين في العراق

تداعيات الغزو الأمريكي للعراق لن تنتهي أبداً، وستبقى معنا سنوات طويلة قادمة، بالرغم من انتهاء الحرب قبل عشرين عاماً. وهذه الانعكاسات التي نجمت عن الحرب العدوانية منذ بدء القصف الجوي في الثالث من مارس 2003، وبالتحديد أتحدثُ هنا عن الانعكاسات من الناحية البيئة الصحية، لم تنزل فقط على الشعب العراقي وأطفال العراق، وإنما نزلت أيضاً على الجنود الأمريكيين الذين شاركوا في الغزو وأمضوا سنوات يحاربون الشعب العراقي.

 

أما بالنسبة للتأثيرات البيئية الصحية للغزو الأمريكي ودول الحلفاء للعراق على المواطنين العراقيين فقد كتبتُ عنها عدة مقالات، منها المقال المنشور في 12 أغسطس 2011 في صحيفة أخبار الخليج تحت عنوان:  "غزو فيتنام والعراق والتداعيات البيئية والصحية"، والثاني في 29 أكتوبر 2012 تحت عنوان: "التشوه الخَلْقي للأطفال في العراق"، حيث تناولت فيهما الانعكاسات الصحية والبيئية لمعركة الفلوجة الدامية في العراق عامي 2003 و 2004، والتي تعرضت للقصف الأمريكي والبريطاني بمختلف أنواع القنابل غير المسموح بها دولياً، كقنابل اليورانيوم المنضب أو المستنفد(depleted uranium)، والقنابل الفسفورية البيضاء الحارقة، وانعكاس انبعاث الملوثات المشعة والسامة من هذه القنابل على جسم العراقيين وانكشافها على هيئة مظاهر صحية غريبة، وأمراض مزمنة مستعصية على العلاج، مثل ازدياد أعداد المصابين بالسرطان، وارتفاع ولادة الأطفال المشوهين خَلْقياً والمصابين بإعاقات جسدية منذ الولادة، كتشوهات في القلب، وإعاقات في المخ وخلل في وظائف أجزاء المخ، وتشوهات في الأعضاء والأطراف، إضافة إلى ارتفاع تركيز الملوثات في مكونات البيئة المختلفة، مثل اليورانيوم، والزئبق، والرصاص. وأما المقال الثالث فقد نُشر في  10من نوفمبر 2012 تحت عنوان: "اعتراف أمريكي بالجرائم البيئية في العراق"، ثم نشرتُ المقال في الرابع من ديسمبر 2020 وعنوانه: "تداعيات غزو الفلوجة باقية".

 

وأما الفئة الثانية التي تضررت وتدهورت صحتها لسنوات طويلة عجاف فكانت فئة الجنود الأمريكيين ومن تحالف معهم على حدٍ سواء، وهذه الأسقام والحالات والأعراض الغامضة التي نزلت عليهم بُعيد انتهاء الحرب مازالوا يعانون منها حتى كتابة هذه السطور. فكما أن الحرب أثرت بيئياً وصحياً على الشعب العراقي فقد دمرت في الوقت نفسه الحالة الصحية الجسدية والعقلية والنفسية لآلاف من الجنود الأمريكيين.

 

وفي بدايات ظهور هذه الحالات المرضية الغريبة على الآلاف من الجنود الأمريكيين، أنكرت الحكومة الأمريكية كعادتها واقعية هذه الأعراض، كما فعلت بالنسبة لتعرض الجنود الأمريكيين للعميل البرتقالي في فيتنام وهو مبيد حشري استخدم لتدمير الغابات والأحراش في فيتنام، إضافة إلى تعرض الجنود الذين حاربوا في عملية درع الصحراء أثناء الاحتلال العراقي لدولة الكويت في يناير 1991، حيث أُصيب الآلاف منهم بمرضٍ جديد وغريب لم يعرفه الطب من قبل، وأُطلق عليه "بمرض أو ظاهرة حرب الخليج"(Gulf War Syndrome)، وهذا المرض مازال يحير عقول أطباء أمريكا، فلم يحددوا حتى يومنا هذا أسباب تعرض الجنود لهذا المرض العصيب الغامض.

 

ولذلك لمدة سنوات لم تعترف الحكومة الأمريكية بإصابة هؤلاء الجنود للمرض المزمن الناجم عن التعرض لخليط من الملوثات الكيميائية، والحيوية، والمشعة، فأُجريت العديد من التحقيقات والدراسات العلمية لإثبات أنه مرض خاص أصاب الجنود الذين حاربوا في العراق وأفغانستان. فقد نَشرتْ مجلة "ميليتري تايمس"(Military Times) تحقيقاً معمقاً في الثامن من نوفمبر 2008 تحت عنوان: "عديم الضرر أم خطر؟ يقول الجنود بأن حرق المواد الكيميائية والمخلفات الطبية جعلتهم يعانون من المرض، ولكن المسؤولين ينكرون". فهذا التحقيق أوجد علاقة بين "حُفر الحرق" (burn pits) التي كانت موجودة في العراء في أكبر قاعدة عسكرية في العراق (Joint Base Balad)، والتي كان الجيش الأمريكي يقوم فيها في العراق وأفغانستان بحرق كل ما لديه من مخلفات طبية وبيولوجية وأعضاء بشرية تم بترها، ومخلفات خطرة وسامة، إضافة إلى القمامة التي كانت تحتوي على عبوات المياه البلاستيكية في هذه الحفر المفتوحة البدائية بدون اتخاذ أية إجراءات وقائية تحمي الجنود من جميع أنواع الملوثات التي كانت تنبعث منها مباشرة دون أية معالجة، ونتيجة لتعرض عدد كبير من الجنود لهذا الخليط المعقد والسام والمسرطن من الملوثات والدخان الأسود فقد أُصيبوا بأعراض مرضية نادرة تتمثل في الصداع المزمن، وحساسية وحرقة في العينين والجهاز التنفسي، ومشكلات مزمنة في الجيوب الأنفية، والتهابات وجروح في الرئتين، إضافة إلى نوع نادر من سرطان الرئة.

 

كما أُجريت عدة دراسات علمية منهجية لإثبات مصدر وأسباب المرض، إضافة إلى إيجاد علاقة بين خدمة الجنود في العراق وأفغانستان والإصابة بهذا المرض التنفسي. فعلى سبيل المثال هناك دراسة تحت عنوان:" انكشاف جديد لمرض الربو بين الجنود الذين خدموا في العراق وأفغانستان" والمنشورة في سبتمبر 2010 في مجلة "وقائع حساسية الربو (Allergy Asthma Proceeding)، إضافة إلى الدراسة تحت عنوان:" أعراض الجهاز التنفسي التي تستلزم قياس التنفس بين الجنود المصابين في الرئة في العراق وأفغانستان"، والمنشورة في سبتمبر 2011 في مجلة "الطب المهني والبيئي"(Occupational and Environmental Medicine). وهذه الدراسات أكدت العلاقة بين هذه الأعراض المرضية التنفسية، أو حالات الربو الجديدة التي بدأت تنكشف منذ عام 2004، والتعرض للملوثات التي انطلقت من عملية حرق المخلفات الخطرة وغير الخطرة مع بعض في حفرة واحدة معرضة مباشرة للهواء الجوي.

 

وبعد سنوات طويلة وثقيلة، ومعاناة قاسية من الجنود وأسرهم استمرت أكثر من 13 عاماً، نالوا الاعتراف السياسي والرعاية الطبية والمالية الكاملة استناداً إلى"قانون الميثاق" (Pact Act) الذي وافق عليه الكونجرس ووقع عليه بايدن في العاشر من أغسطس 2022. ويهدف هذا القانون إلى مساعدة قدامي المحاربين والجنود الأمريكيين الذين حاربوا في العراق وأفغانستان وعددهم قرابة 200 ألف، وتعرضوا للملوثات أثناء الحرب، وبالتحديد الذين استنشقوا سموماً قاتلة انبعثت عند حرق المواد الكيميائية والبيولوجية والمشعة في الحفر المخصصة لجمع هذه المواد، حيث قال بايدن عند التوقيع على التشريع:" هذا القانون هو الأهم لأمتنا لمساعدة الملايين من المحاربين القدماء الذين تعرضوا لمواد سامة خلال خدماتهم في الجيش".

 

وجدير بالذكر فإن ما أصاب الأمريكيين من فساد صحي مزمن لأسباب كثيرة منها الملوثات التي انبعثت من حرق المخلفات في حُفر الحرق، قد أصاب أيضاً العراقيين الذين كانوا يعملون في القاعدة الأمريكية، أو الذين يسكنون بالقرب من القاعدة. وأجرتْ صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تحقيقاً مفصلاً نُشر في 18 مارس 2023 تحت عنوان:" العدالة للمحاربين القدماء الأمريكيين للتعرض للحرق في الحفر المفتوحة. العراقيون تم نسيانهم"، حيث قامت بإجراء مقابلات شخصية مع المئات من العرقيين الذي أصابهم مرض الجنود الأمريكيين، سواء أثناء ممارسة أعمالهم اليومية في القاعدة، أو تعرضهم مباشرة للهواء الملوث من حرق المخلفات في الحفر في قراهم ومساكنهم لعدة سنوات.

 

والآن وبعد أن حصل الجنود الأمريكيين على الاهتمام من حكومتهم، ولو بعد أكثر من عقد من المعاناة والألم الشديدين، فمتى سينال المواطن العراقي هذا الاهتمام من حكومته، أو من الحكومة الأمريكية التي تسببت في مرضهم؟

 

 

 

الاثنين، 20 مارس 2023

البحرين الرابعة عالمياً في تلوث الهواء

كثر الحديث في وسائل الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي الجماعي حول التقرير المنشور في 14 مارس 2023 والمتعلق بجودة الهواء في مدن ودول العالم أجمع، إضافة إلى القائمة التي وردت في التقرير عن الدول الأشد تلوثاً للهواء الجوي، والأكثر تدهوراً من ناحية جودة الهواء. وقد أشار التقرير إلى أن البحرين تحتل المرتبة الرابعة في قائمة المدن، أو الدول الأسوأ من ناحية جودة الهواء الجوي الذي يستنشقه الإنسان ويتعرض له في كل ثانية من حياته.

 

وكان لا بد لي أن أقف أمام هذه المعلومات الخطيرة التي في مضمونها التهديد العميق والمستمر لصحة المواطن البحريني، والتي تنعكس مباشرة على نوعية الأمراض التي سنقع فيها حالياً وفي المستقبل، والتي لا شك بأن أعداد المرضى ستكون كبيرة جداً ومتفاقمة كل عام نتيجة لهذا التلوث.

 

فبداية أقف أمام مصدر التقرير وكيفية الوصول إلى المعلومات والأرقام التي جاءت فيه. فهذا التقرير السنوي عن تلوث الهواء في مدن ودول العالم يصدر من شركة سويسرية اسمها "أي كيو أير (IQAir)، وهي تعمل في مجال تقنيات جودة الهواء، ومتخصصة في الحماية من ملوثات الهواء الجوي، وبدأت منذ خمس سنوات في نشر تقارير سنوية حول جودة الهواء في مدن العالم، والتقرير الذي نتحدث عنه اليوم هو الخامس ويقع تحت عنوان "التقرير الدولي لعام 2022 حول جودة الهواء"(IQAir World Air Quality Report 2022).

 

فهذا التقرير الأخير المنشور في 14 مارس 2023 يُقدم تركيز الدخان، أو المعروف علمياً بالجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر(2.5 um)من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى، وهذه الجسيمات الدقيقة تُصنَّف الآن بأنها تسبب السرطان إلى الإنسان، علاوة على أمراض القلب والجهاز التنفسي التي تجعل الإنسان يلقى نحبه في سنٍ مبكرة. وقد تم اعتماد 7323 موقعاً في المدن من 131 دولة حول العالم لعام 2022، حيث استخلصتْ وحُللت المعلومات من عدة مصادر منها 30 ألف محطة تقيس مباشرة ملوثات الهواء الجوي، إضافة إلى تقدير تركيز هذه الجسيمات الدقيقة من قراءات الأقمار الصناعية. كما قامت بتبني توصيات منظمة الصحة العالمية التي وضعتها في سبتمبر 2021، والمتعلقة بالمعدل السنوي الآمن لتركيز الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، وهو 5 ميكروجرامات للجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء، علماً بأن المواصفة السابقة كانت 10.

 

وتوصل التقرير بعد مقارنة نتائج تركيز الجسيمات الدقيقة في دول العالم بتوصيات منظمة الصحة العالمية كمرجعية علمية في هذا المجال إلى ما يلي:

أولاً: هناك 13 دولة فقط من بين 131 دولة تتمتع بهواء صحي ونقي بالنسبة لتركيز الدخان في الهواء الجوي، منها على سبيل المثال أستراليا، وأوستوانيا، وفنلندا، وجرينلاند، وآيسلندا، ونيوزلندا، أي أن هناك 118 دولة، أو نحو 90% من دول العالم يعاني الناس فيها من هواء ملوث يفوق ويتجاوز توصيات منظمة الصحة العالمية. وهذه النتيجة تتوافق مع استنتاجات الدراسة الشاملة المنشورة  في مارس 2023 في المجلة المرموقة "اللانست، صحة الكوكب"(The LANCET Planetary Health)، تحت عنوان: "الدراسة الدولية الأولى حول تلوث الهواء يومياً تُبين بأنه لا يوجد مكان آمن على الأرض"، حيث أكدت على أن نسبة صغيرة جداً من البشر، وهي قرابة 0.001% فقط يستنشقون هواءً عليلاً نقياً خالياً من الملوثات ويتوافق مع مواصفات منظمة الصحة العالمية حول الحدود الآمنة لجودة الهواء بالنسبة للجسيمات الدقيقة. وبعبارة أخرى فإن 99.99% من البشر الذين يعيشون على سطح الأرض يستنشقون هواءً فاسداً مشبعاً بالملوثات، وبخاصة الجسيمات الدقيقة. كما أن نتائج الدراسة أفادت أيضاً بأن 0.18% من مساحة الكرة الأرضية فقط هي التي نستطيع أن نقول بأنها مازالت عذراء بكر لم تبلغها هذه الملوثات. وبعبارة أخرى فإن هذه النتيجة تشير إلى أن 98.8% من مساحة كوكبنا، بما في ذلك البحرين، قد بلغها داء التلوث بالدخان الدقيق.

 

ثانياً: قدَّم التقرير قائمة بأشد الدول تلوثاً بالنسبة للجسيمات الدقيقة في الهواء لعام 2022، حيث جاءت دولة تشاد في المرتبة الأولى من سلم الدول الأسوأ من ناحية جودة الهواء، وبلغ المعدل السنوي لتركيز الدخان 89.7 ميكروجرام لكل متر مكعب، وهذا المعدل أعلى 17 مرة من معيار منظمة الصحة العالمية، ثم كانت العراق في المرتبة الثانية بتركيز 80.1، وثالثاً جاءت باكستان، ثم في المرتبة الرابعة جاءت البحرين بمعدل تركيز سنوي نحو 66.6 ميكروجرام لكل متر مكعب من الهواء الجوي، وهذا أعلى 13 مرة من توصيات منظمة الصحة، وبعد البحرين كانت  بنجلادش، وبوركينا فاسو، والكويت، والهند، حيث تجاوز معدل التركيز 50.

 

ثالثاً: لو قُمنا بمراجعة التقارير السابقة من عام 2017 إلى 2021 لوجدنا تغيراً في ترتيب الدول الأسوأ من ناحية جودة الهواء، فالأولى هي مدينة لاهور في باكستان، ثم في المرتبة (13) جاءت العاصمة العراقية بغداد، وفي المرتبة (47) عالمياً كانت البحرين، فالمعدل بالنسبة للجسيمات الدقيقة في البحرين بلغ في عام 2017(62.5)، وفي 2018(59.8)، وفي 2019(46.8)، وفي 2020(39.7)، وأخيراً في عام 2021 بلغ معدل التركيز السنوي 49.8 ميكروجرام لكل متر مكعب.

 

رابعاً: اطلعتُ على تقارير دولية أخرى حول جودة الهواء في دول العالم، ولم أجد إجماعاً على الترتيب لاختلافها في مصدر المعلومات، ومنهجية الدراسة، ومرجعية المواصفات الخاصة بالجسيمات الدقيقة، ومنها التقارير الدورية تحت عنوان: "حالة الهواء على المستوى الدولي"(State of the Global Air) لعام 2020، والذي يشمل 196 دولة والمنشور من (Washington Institute for Health Metrics and Evaluation)، إضافة إلى تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2020 لعدد 109 دولة تحت عنوان: "الدول الأكثر تلوثاً عالمياً لعام 2020". وفي هذه التقارير لا توجد البحرين ضمن قائمة الدول الأشد تلوثاً، علماً بأن هناك تقارير دولية أخرى لا تتناول الملوثات الأولية المعروفة كالدخان، وإنما غاز ثاني أكسيد الكربون، وفي هذه التقارير نجد بأن دول الخليج تقع بشكلٍ عام في المراتب الأولى، حيث إن هذا الغاز لا علاقة له مباشرة بجودة الهواء وإنما بظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.

 

خامساً: هناك مصدران للدخان أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، الأول طبيعي، أي يخرج عن سيطرة الإنسان كالعواصف الترابية والرياح المحملة بالغبار، والثاني صناعي أي ينبعث من المصانع، ومحطات توليد الكهرباء، والسيارات، إضافة إلى حرق الغاز الطبيعي وعمليات استخراج النفط. وهناك انطباع سائد في دولنا بأننا لا نتحمل مسؤولية ارتفاع الجسيمات الدقيقة في الهواء، فلا نلوم أنفسنا لهذا التلوث بسبب العواصف الترابية المستمرة، ولكن الدراسة المنشورة في مجلة "اتصالات الأرض والبيئة"( Communications Earth & Environment) تحت عنوان: "تلوث الغلاف الجوي الشديد في الشرق الأوسط مصدر بشري"، تفيد بنتائج جديدة ومثيرة. فقد استنتجت الدراسة أولاً بأن الغبار والأتربة تعتبر المصدر الرئيس لتدهور جودة الهواء في منطقة الشرق والأوسط ورفع مستوى التلوث فيها، وثانياً، وهو المهم، فإن نسبة الجسيمات الدقيقة من المصادر الصناعية البشرية تمثل أكثر 90% من مجموع الجسيمات، وهي أكثر خطورة وأشد وطأة وتنكيلاً بالصحة العامة لأنها دقيقة جداً ومجهرية وتحمل في بطنها المئات من الملوثات السامة والمسرطنة، مقارنة بالأتربة الطبيعية التي جسيماتها تعد كبيرة نسبياً وقد لا تخترق أعماق الجهاز التنفسي فتصل إلى الرئتين ومجرى الدم، ثم إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان. وجدير بالذكر فإن أنشطتنا التنموية تسببت أيضاً في زيادة العواصف التي تحمل الغبار والأتربة من الصحاري بسبب تدهور الغطاء النباتي في الصحراء، وانكماش مساحة الأراضي المزروعة التي تثبِّت التربة وتمنع تحرك الأتربة.

سادساً: لا توجد معلومات تنشرها دولنا حول جودة الهواء الجوي بالنسبة للملوثات الأولية والثانوية، والتي تشتمل على الجسيمات الدقيقة، ولذلك نعتمد دائماً على المصادر الأجنبية التي تقوم في بعض الحالات إلى "تقدير" نسبة الملوثات في دولنا لندرة المعلومات الصحيحة.

وختاماً إذا أردنا أن نصل إلى الحقيقة بالنسبة لجودة الهواء في البحرين، علينا وبكل بساطة نشر المعلومات المتوافرة من أجهزة رصد ومراقبة ملوثات الهواء في جميع محافظات البحرين، وبالتحديد معدل التركيز اليومي، والشهري، والسنوي لجميع الملوثات، فمن حقوق المواطن الأساسية التعرف على الهواء الذي يستنشقه، وأن يتمتع بالعيش في بيئة نظيفة وصحية.

 

الخميس، 16 مارس 2023

ظهر الفساد البيئي في البر والبحر والجو


يقول سبحانه وتعالى: "ظَهرَ الفسادُ في البر والبحر بما كَسبَتْ أيدي الناس"، والفساد المقصود حسب مفهوم غالبية الناس هو الفساد الأخلاقي والاجتماعي والديني، ولكنني أَضفتُ نوعاً آخر، وجانباً جديداً من الفساد، حسب نتائج دراسة الماجستير لأحد طلابي في فبراير 1994 تحت عنوان: "دور الإسلام في حماية البيئة"، إضافة إلى كتابي المنشور في 1994 تحت عنوان: "حماية الحياة الفطرية في الإسلام"، وهذا الفساد الجديد هو الفساد البيئي الشامل بسبب أيدينا الآثمة التي استباحت حرمات بيئتنا، فتدهورت جميع مكونات وعناصر البيئة الحية وغير الحية، في البر، والبحر، والهواء السفلى والهواء العليا، حتى أنه لم يبق شبر من الأرض، قريباً كان أم بعيداً، إلا وأصابه داء الفساد البيئي من التلوث الكيميائي بالمخلفات الغازية، والسائلة، والصلبة، إضافة إلى التلوث الضوضائي من الأصوات المزعجة والعالية على سطح الأرض وفي أعماق البحر، والتلوث الضوئي الذي حول الليل نهاراً في الكثير من مدن العالم، والتلوث من الأشعة الكهرومغناطيسية التي من كثرتها لا يمكن حصر مصادرها.

 

وفي السنوات القليلة الماضية نُشرت الكثير من الدراسات حول تركيز الملوثات، ومنها الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، ولكن معظمها تركز على نطاق جغرافي ضيق، كمستوى الدخان في المدن، أو الدولة الواحدة، ولذلك فالدراسات التي شملت الكرة الأرضية برمتها شحيحة، ومعظمها تناولت تركيز الجسيمات الدقيقة لفترة قصيرة، أي لمدة سنة واحدة. وهذه الدراسات الميدانية أجمعت وأكدت بأن الفساد البيئي وتلوث عناصر البيئة فعلاً قد تفاقم وانتشر وتفشي في كل بيئتنا، سواء أكانت البيئة الخارجية أو البيئة الداخلية في منازلنا ومكاتبنا.

 

ولكن الدراسة التي نحن بصددِ تناولها وتقديمها هي تعتبر الأولى من نوعها والتي شملت كل منطقة جغرافية على كوكبنا، وركزت على معدل تركيز الدخان الذي يتعرض له البشر في كل يوم في كل دول العالم، كما راقبت الدراسة أنماط التغيرات المكانية والزمانية لهذا الملوث الخطير. وقد نُشرت تفاصيل هذه الدراسة في مارس 2023 في مجلة "اللانست، صحة الكوكب"(The LANCET Planetary Health)، تحت عنوان: "الدراسة الدولية الأولى حول تلوث الهواء يومياً تُبين بأنه لا يوجد مكان آمن على الأرض". فهذا البحث المعمق والشامل قام بإجراء تحليلٍ يومي لعشرين عاماً لتركيز أحد الملوثات المسببة للسرطان وهو الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي يتعرض لها البشر في كل أنحاء العالم.

 

فهذه الدراسة أجراها علماء من أستراليا ومن دول أخرى حول العالم، وتُقدم خارطة دولية للتغير في مستويات تلوث الهواء بالنسبة للجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر(PM2.5) في مدن العالم، والتغيرات التي حصلت على تركيزها خلال العقدين الماضيين، وبالتحديد من الأول من يناير 2000 إلى 31 ديسمبر 2019. وقد اعتمد الباحثون في الحصول على النتائج وقياسات تركيز الدخان من عدة مصادر وأجهزة علمية، منها محطات قياس تلوث الهواء الثابتة والمتحركة في مختلف مدن العالم، والتي بلغ عددها 5446 محطة من 65 دولة، إضافة إلى القياسات التي تُقدمها الأقمار الصناعية البيئية المصممة لهذا الغرض لعدد 175 دولة.

 

وقد توصل هذا البحث الجامع إلى نتائج مقلقة جداً تكتئب لها نفوس البشر عند سماعها، وترفع من تدهور حالتهم النفسية والعقلية، إضافة إلى أن هذه النتائج تشير واقعياً إلى الزيادة المطردة التي نلمسها الآن في أعداد وأنواع الأمراض العضوية المستعصية التي يسقط فيها البشر نتيجة لهذا الفساد البيئي الذي عمَّ الكرة الأرضية برمتها.

 

فالنتائج المخيفة والمقلقة تؤكد بأن نسبة صغيرة جداً جداً من البشر، وهي قرابة 0.001% فقط يستنشقون هواءً عليلاً نقياً خالياً من الملوثات ويتوافق مع مواصفات وتوصيات منظمة الصحة العالمية حول الحدود الآمنة لجودة الهواء بالنسبة للجسيمات الدقيقة. وبعبارة أخرى فإن 99.99% من البشر الذين يعيشون على سطح الأرض يستنشقون هواءً فاسداً مشبعاً بالملوثات، وبخاصة الجسيمات الدقيقة التي تهدد حياة الإنسان إما بخطر الوقوع في الأمراض، وإما أن يلقى نحبه في سنٍ مبكرة. 

 

 كما أن النتائج أفادت أيضاً بأن 0.18% من مساحة الكرة الأرضية فقط هي التي نستطيع أن نقول بأنها مازالت عذراء بكر لم تبلغها هذه الملوثات. وبعبارة أخرى فإن هذه النتيجة تشير إلى أن 98.8% من مساحة كوكبنا بلغها داء التلوث بالدخان الدقيق. فهاتان النتيجتان تفيدان بأن التلوث اقتحم وغزا كل شرايين بيئتنا وأجسامنا، وأنه عملياً لا تستطيع الهروب من تلوث الهواء أينما تكون، ولو كُنتَ في أعالي السماء في بروجٍ محكمة مشيدة. فسواء أكنت تعيش في المدينة، أو في القرية، بالقرب من المناطق الصناعية والحضرية، أو في الأرياف والقرى الصغيرة، فالهواء جُله فاسد وملوث، حتى لو ذهبت إلى أعالي الجبال النائية والبعيدة، فالسموم موجودة في الهواء وتلاحقك في كل بقعة من الأرض، كما هي تكون في صُحبتك حتى في أبعد المواقع في الأرض كالقطبين الشمالي والجنوبي، فالهواء لا يزال يعاني من فقرٍ شديد في نوعيته وكميته.

 

كما قّدَّرت الدراسة المعدل السنوي لتركيز الجسيمات الدقيقة في 175 دولة خلال العشرين عاماً الماضية بنحو 32.8 ميكروجرام من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي، وهذا التركيز أعلى بكثير من التركيز الآمن حسب توصيات منظمة الصحة العالمية التي تم اعتمادها في عام 2021، وهي 5 ميكروجرامات في المتر المكعب.

 

وهذه التقديرات المتعلقة بتركيز الدخان في الهواء الجوي تختلف من مدينة إلى أخرى، كما إنها تختلف من فصل إلى آخر، إضافة إلى نوعية الوقود المستخدم في كل دولة. فمصادر الدخان والجسيمات الدقيقة يمكن تصنيفها إلى نوعين، المصدر الأول هو طبيعي، أي أن يد الإنسان لا دخل لها في انبعاثها إلى الهواء الجوي، مثل الرياح والعواصف الترابية والغبارية، وحرائق الغابات، وأما المصدر الثاني فهو صناعي، أي من صُنع أيدينا، ونحن الذين نسمح بانطلاقها طواعية إلى بيئتنا، مثل وسائل المواصلات من سيارات وحافلات وطائرات وقطارات، ثم محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالوقود الأحفوري، إضافة إلى حرق الوقود الأحفوري في المصانع وعند استخراج ومعالجة النفط والغاز الطبيعي والفحم.

 

فهذه الدراسة ومثيلاتها من الدراسات المتعلقة بتلوث الهواء عامة أَجمعتْ على عدة استنتاجات عامة، منها أن تلوث الهواء غطى الكرة الأرضية برمتها، ومنها أن تلوث الهواء يُعد من أكثر المصادر هلاكاً للبشر، سواء بتعريضهم للأمراض المزمنة، أو نقلهم إلى مثواهم الأخير في سنٍ مبكرة، ولذلك توصلت منظمة الصحة العالمية إلى القول بأن الهواء الجوي الذي يستنشقه البشر يعد من أسباب إصابة الإنسان بالسرطان والأمراض المزمنة الأخرى، كما أن المنظمة صنَّفت الهواء الجوي العادي بأنه "مسرطن"، كما أَطلقت على تلوث الهواء بالقاتل الصامت.

 

فهل هناك خطر يهدد الصحة العامة للبشر أشد وأكثر من تلوث الهواء؟

الاثنين، 13 مارس 2023

مرض بلاستيكي جديد يصيب الطيور، فهل سيصيب الإنسان أيضاً؟


بعض الأمراض الناجمة عن تلوث البيئة بالمخلفات الصلبة أو الغازية أو السائلة لا تنكشف مباشرة على الإنسان، وإنما تكون الحياة الفطرية الحيوانية هي البوابة الأولى التي تلج منها، وتتراكم فيها مع الوقت، ومن ثم تنتقل إلى الإنسان عبر السلسلة الغذائية عندما يتغذى الإنسان على هذه الكائنات التي تحتوي على سموم المخلفات. فهذه الكائنات الحية تُعد المؤشر الحيوي الأول، وتعمل كجهاز إنذارٍ مبكر يكشف ظهور المرض في المستقبل، وهي بذلك تُحذر البشر من وقوع كارثة صحية ووباء ينتشر في كل مكان.

 

ففي الخمسينيات من القرن المنصرم، وبالتحديد في مدينة مِينَمَاتَا اليابانية الواقعة على خليج مينماتا، ظهرت فجأة أعراض غريبة لا تفسير لها على القطط في تلك المدينة، فقد شاهد الناس هذه القطط وهي ترقص وتتحرك سريعاً في محيط دائري حول نفسها، ثم ما تلبث أن تلقى حتفها وتسقط صريعة على الأرض. وهذه المشاهد المرعبة ملأت قلوب سكان المدينة بالفزع والخوف الشديدين، وألقت في نفوسهم القلق العصيب، وجعلتهم في حيرة عميقة من أمرهم، وثارت في صدورهم التساؤلات المريبة لتفسير هذه المشاهد التي نزلت على القطط في مدينتهم.

 

فهذه الصور الحية التي رآها الناس أمامهم كانت هي المشهد الأول من أكبر كارثة شهدتها اليابان، بل والعالم أجمع، والتي تداعياتها مازالت يعاني منها الشعب الياباني، وشعوب العالم على حدٍ سواء، حتى أن دول العالم برعاية من الأمم المتحدة اجتمعتْ مرات كثيرة لمناقشة هذه الكارثة، ومواجهة أسبابها ومصادرها، وكان آخرها الموافقة على معاهدة دولية تحت مسمى "معاهدة مينماتا". فهذه القطط التي لقت نحبها في منظر غريب ومهيب لم يشهده الإنسان من قبل، كانت تعاني من تشبع عنصر الزئبق الشديد السمية في جسمها بسبب أكلها للأسماك التي كانت ملوثة بالزئبق، وهذا الزئبق دخل مياه الخليج وتراكم يوماً بعد يوم في الكائنات النباتية فالحيوانية، ثم الأسماك نتيجة لصرف أحد المصانع لمخلفاته السائلة الملوثة بالزئبق في البحيرة. وهذه الأسماك نفسها المسمومة كان قد تغذى عليها الآلاف من سكان المدينة، فنزل عليهم كلهم بعد فترة قليلة من مشهد القطط، مرض عضال فريد من نوعه أُطلق عليه "مرض مينماتا"، فكانت القطط هي المؤشر الحيوي الأول لهذه الكارثة البيئية الصحية، وأعطت إنذاراً مبكراً على وجود مرضٍ في مجتمع الإنسان. 

 

وبعدها بسنوات قليلة، وبالتحديد في السبعينيات من القرن المنصرم، وبعد أن أفرط الإنسان في كل بقاع العالم في استخدام المبيد الحشري المشهور "دي دي تي"، بدأت الطيور المائية والجارحة بوضع بيضٍ هشٍ ينكسر بسهولة قبل أن يفقس، مما قد يؤدي على المدى البعيد إلى انقراض هذا النوع من الطيور. وكان السبب هو انتشار وتراكم المبيد الحشري في كل شرايين البيئة، ثم انتقاله إلى الحياة الفطرية بجميع أنواعها، وانعكس تفشي هذا المبيد السام على الطيور كمؤشر حيوي أولي وإنذار مبكر يفيد بوجود مرض ما في البيئة، ثم ظهر رويداً رويداً على الإنسان من خلال تفشي المبيد في كل عضو، بل وفي كل خلية من خلايا الإنسان، حتى وصل إلى حليب الأم، فنزلت على الإنسان أمراض مستعصية، كمرض السرطان.

 

واليوم نقف أمام مؤشر حيوي آخر يكشف عن احتمال وجود مرض جديد في بيئتنا، ويتمثل في إصابة بعض أنواع الطيور المائية(flesh-footed shearwaters) الموجودة في جزيرة "لورد هوي" الأسترالية(Lord Howe Island) من نوع ( Ardenna carneipes) بمرضٍ جديد يكتشفه العلماء لأول مرة، ويسبب تليفاً في مسالك ومجرى الجهاز الهضمي لهذه الطيور نتيجة لأكلها مواد غذائية تحتوي على مخلفات البلاستيك المتناهية في الصغر، ولذلك أُطلق على هذا المرض "بلاستيك أوْسِيسْ" (plasticosis)، أو مرض التليف البلاستيكي للطيور.

 

وهذا الاسم يُطلق على مجموعة من أمراض التليف(fibrotic diseases) التي تصيب أعضاء جسم الإنسان، سواء أكان التليف لأنسجة الجهاز التنفسي، أو  الجهاز الهضمي أو غيرهما. ومن أمثلة أمراض التليف التي تصيب البشر، والمعروفة منذ عقود طويلة من الزمن هي داء الأسْبِسْتُوسِسْ(asbestosis )، أو سرطان الرئة، وهو مرضْ تليفْ رئوي مزمن يحدث بسبب استنشاق ألياف الأسبستوس المعدنية الموجودة في الطبيعية، وقد يصيب هذا المرض أيضاً بتليف أنسجة المعدة والحنجرة. كذلك هناك السِلِيكُوسِسْ (Silicosis)، وهو أيضاً يصيب الرئتين بالتندب والتليف عند استنشاق غبار السليكا البلورية(الرمل الدقيق جداً) حيث يتجمع في مسالك ومجرى الجهاز التنفسي ويصل أخيراً إلى الرئتين، فيصيب الإنسان بسرطان نادر من نوعه في الرئة.

 

فالمرض الجديد الذي نسلط عليه الضوء اليوم ناجم عن التعرض للمخلفات الميكروبلاستيكية، أو النانوبلاستيكية المجهرية الحجم، واكتشفه العلماء من متحف التاريخ الطبيعي في بريطانيا، ونشروا نتائج الدراسة الميدانية في 15 مايو 2023 في مجلة "المواد الخطرة" (Journal of Hazardous Materials) تحت عنوان: "بلاستيك أُوسِيسْ: تشخيص المخلفات الميكروبلاستيكية الصغيرة والكبيرة التي لها علاقة بتليف أنسجة الطيور المائية".

 

وفي هذه الدراسة قام العلماء بجمع 21 من الطيور الميتة من الجزيرة الأسترالية في الفترة من 28 أبريل إلى 8 مايو 2021، وتم الكشف عن المخلفات البلاستيكية في أجزاء مختلفة من الجهاز الهضمي، والتعرف عن التندب الذي ظهر في الأنسجة والالتهابات الناجمة عنه، والتي أدت إلى تليف الأنسجة والخلايا بسبب وجود المخلفات البلاستيكية. وهذا التليف يضعف من فاعلية وقدرة الجهاز الهضمي في أداء وظيفته، ويجعله أكثر عرضة للعدوى من الطفيليات وغيرها، مما يؤدي إلى موتها. وجدير بالذكر أن العلماء أفادوا بأن هذه الطيور التي خضعت للدراسة والتحليل كانت ظاهرياً وسطحياً تبدوا سليمة وفي صحة جيدة، كالذي يصاب بالورم السرطاني لفترة من الزمن، ولا يعلم عن وجوده داخل جسمه، إلا بعد أن يستفحل وينتشر في جميع الأعضاء. 

 

فهذا المرض البلاستيكي الذي انكشف على الطيور ما هو إلا النذير الأول، ويعتبر أول مشهدٍ عقيم لمرضٍ قادم لا محالة لباقي أنواع الكائنات الفطرية، والذي سينتقل حتماً إلى الإنسان.

 

فهل سنأخذ هذا المؤشر الأولي بجدية فسنستعد من الآن للتخطيط لمواجهة هذا الوباء القادم من المخلفات البلاستيكية والوقاية منه قبل أن يتفاقم ويتعاظم في أجسادنا؟

الاثنين، 6 مارس 2023

هل تم فك لغز المرض الأمريكي الغامض؟

منذ أن برز مرض هافانا الغامض على السطح، وبالتحديد منذ أغسطس 2016 في السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا، وأنا أُتابع وأراقب كافة التفاصيل المتعلقة بهذه المرض الغريب الذي أصاب الدبلوماسيين الأمريكيين، وأكتبُ عن التطورات التي تُستجد حول مصدر وأسباب هذه الظاهرة الصحية الجديدة والأعراض المرضية المتباينة والفريدة من نوعها، فأول مقال كتبتُه لسبر غور هذه الظاهرة المرضية كان في 29 أكتوبر 2017 تحت عنوان: "ماذا حدث لموظفي السفارة الأمريكية في كوبا".

 

ومنذ ذلك الوقت، أي منذ أكثر من سبع سنوات والقصة مازالت غامضة كما ظهرت منذ أول يوم، والتفسيرات حول انكشافها مازالت غير نهائية ولا يمكن علمياً الوثوق بها، ومصادر وأسباب الأعراض المرضية العقيمة التي تعرض لها أكثر من 1500 دبلوماسي وعميل أمريكي يعملون في هافانا بكوبا، أو في شنغهاي في الصين، أو في النمسا، أو كولومبيا مازالت تحت التحقيق والدراسة، ولم تنجح في فك رموز وشفرات هذه الحالات الصحية الغريبة( anomalous health incidents). 

 

فالدراسات والتحقيقات لإيجاد الأجوبة الصحيحة والوصول إلى الحقيقة وحل اللغز المحير لم تتوقف، وآخرها وردتْ في النشرة الإعلامية التي صدرت في الأول من مارس 2023، تحت عنوان: "بيان مدير الاستخبارات القومية حول تقييم مجتمع الاستخبارات عن الحالات المرضية الغريبة". فهذا التحقيق والتقييم الجديد شمل أكثر من 1500 حالة مرضية لموظفين أمريكيين يعملون خارج أمريكا في 96 دولة، واستغرق هذا التحقيق الذي أجرته سبع وكالات استخباراتية ست سنوات، وشمل دراسة شاملة ودقيقة لجميع الحالات التي وقعتْ بين عامين من 2016 إلى 2018، حيث وصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية(سي أي إيه)( Central Intelligence Agency) بيل بارنز(Bill Burns) هذا التقرير قائلاً: "إنه التحقيق الأكبر والأكثر شمولية في تاريخ الوكالة، وهو يعكس أكثر من عامين من جمع المعلومات والأعمال الاستقصائية وتحليل هذه المعلومات من مجتمع الاستخبارات لكل ما يحيط بالحادثة قبل وأثناء وبعد وقوعها".

 

وهذا التقرير الأخير لمجتمع المخابرات عن الحالات المرضية الشاذة تم تصنيفه بأنه "سري"، حيث قُدم ملخص الاستنتاجات في البيان الصحافي الذي صرحت به مديرة الاستخبارات القومية، أفريل هاينز (Avril Haines) قائلة: "نحن اليوم نُشارككم جهود التحقيقات والاستنتاجات التي توصل إليها تقييم مجتمع الاستخبارات حول الحالات الصحية الغريبة"، كما ورد في النشرة: "معظم وكالات مجتمع الاستخبارات استنتج الآن بأنه من المستبعد بأن هناك جهة أجنبية تتحمل مسؤولية الحالات المرضية الغريبة التي تعرض لها بعض الدبلوماسيين..... ومازالت هناك ثغرات قائمة بسبب التحديات المحيطة بجمع المعلومات من الجهات الأجنبية". كذلك استنتج التقرير حسب ما ورد في البيان بأن: "الأعراض التي انكشفت على الدبلوماسيين من المحتمل أن تكون لعوامل لا علاقة لها بجهات أجنبية عدائية، مثل الحالات المرضية التي كانوا يعانون منها سابقاً، أو أمراض معروفة مسبقاً، أو عوامل بيئية".

 

فهذا التحقيق الشامل استبعد إحدى النظريات والتفسيرات التي كانت مطروحة بقوة من قبل، والتي تتمثل في وجود سلاحٍ أجنبي خارجي وعدائي تعرض له الموظفون، مثل "السلاح الصوتي"، أو "سلاح الأشعة الكهرومغناطيسية"(pulsed electromagnetic energy) الذي تنبعث منه طاقة وموجات في مجال الميكروويف، أو ترددات الراديو(radio-frequency energy). ففي 30  أغسطس 2018 نُشرت دراسة في مجلة "الكهرومغناطيسية الحيوية"(Bio Electro Magnetics) وخلصت إلى أن التعرض لأشعة الميكروويف الموجودة في أفران الميكروويف التي نستخدمها لتسخين الطعام وفي الهواتف النقالة قد يُفسر هذه الأعراض المرضية الغريبة التي أُصيب بها الوفد الأمريكي في كوبا والصين، فعندما يتعرض الإنسان لأشعة الميكروويف المُركزة والشديدة فإنه سيحس بالضوضاء العالية والأصوات المرتفعة، وينعكس هذا على الأمن الصحي من حيث الشعور بالصداع والإغماء والإرهاق ثم تلف وارتجاج في المخ، حسب الدراسة المنشورة في 20 مارس 2018 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين حول "بيانات عصبية للمسؤولين الحكوميين الذين أفادوا لتعرضهم لظواهر صوتية وحسية في كوبا"، حيث تم فحص وتقييم 21 دبلوماسياً أمريكياً كانوا يعملون في كوبا، وأشارت الدراسة إلى أن شكوى هؤلاء العاملين في السفارة الأمريكية في كوبا تفيد بتعرض هؤلاء الأفراد لخلل في شبكات المخ، وأفادت بأن هذه الأعراض تُشبه من تعرض لحادثة ارتجاج في المخ جراء حادثة سيارة، أو السقوط من مكان مرتفع، أو حدوث انفجار، ولكن الدراسة لم تحدد مصدر وأسباب هذه الحالة المرضية.

 

كما أن البحث المنشور في أكتوبر 2018 في مجلة الحسابات العصبية (Neural Computation) يُقدم الإثباتات والدلائل العلمية التي تؤشر إلى أن "الهجوم بأشعة الميكروويف" هو السبب وراء مرض الأمريكيين.

 

كذلك نُشر تقرير في السادس من ديسمبر 2020 من "الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب"(National Academies of Sciences, Engineering, and Medicine) بعنوان: "تقييم مرض موظفي الحكومة الأمريكية وعائلاتهم في السفارات الخارجية". وهذا التقرير قام به فريق مكون من 19 خبيراً من تخصصات متعددة منها علم الأعصاب والإشعاع وغيرهما، وتكون التقرير من 64 صفحة، وجاءت الاستنتاجات الختامية حسب ما ورد في التقرير بأن: "الأعراض التي تم كشفها على أول حالة في السفارة الأمريكية في مدينة هافانا بكوبا كانت تتمثل في الاستيقاظ من النوم والشعور بآلام شديدة وضغط شديد في الوجه، والاحساس بوجود صوتٍ حاد ومرتفع جداً في أحد الأذنين، ثم فقدان التوازن والإغماء. وبعد أيام انكشفت أعراض أخرى تتمثل في مشكلات واضطرابات في الرؤية، وصعوبات ذهنية وعقلية، وفقدان في السمع، وصداع مزمن، والشعور بالتعب والإرهاق، وفقدان الذاكرة"، كما جاء في التقرير بأن: "لجنة الخبراء تَشعر بأن الأعراض التي أصابت الدبلوماسيين تتوافق مع التأثيرات للتعرض المباشر للأشعة الكهرومغناطيسية في مجال طاقة وترددات الراديو والميكروويف. كما جاء أيضاً في التقرير: "يبدو أن ذبذبات ترددات الراديو الموجهة هي الآلية الأكثر قبولاً لتفسير هذه الحالات المرضية التي تمت دراستها من قبل اللجنة، إضافة إلى تأثيرات الحالات النفسية لهؤلاء الموظفين".

 

ولذلك وبعد مضي أكثر من سبع سنوات على هذه الحالات الصحية الغريبة، وبعد الكثير من الدراسات والتحقيقات التي لم تنته بعد، ولم تُنشر نتائجها حتى الآن، إلا أن الغموض مازال يحوم حول هذه الظاهرة الغريبة. والخلاصة التي أستطيع أن أُقدمها لكم هي أن الوقائع المرضية صحيحة، والحكومة الأمريكية جادة في فك شفراتها وتؤكد على ذلك من خلال عدة مؤشرات منها تعويض المتضررين مادياً، ومنها موافقة مجلس النواب بالإجماع في 21 سبتمبر 2021، وهذه من الحالات النادرة أن يكون هناك إجماع في المجلس وموافقة من الحزبين، على قانون هافانا(Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks Act)، حيث وقَّع بايدن على القانون في 8 أكتوبر 2021 وقال متعهداً بإيجاد حل لهذه الحالات: "أنا سعيد بالتوقيع على قانون هافانا من أجل ضمان بأننا نقوم كل ما في وسعنا لمساعدة أفراد الحكومة الأمريكية الذين يعانون من الحالات الصحية الغريبة"، كما أضاف: "مواجهة هذه الحالات هي من الأولويات الرئيسة لإدارتي". 

 

والأيام القادمة قد تكون كفيلة بإزالة النقاب عن اللغز المحير الذي يحيط بهذا المرض الغامض.