الخميس، 16 مارس 2023

ظهر الفساد البيئي في البر والبحر والجو


يقول سبحانه وتعالى: "ظَهرَ الفسادُ في البر والبحر بما كَسبَتْ أيدي الناس"، والفساد المقصود حسب مفهوم غالبية الناس هو الفساد الأخلاقي والاجتماعي والديني، ولكنني أَضفتُ نوعاً آخر، وجانباً جديداً من الفساد، حسب نتائج دراسة الماجستير لأحد طلابي في فبراير 1994 تحت عنوان: "دور الإسلام في حماية البيئة"، إضافة إلى كتابي المنشور في 1994 تحت عنوان: "حماية الحياة الفطرية في الإسلام"، وهذا الفساد الجديد هو الفساد البيئي الشامل بسبب أيدينا الآثمة التي استباحت حرمات بيئتنا، فتدهورت جميع مكونات وعناصر البيئة الحية وغير الحية، في البر، والبحر، والهواء السفلى والهواء العليا، حتى أنه لم يبق شبر من الأرض، قريباً كان أم بعيداً، إلا وأصابه داء الفساد البيئي من التلوث الكيميائي بالمخلفات الغازية، والسائلة، والصلبة، إضافة إلى التلوث الضوضائي من الأصوات المزعجة والعالية على سطح الأرض وفي أعماق البحر، والتلوث الضوئي الذي حول الليل نهاراً في الكثير من مدن العالم، والتلوث من الأشعة الكهرومغناطيسية التي من كثرتها لا يمكن حصر مصادرها.

 

وفي السنوات القليلة الماضية نُشرت الكثير من الدراسات حول تركيز الملوثات، ومنها الدخان، أو الجسيمات الدقيقة في الهواء الجوي، ولكن معظمها تركز على نطاق جغرافي ضيق، كمستوى الدخان في المدن، أو الدولة الواحدة، ولذلك فالدراسات التي شملت الكرة الأرضية برمتها شحيحة، ومعظمها تناولت تركيز الجسيمات الدقيقة لفترة قصيرة، أي لمدة سنة واحدة. وهذه الدراسات الميدانية أجمعت وأكدت بأن الفساد البيئي وتلوث عناصر البيئة فعلاً قد تفاقم وانتشر وتفشي في كل بيئتنا، سواء أكانت البيئة الخارجية أو البيئة الداخلية في منازلنا ومكاتبنا.

 

ولكن الدراسة التي نحن بصددِ تناولها وتقديمها هي تعتبر الأولى من نوعها والتي شملت كل منطقة جغرافية على كوكبنا، وركزت على معدل تركيز الدخان الذي يتعرض له البشر في كل يوم في كل دول العالم، كما راقبت الدراسة أنماط التغيرات المكانية والزمانية لهذا الملوث الخطير. وقد نُشرت تفاصيل هذه الدراسة في مارس 2023 في مجلة "اللانست، صحة الكوكب"(The LANCET Planetary Health)، تحت عنوان: "الدراسة الدولية الأولى حول تلوث الهواء يومياً تُبين بأنه لا يوجد مكان آمن على الأرض". فهذا البحث المعمق والشامل قام بإجراء تحليلٍ يومي لعشرين عاماً لتركيز أحد الملوثات المسببة للسرطان وهو الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي يتعرض لها البشر في كل أنحاء العالم.

 

فهذه الدراسة أجراها علماء من أستراليا ومن دول أخرى حول العالم، وتُقدم خارطة دولية للتغير في مستويات تلوث الهواء بالنسبة للجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر(PM2.5) في مدن العالم، والتغيرات التي حصلت على تركيزها خلال العقدين الماضيين، وبالتحديد من الأول من يناير 2000 إلى 31 ديسمبر 2019. وقد اعتمد الباحثون في الحصول على النتائج وقياسات تركيز الدخان من عدة مصادر وأجهزة علمية، منها محطات قياس تلوث الهواء الثابتة والمتحركة في مختلف مدن العالم، والتي بلغ عددها 5446 محطة من 65 دولة، إضافة إلى القياسات التي تُقدمها الأقمار الصناعية البيئية المصممة لهذا الغرض لعدد 175 دولة.

 

وقد توصل هذا البحث الجامع إلى نتائج مقلقة جداً تكتئب لها نفوس البشر عند سماعها، وترفع من تدهور حالتهم النفسية والعقلية، إضافة إلى أن هذه النتائج تشير واقعياً إلى الزيادة المطردة التي نلمسها الآن في أعداد وأنواع الأمراض العضوية المستعصية التي يسقط فيها البشر نتيجة لهذا الفساد البيئي الذي عمَّ الكرة الأرضية برمتها.

 

فالنتائج المخيفة والمقلقة تؤكد بأن نسبة صغيرة جداً جداً من البشر، وهي قرابة 0.001% فقط يستنشقون هواءً عليلاً نقياً خالياً من الملوثات ويتوافق مع مواصفات وتوصيات منظمة الصحة العالمية حول الحدود الآمنة لجودة الهواء بالنسبة للجسيمات الدقيقة. وبعبارة أخرى فإن 99.99% من البشر الذين يعيشون على سطح الأرض يستنشقون هواءً فاسداً مشبعاً بالملوثات، وبخاصة الجسيمات الدقيقة التي تهدد حياة الإنسان إما بخطر الوقوع في الأمراض، وإما أن يلقى نحبه في سنٍ مبكرة. 

 

 كما أن النتائج أفادت أيضاً بأن 0.18% من مساحة الكرة الأرضية فقط هي التي نستطيع أن نقول بأنها مازالت عذراء بكر لم تبلغها هذه الملوثات. وبعبارة أخرى فإن هذه النتيجة تشير إلى أن 98.8% من مساحة كوكبنا بلغها داء التلوث بالدخان الدقيق. فهاتان النتيجتان تفيدان بأن التلوث اقتحم وغزا كل شرايين بيئتنا وأجسامنا، وأنه عملياً لا تستطيع الهروب من تلوث الهواء أينما تكون، ولو كُنتَ في أعالي السماء في بروجٍ محكمة مشيدة. فسواء أكنت تعيش في المدينة، أو في القرية، بالقرب من المناطق الصناعية والحضرية، أو في الأرياف والقرى الصغيرة، فالهواء جُله فاسد وملوث، حتى لو ذهبت إلى أعالي الجبال النائية والبعيدة، فالسموم موجودة في الهواء وتلاحقك في كل بقعة من الأرض، كما هي تكون في صُحبتك حتى في أبعد المواقع في الأرض كالقطبين الشمالي والجنوبي، فالهواء لا يزال يعاني من فقرٍ شديد في نوعيته وكميته.

 

كما قّدَّرت الدراسة المعدل السنوي لتركيز الجسيمات الدقيقة في 175 دولة خلال العشرين عاماً الماضية بنحو 32.8 ميكروجرام من الجسيمات الدقيقة في المتر المكعب من الهواء الجوي، وهذا التركيز أعلى بكثير من التركيز الآمن حسب توصيات منظمة الصحة العالمية التي تم اعتمادها في عام 2021، وهي 5 ميكروجرامات في المتر المكعب.

 

وهذه التقديرات المتعلقة بتركيز الدخان في الهواء الجوي تختلف من مدينة إلى أخرى، كما إنها تختلف من فصل إلى آخر، إضافة إلى نوعية الوقود المستخدم في كل دولة. فمصادر الدخان والجسيمات الدقيقة يمكن تصنيفها إلى نوعين، المصدر الأول هو طبيعي، أي أن يد الإنسان لا دخل لها في انبعاثها إلى الهواء الجوي، مثل الرياح والعواصف الترابية والغبارية، وحرائق الغابات، وأما المصدر الثاني فهو صناعي، أي من صُنع أيدينا، ونحن الذين نسمح بانطلاقها طواعية إلى بيئتنا، مثل وسائل المواصلات من سيارات وحافلات وطائرات وقطارات، ثم محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالوقود الأحفوري، إضافة إلى حرق الوقود الأحفوري في المصانع وعند استخراج ومعالجة النفط والغاز الطبيعي والفحم.

 

فهذه الدراسة ومثيلاتها من الدراسات المتعلقة بتلوث الهواء عامة أَجمعتْ على عدة استنتاجات عامة، منها أن تلوث الهواء غطى الكرة الأرضية برمتها، ومنها أن تلوث الهواء يُعد من أكثر المصادر هلاكاً للبشر، سواء بتعريضهم للأمراض المزمنة، أو نقلهم إلى مثواهم الأخير في سنٍ مبكرة، ولذلك توصلت منظمة الصحة العالمية إلى القول بأن الهواء الجوي الذي يستنشقه البشر يعد من أسباب إصابة الإنسان بالسرطان والأمراض المزمنة الأخرى، كما أن المنظمة صنَّفت الهواء الجوي العادي بأنه "مسرطن"، كما أَطلقت على تلوث الهواء بالقاتل الصامت.

 

فهل هناك خطر يهدد الصحة العامة للبشر أشد وأكثر من تلوث الهواء؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق