الأحد، 30 سبتمبر 2018

كيف ندخل عصر السيارات الكهربائية؟


اطلعتُ في وسائل الإعلام المحلية مؤخراً على خبر مستقبلي هام يتلخص في توجه إحدى الوزارات في الدولة نحو التحول إلى ما يُطلق عليه بالتنقل أو النقل المستدام، واستبدال السيارات التي تعمل بوقود الجازولين والديزل إلى السيارات التي تعمل بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية.

 

هذا التوجه المحمود والمستدام يتواكب مع التغيرات الدولية المتسارعة في مجال النقل، ويتوافق مع متطلبات واستحقاقات المجتمع الدولي المتمثلة في قرارات منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة، وبخاصة القرار التاريخي الذي اعتمدته جميع دول العالم في قمة الأرض ومؤتمر البيئة والتنمية الذي عقد في ريو دي جانيرو في عام 1992، وتمخضت عنه وثيقة هامة جداً هي "جدول أعمال القرن الحادي والعشرين" أو ما يُطلق عليه "أجندة 21".

 

هذه الوثيقة الطوعية غير الملزمة للدول تُقدم حزمة من السياسات التي تحقق التنمية المستدامة للدول، وتُعد خارطة طريق عملية وخطة تنفيذية على المستوى الدولي والإقليمي والوطني في مجال خفض ومنع التأثيرات الجانبية للأنشطة التنموية للإنسان في جميع القطاعات على البيئة والحياة الفطرية.

 

ومن هذه الأنشطة والبرامج التنموية التي تتطرق إليها الوثيقة وتعْتمد لها خطة تنفيذية هي في مجال المواصلات والنقل، حيث خصصت عدة فصول تحت مسمى "النقل المستدام" بمفهومه الشامل والمتكامل، وليس كما يفهمه البعض بأنه يتمثل فقط في التحول إلى السيارات الكهربائية، وكأن السيارات الكهربائية هي الحل السحري الكامل والجذري لأزمة المواصلات المتمثلة في الازدحام والاكتظاظ المروري الخانق من جهة، وتلوث الهواء وتدهور صحته ونوعيته وتعرض الملايين من الناس للأمراض الحادة والمزمنة والموت المبكر من جهةٍ أخرى.

 

فمصطلح "النقل المستدام" يعني تبني أية أداة أو وسيلة للمواصلات والنقل من منطقة إلى أخرى دون إحداث أي أذى لصحة الإنسان وسلامة البيئة والحياة الفطرية، أو في الأقل إتباع الحكمة الشرعية التي تقول "إتباع أخف الضررين وأهون الشرين"، أي خفض الضرر على الإنسان والبيئة إلى الحد الأدنى الممكن والمتاح عملياً والذي يمكن تطبيقه في الواقع دون إيقاع أي خللٍ أو ضرر في مجالات أو قطاعات تنموية أخرى.

 

فالنقل المستدام بمفهومه الشامل يعني إذن التشجيع على المشي واستخدام الدراجات الهوائية كلما أمكن بدلاً عن السيارات، واستخدام النقل العام كوسيلة بديلة عن السيارات الخاصة، واستعمال أنواع الوقود في السيارات التي لا تنبعث عنها أية ملوثات سامة وخطرة، أو في الأقل منخفضة الانبعاث للسموم، بحيث إن كل دولة تتبنى ما يناسبها ويتماشى مع ظروفها الخاصة من هذه الأنواع المتوافرة عملياً لديها.

 

وبناءً على توجهات مملكة البحرين في استخدام الطاقة الكهربائية في السيارات كبديل عن وقود الجازولين والديزل، فإنني أتمنى ألا يكون هذا التوجه وهذا الحماس على الورق فقط وفي أخبار وسائل الإعلام وفي كلمات المسئولين من أجل مناسبة محددة تُقام في البحرين. فهذا التوجه بحاجة أولاً إلى استراتيجية وسياسة حكومية تدريجية معتمدة من مجلس الوزراء وليست من وزارة بحد ذاتها في مجال "النقل المستدام" عامة والسيارات الكهربائية خاصة، ثم اعتماد خطة تنفيذية وطنية عملية وواضحة يبدأ تطبيقها من اليوم وبالتنسيق والتعاون مع كافة الجهات الحكومية من جهة والقطاع الخاص من جهة أخرى من ناحية التشاور معهم ومشاركتهم في اتخاذ القرار وتنفيذ الخطة.

 

فالتحول إلى السيارات الكهربائية لا يمكن أن يكون بين عشيةٍ أو ضحاها، وليس بهذه السهولة والبساطة التي نتصورها، فتنفيذه سيكون عسيراً وصعباً ويحتاج إلى جهودٍ جماعية مشتركة، ولذلك لكي يكون هذا التحول سلساً وينعكس إيجابياً على المجتمع وعلى الناس، ولكي يكون الانتقال من الجازولين والديزل إلى الكهرباء ميسراً وخيراً للجميع، فعلى الحكومة عمل ما يلي من الآن:

أولاً: تدريب الأيدي العاملة على التعامل مع هذا النوع من السيارات من ناحية الصيانة وتقديم الخدمة السليمة والصحيحة والقيام بأعمال الفحص الدوري.

ثانياً: بناء أعدادٍ كبيرة من محطات التزود بالكهرباء في مدن وأحياء البحرين مناسبة جغرافية من ناحية المسافة فيما بينها، والتوزيع العادل حسب الكثافة السكانية.

ثالثاً: إقناع القطاع الخاص على الاستثمار في هذه السيارات الجديدة واستيرادها وإنشاء محطات متطورة للخدمات والصيانة.

رابعاً: دعم هذه السيارات مرحلياً لكي يتمكن المواطن من شرائها بسبب ارتفاع أسعارها حالياً مقارنة بسيارات الجازولين والديزل.

خامساً: القيام بحملة توعية وطنية شاملة لإقناع الناس على شراء هذه السيارات لما لها من أهمية كبيرة تنعكس على صحتهم وصحة أبنائهم والأجيال اللاحقة، وما لها من أهمية لتحسين جودة الهواء ومنع الوقوع في الأمراض الحادة والمزمنة ذات العلاقة بتلوث الهواء.

الأحد، 23 سبتمبر 2018

البحث الذي نقلته كل وسائل الإعلام


 

وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وأشكالها لا تهتم عادة بنقل أخبار الأبحاث والدراسات العلمية، ولا تطلع على المجلات العلمية والبحثية المنشورة في مختلف دول العالم، إلا في الحالات النادرة التي يكون فيها هذا البحث العلمي له علاقة مباشرة بحياة الناس اليومية ومعاشهم وأمنهم الصحي، أو أن يكون هذا البحث إبداعاً جديداً، واكتشافاً علمياً حديثاً، ويقدم نقلة نوعية في مجال العلوم، ويبرز إنجازاً تقنياً غير مسبوق.

 

ولكن البحث الذي سأتكلم عنه اليوم قد جذب أنظار الإعلاميين في مختلف دول العالم، ولَفتَ انتباههم، وحظي بعنايتهم الفورية والمباشرة وفي أوقات الذروة وفي الصفحات الأولى من حيث نقله، وتحليله، وإجراء المقابلات مع علماء آخرين مختصين في هذا المجال للتعرف عن قرب على استنتاجاته العملية والواقعية، ودلالاته وتأثيراته على الإنسان، وانعكاساته المشهودة على المجتمع البشري برمته.

 

هذا البحث الصيني الأمريكي المشترك الجامع والشامل والفريد من نوعه جاء تحت عنوان: “تأثير التعرض لتلوث الهواء على الأداء المعرفي"، وبلغت عينة الدراسة أكثر من 32 ألف، حيث أجرت الدراسة تحاليل معمقة لسبر غور العلاقة بين تعرض الإنسان لسنوات طويلة لتلوث الهواء وتأثيراته على القدرات العقلية المعرفية والإدراكية والمهارات اللغوية والرياضية، ونُشرت في المجلة الأمريكية المعروفة تحت مسمى "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" في 30 أغسطس من العام الجاري، واستغرق إنجازها فترة زمنية طويلة بلغت أربع سنوات.

 

وتأتي أهمية هذه الدراسة التي جعلت وسائل الإعلام تهتم في نقله وإبرازه في أن القدرات المعرفية العقلية والإدراكية المتمثلة في القدرات اللغوية والفكرية والمهنية هي كلها قدرات لا يستغني عنها الإنسان لتسيير حياته وأعماله اليومية، وجميعها إمكانات وظيفية يحتاج إليها الفرد لاكتشاف المعلومات وتحليلها والتفكير فيها وفهمها بدقة وبعمق والتعرف على استنتاجاتها ومدلولاتها وصناعة منتجات وأدوات ومعدات تيسر من حياة الإنسان وتجعلها أكثر رفاهية وسهولة، فهي تمثل للإنسان والبشرية جمعاء تراكم الخبرات والتجارب الحياتية بين الجيل الواحد والأجيال المتلاحقة وهي التي تحقق "التنمية البشرية".

 

فالدراسات السابقة والتي مازالت جارية أكدت وأثبتت العلاقة بين تلوث الهواء والأمراض الحادة والمزمنة للقلب والجهاز التنفسي والكلية وغيرها، فقد أجمعتْ على أن تلوث الهواء خاصة، والتلوث بشكلٍ عام يسبب أمراض الربو، وسرطان الرئة، ويضعف أداء القلب، ويسقط الإنسان في السكتة القلبية والموت المبكر، ولكن الدراسة التي بين أيدينا اليوم ولجت في مجالٍ آخر ونوعٍ جديد من التأثيرات والأضرار المزمنة التي يسببها التلوث للإنسان، وبالتحديد الانعكاسات السلبية والتهديدات التي يشكلها تلوث الهواء على الجانب المعرفي والإدراكي العقلي، حيث استنتجت إلى أن التعرض للملوثات الموجودة في الهواء الجوي ولو بنسبٍ منخفضة لسنوات طويلة يؤدي إلى تدهورٍ ملحوظ في القدرات المعرفية العقلية والإدراكية عند الإنسان، ويضعف أداءه ومستواه في التحليل والاستنتاج وتذكر المعلومات، مما يسرع مع الوقت في سقوطه في فخ الخرف المبكر، ومنها الإصابة مرض الزهايمر.

 

فهذه الدراسة إذن تُضيف نوعياً إلى التهديدات التي يشكلها تلوث الهواء خاصة، والتلوث عامة على البشرية جمعاء، فهي تنقلنا من التأثيرات والمردودات المتعلقة بأعضاء جسم الإنسان كالجهاز التنفسي والقلب والموت المبكر لقرابة 4.2 مليون إنسان يعيش على وجه الأرض في عام 2016 حسب تقرير منظمة الصحة العالمية المنشور في مايو من العام الجاري، إلى التأثيرات على الجوانب العقلية والنفسية والمعرفية التي تؤثر بشكلٍ مباشر على المدى الطويل على التنمية الإنسانية في المستقبل وتهدد من قوتها وفاعليتها في الإبداع والتطوير والإنتاج.

 

ولذلك ومن منطلق استنتاجات هذه الدراسة التي لا لبس فيها، فإنني أحذر وأنبه إلى خطورة التلوث عامة وتلوث الهواء خاصة والتهديدات الواقعية التي يمثلها للإنسان واستدامة حياته على وجه الأرض، كما إنني ومن واقع نتائج الدراسات السابقة كلها أرفع صوتي لكافة المعنيين والمسؤولين أفراداً وجماعات ومؤسسات حكومية وغير حكومية إلى عدم الاستهانة بقدرات التلوث في الفتك بالإنسان عضوياً، وعقلياً، ونفسياً، ولذلك لا أُبالغ ولا أَخْرج عن الوصف العلمي الموضوعي للتلوث إذا أَطلقتُ عليه بأنه "قنبلة دمار شامل للجسم البشري".

الخميس، 20 سبتمبر 2018

الإدارة اليتيمة


هذا الطفل الصغير الضعيف وُلد يتيماً ووحيداً، فلم يجد أحداً يهتم به ويرعاه من أعماق قلبه وبكل إخلاصٍ وعطفٍ وحنان، فانتقل من ملجأ للأيتام إلى آخر، ومن حضن يأويه إلى آخر، فلم يشعر بالاستقرار منذ ولادته في بيتٍ واحد ومع أسرة واحدة لا تتغير، ولم يحصل منذ أن ولج إلى الحياة الدنيا على ملاذٍ آمن ودافئ ودائم، فيكبر فيه، ويترعرع تحت ظله بشكلٍ طبيعي وسليم ومستدام.

فوضع هذا الطفل اليتيم ينطبق على وضع بعض الإدارات عندنا، كإدارة الثروة السمكية. فهذه الإدارة منذ أن وطأت قدماه أرض الدنيا في الستينيات من القرن المنصرم، فتحت عينيها وهي تحت مسمى "مكتب الثروة السمكية" التابع لوزارة الخدمات الهندسية، فهي إذن وُلدت وتعاني من ضعفٍ جسدي وهوانٍ عضوي.

وبعد سنواتٍ من بقائه في هذا الملجأ الإداري انتقل هذا المكتب الصغير في السبعينيات من القرن العشرين إلى دارٍ آخر جديد هو وزارة المالية، فلم يلبث هناك فترة طويلة ليحس بالأمان والاستقرار والراحة الجسدية والنفسية فيتمكن من العطاء والإنتاج، فنُقل بعد أن كبر في السن قليلاً إلى وزارة التجارة والزراعة تحت مسمى "إدارة الثروة السمكية"، ثم شاءت الأقدار والظروف أن يُرحل إلى ملاذٍ آخر هو وزارة الأشغال والزراعة التي لم تتمكن من تبنيه طويلاً فنُقل إلى وزارة الإسكان والزراعة.

ويا ليت حال هذا الطفل اليتيم ووضعه بقيا عند هذا الحد لكي ينعم بالاستقرار النفسي والجسدي، ففي عام 2002 تغير اسمه إلى "إدارة الثروة البحرية" ونُقل إلى ملجأ جديد لم يُعرف من قبل هو "الهيئة العامة لحماية الثروة البحرية والبيئة والحياة الفطرية"، فاستمر في هذا الملجأ فترة قصيرة ولم يستقر فيه فأُلحق بعد ذلك وبالتحديد في عام 2012 بوزارة الأشغال وشؤون البلديات والتخطيط العمراني، وأخيراً الآن وصل به المطاف ليكون ضيفاً على وزارة شؤون البلديات والتخطيط العمراني. 

وهكذا نرى أمامنا وبكل وضوح الوضع الإداري والتنظيمي وتغير تبعية هذه الجهة المعنية بإدارة وتنظيم هذا المورد الحيوي الفطري غير الناضب والمتجدد المتمثل في الموارد البحرية الغنية والثروة السمكية الثرية، فكيف سيكون وضع هذه الثروة البحرية الطبيعية التي أنعمها الله علينا إذا كان هذا هو حال الإدارة المعنية بالاهتمام بهذه الثروة وصيانتها ورعايتها لنا وللأجيال اللاحقة؟

والجواب تشاهدونه أمامكم!     



الأحد، 16 سبتمبر 2018

العميل البرتقالي يُبعثْ من جديد


عندما أتحدثُ هنا معكم عن "العميل البرتقالي" فإنني أتكلم عن صفحةٍ سوداء مظلمة من التاريخ المعاصر، وبالتحديد أثناء الغزو الأمريكي لفيتنام في الستينيات من القرن المنصرم، أي قبل أكثر من 60 عاماً، ومن المفروض أن هذه الصفحة العصيبة قد أُغلقت وطُويت، وتحولت سيرتها إلى كتب التاريخ وملفات الأرشيف القديم، فمن الذي أحيا هذا الجزء المؤلم من التاريخ مرة ثانية وهي رَمِيمْ؟


ومن الذي بعث "العميل البرتقالي" من قبره من جديد؟


 


وفي الحقيقة هناك حوادث وكوارث تاريخية بسبب انعكاساتها الشديدة المتغلغلة في قلب المجتمعات عبر الأجيال، فإنها لا تموت أبداً وتنبض دائماً بالحياة، فتبقى خالدة مخلدة ومنقوشة في ذاكرة البشرية، ومحفورة بعمق في تاريخها الطويل، فكلما طوى عليها الدهر وحسبناها اندثرت ودفنت تحت الثرى، جاءت حوادث تحيي آثارها مرة أخرى وتُجدد ذكراها وآلامها أمام الناس، ومن هذه الحوادث التاريخية الكرب البيئي الصحي العظيم الذي نزل على الشعبين الفيتنامي والأمريكي أثناء وبعد الحرب الأمريكية الفيتنامية.


 


والعميل البرتقالي هو أحد مشاهد ووقائع هذه الطامة الكبرى التي لا ولن تغيب عن الذاكرة أبد الدهر، والذي أحياه اليوم من جديد وبَعَثهُ من مدفنه في كتب التاريخ المعاصر هو الخبر الذي نقله بعض الصحف في 31 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:"فيتنام تُطالب شركة مُونْسانتو الأمريكية العملاقة دفع تعويضات لضحايا العميل البرتقالي"، علماً بأن الصليب الأحمر الفيتنامي أعلن مؤخراً بأن هناك أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي سقطوا ضحايا لهذا العميل القاتل.


 


فالعميل البرتقالي المتهم هنا بارتكاب المجازر البشرية وإسقاط الضحايا من الشعب الفيتنامي والشعوب الأخرى، ليس بشراً وإنساناً يمشي على الأرض فيمكن محاسبته ومعاقبته على ما ارتكبته يداه، وإنما هو مبيد قاتل ومدمر للأعشاب والغطاء النباتي بشكلٍ عام، فقد أجرتْ شركة مونسانتو في مطلع الستينيات من القرن المنصرم بتكليفٍ من الجيش الأمريكي تجارب في غاية السرية والخطورة تهدف إلى إنتاج "سلاح"ٍ فتاك ومهلك للحَرْث والزرع ليقضي على الأعشاب والحشائش الطويلة والغابات التي يختبئ فيها المقاتل الفيتنامي فيمكن بعد ذلك مشاهدته ومراقبته وقتله، وبالفعل نجحت الشركة في تصنيع هذا السلاح المبيد للبشر والحجر والزرع، فنُقل مباشرة إلى ساحة القتال في براميل عليها علامات وخطوط بألوان مختلفة، منها اللون البرتقالي، فأُطلق منذ ذلك الوقت عليه بالعميل البرتقالي، ويُعرف حتى يومنا هذا تحت هذا المسمى.


 


وقد نفذ الجيش الأمريكي بدءاً من عام 1961حتى عام 1971 عملية عسكرية أَطلق عليها (Operation Ranch Hand) واستخدم طائرات خاصة للرش من السماء العليا هذه الأحجام الهائلة من الأمطار الصَرْصَر العاتية على رؤوس الشعب الفيتنامي الجنوبي، وغطت مساحات شاسعة من الغابات بلغت عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة، فلوث مبيد الدمار الشامل البر والماء والهواء والإنسان والشجر، فدخل مع الوقت إلى كل جزءٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من مكونات البيئة الحية وغير الحية حتى وصل في نهاية المطاف بشكلٍ مباشر وغير مباشر إلى أعضاء جسم الإنسان، فمنهم من قضى نحبه وسقط فوراً صريعاً يقاسي من سمية هذا المبيد، ومنهم من نزل به المرض المزمن فأصبح يعاني طوال حياته من السقم والإعاقات الجسدية والتشوهات الخَلقية والعلل العقلية والنفسية. 


 


فهذا المبيد والمركبات الخطرة الموجودة فيه، وبالتحديد مجموعة المركبات القاتلة المعروفة بالديكسين، لم تُعرِّض الشعب الفيتنامي فقط للمخاطر البيئية والصحية، وإنما هدد حياة الملايين من الأمريكيين أنفسهم ومن اليابانيين والفلبينيين والكوريين من الذين عملوا وتعاونوا مع الجيش الأمريكي وتعاملوا بطريقةٍ أو بأخرى مع هذا العميل البرتقالي، فمنهم من قام بحمل براميل العميل البرتقالي إلى الطائرات، ومنهم من فتح هذه البراميل، ومنهم من قام برش المبيد من الطائرة، ومنهم من أفرغ البراميل الفارغة، ومنهم من حملها إلى الشاحنات، ومنهم من قام بتخزينها، ومنهم من قام بدفن هذه البراميل، فكل هؤلاء البشر كانوا فريسة سهلة وقعت ضحية لهذا المبيد.


 

وجدير بالذكر أن الشكوى ضد شركة مونسانتو أو الحكومة الأمريكية ممثلة في وزارة الدفاع ليست جديدة وليست من الفيتناميين فحسب، وإنما رفع عشرات الآلاف من المحاربين الأمريكيين القدامى الذي شاركوا في حرب فيتنام دعاوى قضائية ضد البنتاجون بسبب الأمراض والعاهات والإعاقات الجسدية والعقلية والنفسية التي تعرضوا لها أثناء الحرب، وبالتحديد نتيجة لاستخدامهم لهذا العميل البرتقالي، فعلى سبيل المثال، في 18 يونيو 2015 وبعد سنوات عجاف طويلة من المعارك القضائية وافقت الحكومة الأمريكية على تعويض 2100 أمريكي كانوا يعملون في السلاح الجوي ويتعاملون مع براميل العميل البرتقالي سواء بفتحها أو نقلها أو تخزينها أو رشها، سواء الذين كانوا في قواعد عسكرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو الجنود الذين كانوا في ساحات القتال، والتعويض المالي بلغ 47.5 مليون دولار.

 

وهكذا نجد بأن هذا العميل الأمريكي لن يموت، وسيظل في ذاكرة الناس، وسيظل حلماً مرعباً وكابوساً ثقيلاً سيجثم فوق رؤوس الحكومة الأمريكية ويطاردهم بين الحين والآخر.

 

الخميس، 13 سبتمبر 2018

كيف يدخل الرصاص إلى مياه الشرب؟


من حُسن الحظ والتخطيط أننا في البحرين قد تخلصنا كلياً من أنابيب الرصاص السامة التي كانت تُستخدم لنقل وتوزيع المياه من محطات إنتاج مياه الشرب إلى المنازل والشقق، فهي تُعد من مصادر تلوث المياه والبيئة بشكلٍ عام وأحد مصادر الأمراض المزمنة للأطفال بشكلٍ خاص، ومن سوء حظ شعوب بعض الدول الأخرى المشهود لها بأنها صناعية ومتقدمة ومتطورة أنها مازالت ونحن في القرن الحادي والعشرين تعاني من وجود أنابيب الرصاص القديمة في منازل المواطنين.

فهذه الأنابيب المصنوعة من الرصاص، أو التي تدخل مركبات الرصاص في تركيبها وصناعتها تُعتبر من المواد والتقنيات الغابرة التي انتشرت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فأكل عليها الآن الدهر وشرب وتخلت عن استعمالها معظم دول العالم، بل ويُعد استعمالها حتى الآن دليلاً واضحاً ومؤشراً بيِّناً على تأخر هذه الدولة، وعلامة من علامات إهمالها لصحة شعوبها.

فالمستغرب إذن أن نجد أكبر دولة في العالم وأكثرها تقدماً ورقياً، وأعلاها تطوراً وعلماً أن تستخدم مثل هذه المواد الضارة في نقل مياه الشرب إلى الشعب، ولذلك تؤكد التقارير والدراسات عن ارتفاع نسب الملوثات، وبخاصة الرصاص في مياه شرب الملايين من الشعب الأمريكي، بل ووقعت فضائح وكوارث مخجلة تؤيد هذه الحقيقة، وآخر هذه الكوارث تلوث مياه الشرب وتسمم المواطنين في مدينة فلينت بالقرب من ديترويت، عاصمة صناعة السيارات في العالم بولاية ميتشيجن.

فقد بدأ المشهد الأول من هذه الطامة الكبرى في 25 أبريل من عام 2014 عندما قام المعنيون في مدينة فلينت بالتحول من تزويد المدينة بمياه الشرب من بحيرة هارون(Huron) الذي كان يُستخدم فيها مركبات الفوسفات لمنع تآكل الأنابيب ومنع الصدأ إلى استخدام مياه نهر فلينت مباشرة، مما أدى إلى خروج الرصاص من مخبأه في الأنابيب وترشحه وانتقاله إلى مياه الشرب، ثم إلى الأطفال بصفةٍ خاصة وإصابتهم بالتسمم وتعريض باقي الشعب الأمريكي في المدينة وتهديد أمنهم الصحي بشكلٍ مباشر.

أما المشهد الثاني فيسدل فيه الستار على زيارة الرئيس الأمريكي السابق نفسه أوباما إلى المدينة لطمأنتهم وإطلاق الوعود السياسية التي لا قيمة لها من أجل إصلاح هذا الفساد البيئي الصحي العظيم الذي ألَّم بسكان هذه المدينة الذين غالبيتهم من المستضعفين والفقراء السود، فلا حول لهم ولا نفوذ ولا قوة وليس هناك من يدافع عن حقوقهم ومعاناتهم.

وقد نُشرت الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية الميدانية لتوثيق هذه الحالة العصيبة التي نزلت على هؤلاء الناس على حين غرة، منها الدراسة المنشورة في السابع من أغسطس في المجلة الأمريكية "علوم وتقنيات البيئة" تحت عنوان :"تقييم مستويات الرصاص في الماء أثناء أزمة المياه في مدينة فلينت بولاية ميتشيجن الأمريكية"، حيث أكدت على التعدي الصارخ على حقوق المواطنين البيئية الصحية المتمثلة في مسؤولية الجهات الحكومية في توفير مياه الشرب الآمنة والسليمة، فقد بلغت مستويات الرصاص في مياه الشرب درجات عالية تهدد الصحة العامة.

وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية التي أرسلتْ أول إنسان يمشي على وجه القمر وبلغت المريخ وصنعت وأبدعت في إنتاج شتى أنواع الأسلحة ذات الدمار الشامل، فشلت في توفير الخدمات الأساسية الضرورية للشعب الأمريكي، وأخفقت كثيراً في حقٍ رئيس من حقوقه اليومية وهو التمتع بمياه شرب نظيفة سليمة وآمنة، حيث أكدت وأجمعت التقارير والدراسات الحكومية أن نحو 18 مليون أمريكي يتعرضون كل ثانية لمستويات مرتفعة من بعض الملوثات في مياه الشرب، وعلى رأس القائمة الرصاص، كما نشرتْ المحطة الإخبارية المشهورة الـ سي إن إن في 30 مارس من العام الجاري تحقيقاً مفصلاً مستنداً على التقارير الحكومية الرسمية حول جودة مياه الشرب في الولايات المتحدة الأمريكية والملوثات التي تدخل في أجسام الملايين من الشعب الأمريكي بسبب شربهم لمياه غير صحية وغير آمنة على حياتهم. وعلاوة على ذلك فإن أن وسائل الإعلام الأمريكية الأخرى كمحطة إِن بِي سي الإخبارية وصحيفة الـ يُو إِس أيه تُوداي نشرتا في 30 أغسطس من العام الحالي خبراً يفيد فيه بأن طلاب المدارس في مدينة ديترويت سيبدأون عامهم الدراسي الجديد من غير مياه شرب صحية ونظيفة في المدارس نتيجة لتلوثها بالرصاص والنحاس، حسب تصريح المسؤول عن المدارس الحكومية في هذه المدينة.

ومن أهم أسباب تدهور مياه الشرب في الولايات المتحدة الأمريكية هو تهاوي البنية التحتية الخاصة بتوفير مياه الشرب فهي قديمة ومتهالكة واستخدمتْ فيها مواد ضارة لا تصلح الآن لنقل مياه الشرب، وقد أكدت على واقعية هذه الظاهرة "الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين" فهناك أكثر من مليون ونصف المليون كيلومتر من الأنابيب القديمة الموجودة تحت الأرض عبر الولايات التي تجاوزت عمرها الافتراضي فأصبحت الآن مستهلكة وغير صالحة وتترشح منها الملوثات لتصل إلى الناس وتهدد أمنهم الصحي.

ولذلك علينا الاتعاظ من هذه الأزمة والتجربة الأمريكية وتجارب الآخرين وسِيرهم، والاستفادة من خبراتهم، وتجنب أخطائهم وزلاتهم وبخاصة في مجال حماية البيئة وصيانة مواردها الذي يستهين به البعض ويتهاون في تنفيذ استحقاقاته ومتطلباته التي أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان الأساسية والضرورية المفروضة على الحكومات، كتوفير مياه الشرب الصحية، والهواء النقي والنظيف، والتربة السليمة والآمنة.