الخميس، 13 سبتمبر 2018

كيف يدخل الرصاص إلى مياه الشرب؟


من حُسن الحظ والتخطيط أننا في البحرين قد تخلصنا كلياً من أنابيب الرصاص السامة التي كانت تُستخدم لنقل وتوزيع المياه من محطات إنتاج مياه الشرب إلى المنازل والشقق، فهي تُعد من مصادر تلوث المياه والبيئة بشكلٍ عام وأحد مصادر الأمراض المزمنة للأطفال بشكلٍ خاص، ومن سوء حظ شعوب بعض الدول الأخرى المشهود لها بأنها صناعية ومتقدمة ومتطورة أنها مازالت ونحن في القرن الحادي والعشرين تعاني من وجود أنابيب الرصاص القديمة في منازل المواطنين.

فهذه الأنابيب المصنوعة من الرصاص، أو التي تدخل مركبات الرصاص في تركيبها وصناعتها تُعتبر من المواد والتقنيات الغابرة التي انتشرت في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فأكل عليها الآن الدهر وشرب وتخلت عن استعمالها معظم دول العالم، بل ويُعد استعمالها حتى الآن دليلاً واضحاً ومؤشراً بيِّناً على تأخر هذه الدولة، وعلامة من علامات إهمالها لصحة شعوبها.

فالمستغرب إذن أن نجد أكبر دولة في العالم وأكثرها تقدماً ورقياً، وأعلاها تطوراً وعلماً أن تستخدم مثل هذه المواد الضارة في نقل مياه الشرب إلى الشعب، ولذلك تؤكد التقارير والدراسات عن ارتفاع نسب الملوثات، وبخاصة الرصاص في مياه شرب الملايين من الشعب الأمريكي، بل ووقعت فضائح وكوارث مخجلة تؤيد هذه الحقيقة، وآخر هذه الكوارث تلوث مياه الشرب وتسمم المواطنين في مدينة فلينت بالقرب من ديترويت، عاصمة صناعة السيارات في العالم بولاية ميتشيجن.

فقد بدأ المشهد الأول من هذه الطامة الكبرى في 25 أبريل من عام 2014 عندما قام المعنيون في مدينة فلينت بالتحول من تزويد المدينة بمياه الشرب من بحيرة هارون(Huron) الذي كان يُستخدم فيها مركبات الفوسفات لمنع تآكل الأنابيب ومنع الصدأ إلى استخدام مياه نهر فلينت مباشرة، مما أدى إلى خروج الرصاص من مخبأه في الأنابيب وترشحه وانتقاله إلى مياه الشرب، ثم إلى الأطفال بصفةٍ خاصة وإصابتهم بالتسمم وتعريض باقي الشعب الأمريكي في المدينة وتهديد أمنهم الصحي بشكلٍ مباشر.

أما المشهد الثاني فيسدل فيه الستار على زيارة الرئيس الأمريكي السابق نفسه أوباما إلى المدينة لطمأنتهم وإطلاق الوعود السياسية التي لا قيمة لها من أجل إصلاح هذا الفساد البيئي الصحي العظيم الذي ألَّم بسكان هذه المدينة الذين غالبيتهم من المستضعفين والفقراء السود، فلا حول لهم ولا نفوذ ولا قوة وليس هناك من يدافع عن حقوقهم ومعاناتهم.

وقد نُشرت الكثير من الدراسات والأبحاث العلمية الميدانية لتوثيق هذه الحالة العصيبة التي نزلت على هؤلاء الناس على حين غرة، منها الدراسة المنشورة في السابع من أغسطس في المجلة الأمريكية "علوم وتقنيات البيئة" تحت عنوان :"تقييم مستويات الرصاص في الماء أثناء أزمة المياه في مدينة فلينت بولاية ميتشيجن الأمريكية"، حيث أكدت على التعدي الصارخ على حقوق المواطنين البيئية الصحية المتمثلة في مسؤولية الجهات الحكومية في توفير مياه الشرب الآمنة والسليمة، فقد بلغت مستويات الرصاص في مياه الشرب درجات عالية تهدد الصحة العامة.

وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية التي أرسلتْ أول إنسان يمشي على وجه القمر وبلغت المريخ وصنعت وأبدعت في إنتاج شتى أنواع الأسلحة ذات الدمار الشامل، فشلت في توفير الخدمات الأساسية الضرورية للشعب الأمريكي، وأخفقت كثيراً في حقٍ رئيس من حقوقه اليومية وهو التمتع بمياه شرب نظيفة سليمة وآمنة، حيث أكدت وأجمعت التقارير والدراسات الحكومية أن نحو 18 مليون أمريكي يتعرضون كل ثانية لمستويات مرتفعة من بعض الملوثات في مياه الشرب، وعلى رأس القائمة الرصاص، كما نشرتْ المحطة الإخبارية المشهورة الـ سي إن إن في 30 مارس من العام الجاري تحقيقاً مفصلاً مستنداً على التقارير الحكومية الرسمية حول جودة مياه الشرب في الولايات المتحدة الأمريكية والملوثات التي تدخل في أجسام الملايين من الشعب الأمريكي بسبب شربهم لمياه غير صحية وغير آمنة على حياتهم. وعلاوة على ذلك فإن أن وسائل الإعلام الأمريكية الأخرى كمحطة إِن بِي سي الإخبارية وصحيفة الـ يُو إِس أيه تُوداي نشرتا في 30 أغسطس من العام الحالي خبراً يفيد فيه بأن طلاب المدارس في مدينة ديترويت سيبدأون عامهم الدراسي الجديد من غير مياه شرب صحية ونظيفة في المدارس نتيجة لتلوثها بالرصاص والنحاس، حسب تصريح المسؤول عن المدارس الحكومية في هذه المدينة.

ومن أهم أسباب تدهور مياه الشرب في الولايات المتحدة الأمريكية هو تهاوي البنية التحتية الخاصة بتوفير مياه الشرب فهي قديمة ومتهالكة واستخدمتْ فيها مواد ضارة لا تصلح الآن لنقل مياه الشرب، وقد أكدت على واقعية هذه الظاهرة "الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين" فهناك أكثر من مليون ونصف المليون كيلومتر من الأنابيب القديمة الموجودة تحت الأرض عبر الولايات التي تجاوزت عمرها الافتراضي فأصبحت الآن مستهلكة وغير صالحة وتترشح منها الملوثات لتصل إلى الناس وتهدد أمنهم الصحي.

ولذلك علينا الاتعاظ من هذه الأزمة والتجربة الأمريكية وتجارب الآخرين وسِيرهم، والاستفادة من خبراتهم، وتجنب أخطائهم وزلاتهم وبخاصة في مجال حماية البيئة وصيانة مواردها الذي يستهين به البعض ويتهاون في تنفيذ استحقاقاته ومتطلباته التي أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من حقوق الإنسان الأساسية والضرورية المفروضة على الحكومات، كتوفير مياه الشرب الصحية، والهواء النقي والنظيف، والتربة السليمة والآمنة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق