الأحد، 23 سبتمبر 2018

البحث الذي نقلته كل وسائل الإعلام


 

وسائل الإعلام بمختلف أنواعها وأشكالها لا تهتم عادة بنقل أخبار الأبحاث والدراسات العلمية، ولا تطلع على المجلات العلمية والبحثية المنشورة في مختلف دول العالم، إلا في الحالات النادرة التي يكون فيها هذا البحث العلمي له علاقة مباشرة بحياة الناس اليومية ومعاشهم وأمنهم الصحي، أو أن يكون هذا البحث إبداعاً جديداً، واكتشافاً علمياً حديثاً، ويقدم نقلة نوعية في مجال العلوم، ويبرز إنجازاً تقنياً غير مسبوق.

 

ولكن البحث الذي سأتكلم عنه اليوم قد جذب أنظار الإعلاميين في مختلف دول العالم، ولَفتَ انتباههم، وحظي بعنايتهم الفورية والمباشرة وفي أوقات الذروة وفي الصفحات الأولى من حيث نقله، وتحليله، وإجراء المقابلات مع علماء آخرين مختصين في هذا المجال للتعرف عن قرب على استنتاجاته العملية والواقعية، ودلالاته وتأثيراته على الإنسان، وانعكاساته المشهودة على المجتمع البشري برمته.

 

هذا البحث الصيني الأمريكي المشترك الجامع والشامل والفريد من نوعه جاء تحت عنوان: “تأثير التعرض لتلوث الهواء على الأداء المعرفي"، وبلغت عينة الدراسة أكثر من 32 ألف، حيث أجرت الدراسة تحاليل معمقة لسبر غور العلاقة بين تعرض الإنسان لسنوات طويلة لتلوث الهواء وتأثيراته على القدرات العقلية المعرفية والإدراكية والمهارات اللغوية والرياضية، ونُشرت في المجلة الأمريكية المعروفة تحت مسمى "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم" في 30 أغسطس من العام الجاري، واستغرق إنجازها فترة زمنية طويلة بلغت أربع سنوات.

 

وتأتي أهمية هذه الدراسة التي جعلت وسائل الإعلام تهتم في نقله وإبرازه في أن القدرات المعرفية العقلية والإدراكية المتمثلة في القدرات اللغوية والفكرية والمهنية هي كلها قدرات لا يستغني عنها الإنسان لتسيير حياته وأعماله اليومية، وجميعها إمكانات وظيفية يحتاج إليها الفرد لاكتشاف المعلومات وتحليلها والتفكير فيها وفهمها بدقة وبعمق والتعرف على استنتاجاتها ومدلولاتها وصناعة منتجات وأدوات ومعدات تيسر من حياة الإنسان وتجعلها أكثر رفاهية وسهولة، فهي تمثل للإنسان والبشرية جمعاء تراكم الخبرات والتجارب الحياتية بين الجيل الواحد والأجيال المتلاحقة وهي التي تحقق "التنمية البشرية".

 

فالدراسات السابقة والتي مازالت جارية أكدت وأثبتت العلاقة بين تلوث الهواء والأمراض الحادة والمزمنة للقلب والجهاز التنفسي والكلية وغيرها، فقد أجمعتْ على أن تلوث الهواء خاصة، والتلوث بشكلٍ عام يسبب أمراض الربو، وسرطان الرئة، ويضعف أداء القلب، ويسقط الإنسان في السكتة القلبية والموت المبكر، ولكن الدراسة التي بين أيدينا اليوم ولجت في مجالٍ آخر ونوعٍ جديد من التأثيرات والأضرار المزمنة التي يسببها التلوث للإنسان، وبالتحديد الانعكاسات السلبية والتهديدات التي يشكلها تلوث الهواء على الجانب المعرفي والإدراكي العقلي، حيث استنتجت إلى أن التعرض للملوثات الموجودة في الهواء الجوي ولو بنسبٍ منخفضة لسنوات طويلة يؤدي إلى تدهورٍ ملحوظ في القدرات المعرفية العقلية والإدراكية عند الإنسان، ويضعف أداءه ومستواه في التحليل والاستنتاج وتذكر المعلومات، مما يسرع مع الوقت في سقوطه في فخ الخرف المبكر، ومنها الإصابة مرض الزهايمر.

 

فهذه الدراسة إذن تُضيف نوعياً إلى التهديدات التي يشكلها تلوث الهواء خاصة، والتلوث عامة على البشرية جمعاء، فهي تنقلنا من التأثيرات والمردودات المتعلقة بأعضاء جسم الإنسان كالجهاز التنفسي والقلب والموت المبكر لقرابة 4.2 مليون إنسان يعيش على وجه الأرض في عام 2016 حسب تقرير منظمة الصحة العالمية المنشور في مايو من العام الجاري، إلى التأثيرات على الجوانب العقلية والنفسية والمعرفية التي تؤثر بشكلٍ مباشر على المدى الطويل على التنمية الإنسانية في المستقبل وتهدد من قوتها وفاعليتها في الإبداع والتطوير والإنتاج.

 

ولذلك ومن منطلق استنتاجات هذه الدراسة التي لا لبس فيها، فإنني أحذر وأنبه إلى خطورة التلوث عامة وتلوث الهواء خاصة والتهديدات الواقعية التي يمثلها للإنسان واستدامة حياته على وجه الأرض، كما إنني ومن واقع نتائج الدراسات السابقة كلها أرفع صوتي لكافة المعنيين والمسؤولين أفراداً وجماعات ومؤسسات حكومية وغير حكومية إلى عدم الاستهانة بقدرات التلوث في الفتك بالإنسان عضوياً، وعقلياً، ونفسياً، ولذلك لا أُبالغ ولا أَخْرج عن الوصف العلمي الموضوعي للتلوث إذا أَطلقتُ عليه بأنه "قنبلة دمار شامل للجسم البشري".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق