الخميس، 2 مارس 2023

كيف تحول فرن الغاز المنزلي إلى قضية سياسية؟


امتلأت الصحف والمجلات الغربية العريقة والمعروفة الواسعة الانتشار، وبخاصة الصادرة في الولايات المتحدة الأمريكية بالمقالات والتحقيقات العلمية، والسياسية، والثقافية، والقانونية حول الفرن المنزلي، وكأن الفرن المنزلي جهاز جديد، وآلة حديثة دخلت لتوها في الأسواق وإلى منازلنا. فماذا حدث فجأة حتى يجذب الفرن المنزلي الذي يعمل بالغاز الطبيعي والمستخدم منذ الثلاثينيات من القرن المنصرم هذا الاهتمام الواسع غير الطبيعي من رجال العلم، والسياسة، والقانون، والاجتماع ووسائل الإعلام المختلفة؟

 

في الحقيقة فإن الفرن المنزلي بشكلٍ عام، وبالتحديد الفرن الذي يعمل بالغاز الطبيعي يُعتبر عند العلماء منذ عقود من الزمن أحد مصادر تدهور جودة الهواء في البيئة المنزلية، وأحد مصادر الملوثات في المطبخ بشكلٍ خاص. ولكن في السنوات القليلة الماضية بدأت تنكشف دراسات ميدانية حول مصادر التلوث في البيئات الداخلية بشكل عام، والمنزل بشكل خاص، وعلاقة هذه المصادر للملوثات بصحة الساكنين في هذه البيئات، وبخاصة صحة الأطفال. ومن مجالات البحث التي ولج فيها العلماء هو احتراق الغاز الطبيعي في الفرن المنزلي في المطبخ، ونوعية وكمية الملوثات التي تنبعث منها وتأثيرها وأضرارها على سكان المنزل. وهذا الجانب الصحي هو الذي أثار اهتمام الناس بمختلف تخصصاتهم واهتماماتهم، وآخرها الدراسة التي أشارت إلى وجود علاقة بين الفرن المنزلي الذي يعمل بالغاز واحتمال الإصابة بأمراض الجهاز التنفسي، وبالتحديد الربو عند الأطفال. فقد نُشرت هذه الدراسة في المجلة العالمية لأبحاث البيئة والصحة العامة(International Journal of Environmental Research and Public Health) في 21 ديسمبر 2022 تحت عنوان:" فرن الغاز ونسبة الإصابة بالربو عند الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية"، وهذه الدراسة توصلت إلى نتيجة ملخصها بأن استخدام فرن الغاز المنزلي يزيد من مخاطر الإصابة بالربو عند الأطفال، حيث إن 12.7% من حالات الربو في الولايات المتحدة الأمريكية مرتبطة باستخدام فرن الغاز المنزلي، وهذه النسبة نفسها التي يصاب بها الأطفال عند تعرضهم للتدخين القسري(secondhand smoke) في المنزل.

 

فمثل هذه الدراسات اضطرت الجهات الاتحادية المعنية بحماية المستهلك مثل الهيئة الأمريكية المعنية بسلامة المنتجات الاستهلاكية(US Consumer Product Safety Commission) إلى الإعلان عن عزمها تنظيم استخدام الفرن المنزلي، ووضع معايير لتركيز الملوثات المنبعثة عند احتراق الغاز في الفرن، وربما منعه في المستقبل، كما قال رئيس الهيئة ريشارد ترومكا(Richard Trumka)بأن الفرن المنزلي "خطر مخفي"، حسب ما هو منشور في "البلومبيرج" في 16 يناير 2023، كما أضاف بأن الحكومة تُشجع وتدعم التحول من الفرن الذي يعمل بالغاز إلى الفرن الكهربائي.

 

فهذا الإعلان، وهذه التصريحات من حماية المستهلك، أشعلت معركة سياسية وثقافية في أمريكا وتوسعت دائرتها في زمن قصير، فأثارت رجال السياسية أولاً قبل رجال القانون والعلماء، وبخاصة السياسيون الذين ينتمون إلى الحزب الجمهوري واليمين المتشدد، وانتهزوها فرصة للهجوم على الحزب الديمقراطي الحاكم، فقد كتب بعضهم بأسلوب غاضب وساخر في التويتر، منهم روني جاكسون عضو الكونجرس الجمهوري عن ولاية تكساس الذي قال: "لن أتخلى عن فرن الغاز"، ومنهم عضوة الكونجرس الجمهورية عن ولاية جورجيا مارجوريا جرين(Marjorie Taylor Greene)المعروفة بتشددها وتطرفها، حيث كتبت رداً على احتمال منع هذا الجهاز: "بالطبع لا، من الواضح أنهم لا يطبخون". كذلك كتب عضو مجلس الشيوخ الجمهوري من ولاية أركنساس: "الديمقراطيون قادمون إلى أجهزتك المطبخية، ويرغبون في التحكم في كل جانب من حياتك". وعلاوة على ذلك، فقد وصل الاحتدام السياسي في هذه القضية إلى أعلى مستوى الهرم التنفيذي لأمريكا، حيث ولج البيت الأبيض نفسه في هذه المعركة لتوضيح الصورة وبيان سياسة بايدن، فقالت الناطقة باسم البيت الأبيض في 18 يناير 2023 بأن "الرئيس لا يؤيد منع فرن الغاز، وهيئة سلامة منتجات المستهلك، وهي مستقلة، لا تمنع فرن الغاز".

 

وهذا الصراع الجديد الذي برز على السطح اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية، كان مجالاً لأبحاثي التي بدأتُها في الثمانينيات من القرن المنصرم تحت مظلة كبيرة هي "البيئة الداخلية"، وبالتحديد جودة الهواء في البيئة المنزلية. فهناك مصادر كثيرة تلوث الهواء الجوي في المنزل وتدهور نوعيته، ولها تداعيات صحية على سكان المنزل، ومن هذه المصادر الفرن المنزلي الذي يعمل بالغاز.

 

فعندما يحترق الغاز في الفرن، كأية عملية احتراق للوقود الأحفوري في السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والطائرات، تنبعث عنه عدة ملوثات، منها غاز ثاني أكسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، والجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم، وغاز الميثان، وثاني أكسيد الكربون. وهذه الملوثات إذا لم يتم التخلص منها من خلال التهوية الجيدة، سواء أكانت طبيعية أو ميكانيكية، فإنها تتراكم مع الوقت في بيئة المطبخ، حيث مصدر التلوث، ثم تنتقل إلى باقي الغرف في البيت، وتؤثر على صحة الساكنين على المدى البعيد، وفي مثل هذه الحالات فإن تركيز الملوثات في داخل المنزل، وبخاصة في المطبخ يكون أعلى من خارج المنزل. وقد أثبت هذه الحقيقة الآن في الدراسة التي نشرتُها في مجلة "البيئة العالمية"(Environment International) في عام 1992 تحت عنوان: تركيز غاز ثاني أكسيد النيتروجين في البيئة الداخلية المنزلية في البحرين"، حيث قمتُ بقياس تركيز الغاز في 32 منزلاً في البيئة الداخلية، في المطبخ، والصالة، وغرفة النوم وخارج المنزل مباشرة. وجاءت النتائج لتؤكد بأن معدل التركيز في المنزل كان أعلى من معدل التركيز في الخارج، وأعلى تركيز لغاز ثاني أكسيد النيتروجين كان في المطبخ، حيث فرن الغاز ومصدر التلوث بهذا الغاز، وبلغ التركيز في أحد المطابخ مستوى مرتفع جداً هو 141.2 ميكروجرام من ثاني أكسيد النيتروجين في المتر المكعب من هواء المطبخ.

 

وفي هذه القضية البيئية الصحية أود التنبيه إلى عدم نقاط لتجنب مردوداتها على صحتنا وجودة هواء منازلنا، كما يلي:

أولاً: التأكد من أن عملية احتراق الغاز في الفرن تعمل بطريقة صحيحة، حتى نُخفض من مستوى ونوعية الملوثات التي تنبعث من هذه العملية.

ثانياً: عمل تهوية جيدة في المطبخ بشكلٍ خاص، وفي باقي أرجاء البيت عامة، حتى تخرج الملوثات من بيئة المنزل ولا تسبب أي ضرر صحي للناس.

ثالثاً: في حالة أن المطبخ ضيق ولا توجد به تهوية مناسبة، فالفرن الكهربائي قد يكون بديلاً أفضل، ولكن في الوقت نفسه فإن هناك الملوثات التي تنتج عن عملية الطبخ نفسها، سواء أكان الفرن يعمل بالغاز أو الكهرباء، ولذلك فالتهوية ضرورية في جميع الأحوال. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق