الأحد، 26 مارس 2023

الأمم المتحدة وضوضاء السفن

 ونحن نعيش على سطح الأرض نعاني نفسياً وعضوياً من الضوضاء والأصوات المزعجة التي نتعرض لها يومياً، سواء أكانت من مصادر الضوضاء في عقر دارنا في منازلنا من أصوات المكيفات المرتفعة، أو من المصادر المزعجة خارج المنزل من أبواق السيارات المرتفعة ومن آلات حفر الشوارع (الوَرْ وَرْ) بمختلف أحجامها وقوتها، أو من أصوات الطائرات

فجميع هذه المصادر المسببة للتلوث الضوضائي تحت سيطرتنا المباشرة، ويمكننا بطريقة أو أخرى التحكم فيها، والتكيف معها، وخفض تأثيرها على صحتنا النفسية والعضوية. ولكن ماذا لو كانت هذه الأصوات ومصادر الضوضاء تحت البحر الصامت والغامض بكائناته الفطرية النباتية والحيوانية التي تسبح في رحاب هذا البحر العظيم، فتتعرض لهذه الموجات العالية والشديدة المستمرة ليلاً نهاراً، فهل بمقدور هذه الكائنات أن تفعل شيئاً يُجنبها هذا التلوث الضوضائي تحت الماء، ويخفف عنها آثارها التي لا يعلم مداها إلا الله على المستوى البعيد؟ وهل بإمكانها أن ترفع شكواها ومعاناتها إلى أحد لكي يشفيها مما أصابها من توتر وخلل وعِلل طوال قرون طويلة من الزمن؟

 

ولحسن الحظ أن هناك منظمات تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، منها "المنظمة البحرية الدولية"( International Maritime Organization) المعنية بسلامة السفن على المستوى الدولي ومنع التلوث البحري، حيث تنبهتْ مؤخراً بعد صرخات العلماء لعقود طويلة من الزمن إلى أضرار هذا التلوث الضوضائي من خلال الأبحاث الميدانية التي أُجريت ومازالت تُجرى حتى يومنا هذا، ولذلك فهذه المنظمات الأممية تحاول منذ زمنٍ قليل التصدي، ولو بجهودٍ بسيطة وبطيئة جداً، لهذه الظاهرة المتفاقمة تحت سطح البحر، وتعمل على مواجهة المصادر التي تزعزع أمن وسلامة الكائنات الفطرية البحرية.

 

ولكن مع الأسف أن هذه الجهود الدولية والعمل الدولي المشترك لا ينبني ولا يهدف إلى منع واستئصال هذه المصادر الملوثة للبحر من جذورها، ولا يسعى إلى وقاية الكائنات البحرية كلياً من شر هذا التلوث الضوضائي البحري، وهو في تقديري الأفضل كاستراتيجية وسياسة مستدامة بعيدة الأمد، ولكن جُل هذه الجهود تصب فقط في السياسة العلاجية المتمثلة في تقنين وخفض مستوى الضوضاء الصادرة عن بعض هذه المصادر، وليس كلها. وعلاوة على ذلك فإن هذه الجهود لا تواكب التحديات الناجمة عن الزيادة المطردة في مصادر الأصوات والموجات الضوضائية المرتفعة في كل بحار ومحيطات العالم التي أصبحت أشد تنكيلاً، وأكثر انتشاراً. فعلى سبيل المثال، الأصوات والموجات التي تنبعث من مصادر بشرية( anthrophony)، منها مئات الآلاف من السفن التي تمخر عباب البحار وتجوب محيطات العالم، سواء أكانت السفن والمدن العملاقة السياحية، أو البارجات النفطية، أو السفن الضخمة التجارية، أو سفن الصيد، أو السفن والطرادات والفرقاطات الحربية. كذلك هناك عمليات الحفر البحرية التي تستمر طوال اليوم، سواء في البحار الضحلة، أو في أعماق المحيطات المظلمة للتنقيب عن النفط والغاز والمعادن، فتزلزل قاع البحر وتُحدث موجات صوتية شديدة تسير إلى مسافات طويلة وأعماق كبيرة تحت سطح البحر. ومن جانب آخر هناك السفن التي تحتوي على أجهزة السونار التي تُطلق موجات صوتية للكشف عن أي جسم تحت سطح الماء وتحديد موقعه ومكانه بالضبط، إضافة إلى دراسة قاع البحر. ومن المصادر الأخرى للضوضاء عمل القواعد البحرية للتنقيب عن النفط والغاز وغيرهما وإحداث التفجيرات القاعية، إضافة إلى إنشاء قواعد لطاقة الرياح.  

 

فكل هذه المصادر التي لا تعد ولا تحصى الملوثة للعمود المائي في البحار والمحيطات والمؤثرة على الكائنات البحرية التي تسبح في الماء أو التي تعيش في قاع البحر، قد كشف عنها العلماء في أبحاث كثيرة منشورة في كل دول العالم، والأبحاث مازالت جارية ومستمرة ليس فقط حول تأثير الضوضاء على الحياة الفطرية، وإنما الدخول مستقبلاً في دراسة تأثير هذه التداعيات على الحياة الفطرية على الإنسان بشكل مباشر أو غير مباشر على المدى القريب والبعيد.

 

فهناك دراسة نُشرت في مجلة "الطبيعة" في 3 نوفمبر 2022 تحت عنوان: "تأثير حركة السفن وضوضاء المحيط على هرمونات التوتر في الحوت الرمادي"، حيث قامت الدراسة بجمع عينات من براز هذا الحوت(fecal glucocorticoid metabolite)، وأجرتْ عليها تحليلات مخبرية لمعرفة تركيز مجموعة من هرمونات الستيرويد(steroid hormones)، ومنها التي تقيس نسبة التوتر والإجهاد الذي عانى منه الحوت. وقد خلصت نتائج التحاليل إلى أن هناك علاقة بين تركيز هرمونات التوتر والمواقع التي ترتفع فيها مستويات الضوضاء والأصوات العالية المستمرة، أي أن الأصوات الشديدة تحت البحر أثرت فسيولوجياً على الحوت وعلى عملياته الحيوية داخل الجسم، وبالطبع هذه التأثيرات ستكون مماثلة على الكائنات الأخرى.

 

كذلك نُشرت دراسة في مجلة "العلوم" في 5 فبراير 2021 تحت عنوان: "الأصوات المزعجة من مصادر بشرية"، وقامت بحصر وتلخيص الأضرار التي اكتشفها العلماء حتى الآن لهذا التلوث الضوضائي. فقد أكدت الدراسة أن الموجات الصوتية تسير مسافات أطول وبسرعة أكبر في الماء مقارنة بتحركها في الهواء، ولذلك تأثيرها سيقع على منطقة واسعة من البيئة البحرية. ومن هذه التأثيرات أن هذه الأمواج التي يطلقها البشر تتضارب وتتعارض مع الموجات الفطرية التي تصدرها الحيوانات المائية لأسباب كثيرة منها مساعدتها في الإبحار والانتقال من موقع إلى آخر، ومنها التواصل مع بعض، والتكاثر، واصطياد الحيوانات الأخرى.

 

ومن أجل مواجهة كل هذه المصادر الضوضائية والتحديات الناجمة عنها، قررت المنظمة البحرية الدولية في 27 يناير 2023 مراجعة معاييرها القديمة المتعلقة بالضوضاء والتي وضعتها في 2014 حول السفن التجارية، ومنها تغيير تصميم مراوح السفن، وخفض السرعة، وتغيير المسارات الملاحية لهذه السفن وتجنب المناطق الحساسة الثرية بالتنوع الحيوي التجاري وغير التجاري.

ولكن هذا الجهد، وجهود منظمات أممية أخرى لا ترقى إلى حجم وسرعة الضرر الذي يقع على الكائنات البحرية، ليس من انعكاسات التلوث الضوضائي فحسب، وإنما هناك ضغوطاً كثيرة أخرى تتعرض لها هذا الكائنات في الوقت نفسه فتزيد من حدة المشكلة الصحية، منها التغير المناخي وتداعياته المتمثلة في ارتفاع حرارة وحمضية مياه البحار، ومنها تدهور جودة مياه البحر بسبب التلوث، ومنها تدهور التنوع الحيوي من الناحيتين النوعية والكمية، فكل هذه المصادر تشكل ضغوطاً تراكمية ومجموعية تهدد سلامة وصحة الكائنات البحرية، ومن ثم حياة الإنسان.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق