الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

حُكم قضائي على مُبيد للأعشاب


قررت هيئة المحلفين في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية في العاشر من أغسطس من العام الجاري منح رجل أُصيب بالسرطان مبلغاً مالياً قدره 289 مليون دولار، ولأهمية هذا الحكم نقلته وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم، فصدى هذا الحكم البليغ وصل الدنيا كلها.

 

فالمتهم هنا في إصابة هذا المواطن الأمريكي الذي يبلغ من العمر 46 عاماً ويعمل في حديقة مدرسة في ولاية كاليفورنيا بنوعٍ فريدٍ من السرطان يُعرف بـ (non-Hodgkin’s lymphoma)، هو مبيد شائع للأعشاب، وواسع الإنتشار والأكثر شعبية بين المزارعين في كل أنحاء العالم منذ أكثر من أربعين عاماً، وقامت بإنتاجه شركة مونسانتو الأمريكية العملاقة متعددة الجنسيات، وأطلقتْ عليه اسم رَاونْد أَب(Roundup)، ويحتوي على مجموعة من مركبات الفوسفات العضوية السامة أهمها الجليوفوسات (glyphosate).

 

وهذا المنتج كغيره من المنتوجات التي تصنعها الشركات الكبرى، حيث تقوم بحملةٍ دعائية واسعة لتسويقه في كل قطرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من العالم، وتستخدم لعملية التسويق والبيع كل ما أُوتيت من نفوذ سياسي وتشريعي، وقوة علمية وفنية وتسويقية وأساليب إبداعية حديثة للإغراء وتحفيز الناس على شرائه وتشجيعهم على اقتنائه، فتُصور لهم بأن هذا المنتج الجديد لا بديل له، وأن هذا المنتج سحري المفعول ولا يمكن التخلي عنه، ولا يمكن العيش بدونه، فبقدرته القضاء على كل المشاكل التي يواجهها الإنسان، كما إنها في الوقت نفسه تجيش وتُسخر كل الأقلام المأجورة في وسائل الإعلام المتعددة والمختلفة لتلميع صورة هذا المنتج في الأسواق، إضافة إلى شراء ضمائر وعقول بعض العلماء والباحثين المأجورين للقيام بإجراء أبحاثٍ "علمية"، أو كتابة مقالات تبين سلامة هذا المنتج على الإنسان والبيئة وعدم إضراره بالحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وفاعليته الشديدة والقوية في القيام بوظيفته ودوره الذي صنع من أجله. 

 

فهذا المبيد الأعجوبة الذي اُستخدم لقتل الأعشاب في الحقول والمزارع، كان فعلاً شديد الفاعلية والتأثير في القضاء كلياً على الأعشاب والنباتات الضارة والغازية، ولذلك نجح في مهمته نجاحاً باهراً خلال العقود الماضية، ولكن في الوقت نفسه الأمر الخطير والعصيب الذي تتجاهله هذه الشركات التي تسعى للربح فقط على حساب كل شيء، وينساه الناس كلياً هو مصير هذا المبيد، أو أي مبيد أو منتج آخر، بعد رشه واستخدامه لسنوات طويلة في البيئة، وتأثيراته المحتملة المتراكمة بعد هذه السنوات الطوال على الإنسان والكائنات الحية.

 

وفي هذا الصدد أَطرح الأسئلة التالية:

ماذا سيحدث لهذا المبيد بعد دخوله في البيئة؟ وهل سيتحلل أم سيتراكم في مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة؟ وهل سينتقل مع الزمن من التربة إلى النبات ثم إلى الإنسان؟ وما هي الأضرار التي يسببها للإنسان والكائنات الحية الأخرى؟

 

فهذا المبيد بعد سنواتٍ من استعماله في جميع دول العالم تبين أنه يدخل في التربة، فتمتصه جذور النباتات التي يأكلها الإنسان، وقد أكدت الكثير من الدراسات على هذه الحقيقة، منها الدراسة التي قامت بها "مجموعة العمل البيئية" ونقلتها صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 16 أغسطس من العام الجاري، حيث أكدت من خلال تحليل 45 عينة على وجود نسبٍ صغيرة من مبيد الأعشاب في بعض المواد الغذائية من منتجات الشوفان التي تُستخدم في الفطور في الولايات المتحدة الأمريكية مثل (Cheerios, Quaker Oats).

 

ولذلك فقد صنَّفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية هذا المبيد والمادة الفاعلة فيه بأنها "من المحتمل أن تكون مسرطنة للإنسان" منذ مارس عام 2015، وولاية كاليفورنيا أضافت هذه المادة على قائمة السرطان السوداء.

 

فهذا المبيد والأضرار التي تنجم عنه بعد استعماله بطرق غير رشيدة وعشوائية وعلى نطاقٍ واسع وكبير يُعد مثالاً صارخاً مشهوداً يُضاف إلى أمثلة كثيرة جداً تحدثتُ عنها في مناسبات سابقة، وما يمر به هذا المبيد الآن من دعاوى قضائية تُرفع ضده، قد مرًّت بها من قبل منتجات كثيرة أخرى يعرفها الجميع جيداً وعاصر تاريخها الأسود والمظلم تجاه البشرية جمعاء.

 

فالسجائر والتدخين بكل أنواعها وأشكالها ومسمياتها المختلفة مرت بهذه الدورة، بدءاً بتسويقها إلى الشعوب بأنها رمز الرجولة والقوة وأنها لا ضرر لها كلياً على الصحة الفردية والعامة، ثم بدأ العلماء في التعمق في هذا المنتج الجديد وأكدوا في الخمسينيات من القرن المنصرم أنها تسبب السرطان وأكثر من 12 نوعاً من السرطان، فبدأ الناس برفع دعاوى ضد شركات التبغ التي أنكرت في البداية أن التدخين يعرض الإنسان لأية مخاطر صحية ثم بعد أن حصحص الحق وأجمعت الأبحاث على أضرارها اضطرت شركات التبغ إلى الاعتراف والانصياع للحق المبين وتعويض المتضررين.

 

الجمعة، 24 أغسطس 2018

الإرثْ الثقيل الذي لا يعلمه الناس


عامة الناس ينظرون إلى السلاح النووي كالقنبلة الذرية أو الصواريخ ذات الرؤوس النووية بأنها دليل عملي على التقدم والرقي، ومؤشر مشهود على قوة الدولة وتطورها العلمي والتقني، وعامل من عوامل هيبتها ورهبتها وتقدم موقعها العالمي السياسي والعسكري بين دول النادي النووي.

ولكن في الوقت نفسه لا يعلمون، بل ويجهلون كلياً الإرث الثقيل والطامة الكبرى التي تتركها أسلحة الدمار الشامل على المجتمع نفسه وعلى الناس أجمعين لمئات السنين ولجيلٍ بعد جيل، فهذا الإرث العظيم، والعبء الكبير يُثقل الآن كاهل العلماء والمختصين ويقصم ظهورهم، ويُعد بالنسبة لهم كابوساً مرعباً وحلماً كارثياً يجثم على صدورهم كل ليلة.

فصناعة أسلحة الدمار الشامل والدخول في عالم التقنية النووية بشكلٍ عام سواء لأغراض سلمية أو عسكرية تترك وراءها مخلفات نووية مشعة لا يمكن علاجها حتى يومنا هذا بطرق سليمة ومستدامة بيئياً وصحياً، ولا يمكن إدارتها والتحكم فيها بأسلوب علمي يحمي صحة الناس ويرعى في الوقت نفسه مصالح وسلامة مكونات البيئة الحية وغير الحية من ماءٍ وهواءٍ وتربة وحياة فطرية نباتية أو حيوانية.

فالدول الصناعية العريقة الغربية والشرقية التي ولجت منذ العشرينيات من القرن المنصرم في تحديات استعمال التقنية النووية لأغراض سلمية أو عسكرية، وشرعت في القيام بتجارب على إنتاج القنابل الذرية تعاني الأمرين منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا من المخلفات النووية المشعة التي نجمت عن هذه البرامج والأنشطة النووية، وهي وبعد مضي أكثر من 80 عاماً تقف حائرة وعاجزة أمام هذه المخلفات الخطرة والمدمرة للحرث والنسل وأعلنت فشلها الذريع في التوصل لحلولٍ عملية مستدامة، وكل ما قامت به طوال العقود الطويلة الماضية هو دفن وتخزين مخلفات الدمار الشامل هذه في خنادق عميقة تحت الأرض، أو وضعها في بركٍ مائية، أو خزانات حديدية، ثم توريث هذا الكابوس المخيف ونقله للأجيال اللاحقة للتعامل معها!

فالولايات المتحدة الأمريكية ورَّثتْ شعبها جيلاً بعد جيل منطقة مساحتها قرابة الإجمالية 1500 كيلومتر مربع أي أكبر من مساحة البحرين، وتُعرف بمحمية هانفورد النووية( Hanford Nuclear Reservation) بالقرب من مدينة ريشموند بولاية واشنطن، وهي الموقع السري الذي استخدم في الأربعينيات من القرن المنصرم لإنتاج أول قنبلة ذرية وأسلحة نووية أخرى، وهذه المنطقة تُعد من أخطر المواقع على سطح الأرض فهي تحمل في بطنها الآلاف من الأطنان من مخلفات الدمار الشامل والقنابل الذرية الموقوتة المخزنة في براميل أكل عليها الدهر وأضعف قوتها الزمن، فبدأت تتهاوى وتتسرب منها الملوثات الإشعاعية القاتلة، علماً بأن آخر تسرب إشعاعي وقع في 15 فبراير 2013 وأُعلن رسمياً عن حدوثه.

وها هي بريطانيا العظمى تقف يائسة وحائرة أيضاً أمام المخلفات النووية التي تولدت قبل أكثر من 60 عاماً، ومازالت تتراكم في بيئتها، فهي تبحث دون جدوى عن مواقع تصلح لدفنها وتخزيها إلى أجلٍ غير مسمى، حتى أن الحكومة البريطانية أعلنت في 12 أغسطس من العام الجاري بأنها تدرس في دفن وتخزين مخلفات الدمار الشامل النووية تحت أكثر مناطق بريطانيا جمالاً وجذباً للسياح، وهي منطقة البحيرات العظمى(Lake District) في شمال البلاد!

وكوريا الجنوبية التي تولد الكهرباء من أكثر من ثلاثين مفاعلاً نووياً، تستخدم موقعاً خاصاً لتخزين المخلفات المشعة، والآن هي تقاسي من أزمة خانقة حقيقية، فهذا الموقع بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة ويتشبع كلياً من هذه المخلفات، فلا يتحمل أية كمية أخرى تنتج سنوياً من هذه المفاعلات.

وألمانيا ورِثتْ حملاً عصيباً من الأجيال السابقة قرابة 130 ألف برميل من المخلفات المشعة المدفونة تحت الأرض في مناجم ملحية تحت أعماق الأرض، ولا يعلم إلا الله إلى متى ستظل مخزنة هناك، وماذا سيحدث لها في العقود القادمة؟

واليابان لا تختلف في ورطتها عن الدول الصناعية المتقدمة الأخرى فقد انقطعت بها السبل في كيفية إدارة مخلفات الدمار الشامل، إلى درجة أن الحكومة اليابانية أعلنت في 14 أغسطس من العام الجاري بأنها تدرس جميع الخيارات الممكنة، ومنها دفن وتخزين المخلفات النووية المشعة تحت قاع البحر!

فجميع هذه الدول النووية الكبرى نقلت أزمتها الطاحنة ومشكلاتها المستعصية في التعامل مع مخلفات الدمار الشامل النووية إلى الأجيال اللاحقة، وإنني على يقين بأن الجيل الحالي أيضاً سيورث الجيل القادم هذه القضية العصيبة، ولا أدري متى سينتهي هذا الإرث الثقيل؟

الاثنين، 20 أغسطس 2018

تلوث الهواء وقيمة الأراضي، خليج توبلي مثالاً


عندما بدأتْ تنشط حركة تداول العقارات من بيع وشراء في منطقة خليج توبلي في الثمانينيات من القرن المنصرم، كنتُ أتلقى مكالمات هاتفية كثيرة من المواطنين الذين يرغبون في شراء الأراضي، أو المساكن والفلل الجاهزة في تلك المنطقة، وكان هؤلاء المواطنون يريدون أخذ مشورتي ورأيي في شراء العقار في خليج توبلي.

فلماذا إذن يتصل بي هؤلاء المواطنين؟

فأنا لستُ خبيراً في بيع العقارات، ولست متبحراً في أسعار الأراضي في مناطق البحرين المختلفة، فهذه المهنة ليست مهنتي وبضاعتي مُزْجاة في هذا المجال الاقتصادي المتخصص، ولا أعلم عنها إلا القليل غير النافع للناس، وليست لدي خبرة ميدانية عملية فيها، فلماذا هذه الاتصالات المتكررة والمستمرة من الناس ليستشيرونني عند رغبتهم في شراء العقار في خليج توبلي بالتحديد؟

فمشكلة السكن في منطقة خليج توبلي ذي شقين مرتبطين، الأول هو الشق البيئي والثاني هو الشق الصحي الذي ينجم من تدهور البيئة، وبالتحديد الهواء الجوي في تلك المنطقة. فالجميع يعلم بأن هناك مصدراً كبيراً لتلوث الهواء في خليج توبلي وهو وجود أكبر محطة معالجة لمياه المجاري، ومن طبيعية هذا المحطة، مهما فعلنا واتخذنا من احتياطات وإجراءات بيئية وتقنية، فإن هناك روائح عفنة ونتنة تنبعث منها لأنها تتعامل مع مياه المجاري الآسنة.

فعملية معالجة مياه الصرف الصحي أو مياه المجاري تنطلق منها ملوثات سامة كثيرة، ومن سوء حظ الساكنين في تلك المنطقة إن هذه الملوثات لها روائح كريهة تؤذي الإنسان عن بعد ولا يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها، مثل كبريتيد الهيدروجين الحمضي والأمونيا القاعدي، إضافة إلى أن هذه الملوثات لها خصائص حمضية وقلوية، أي انها شديدة التأثير على المواد وعلى الأجهزة التي يستخدمها الإنسان في منزله كالمكيفات وتؤدي إلى تلفها وخرابها بشكلٍ سريع، علاوة على أضرارها المزمنة على صحة الساكنين في المنطقة.

فوجود هذا العامل البيئي الصحي والمصدر الواضح للعيان لتلوث الهواء الجوي جعل الناس يفكرون ملياً قبل شراء أي عقار في المنطقة، بل وإن الكثير منهم صرف النظر عن شراء قطعة أرض أو منزل جاهز في هذه المنطقة الملوثة.

وعلاوة على وجود محطة المجاري كمصدر للتلوث، كانت هناك آلاف الأطنان من حمأة مياه المجاري، وهي المخلفات شبه الصلبة التي تنجم عن معالجة مياه المجاري، التي كانت ترمى في سواحل خليج توبلي فتتحلل مع الوقت حيوياً وكيميائياً وطبيعياً وتنبعث عنها أيضاً ملوثات خطرة روائحها يشمها الإنسان من على بعد كيلومترات طويلة.

فوجود هذا العامل البيئي والصحي جعل البعض يعزف عن الشراء في المنطقة، كما أدى مع الوقت إلى انخفاض أسعار العقار. وهذه الظاهرة المتمثلة في انخفاض أسعار العقارات بشكلٍ عام بسبب التلوث وتدهور صحة البيئة، بدأت تنتشر في كل دول العالم نتيجة لتفاقم مشكلة تلوث الهواء في المدن وتأثيرها المباشر على الصحة العامة والكوارث البيئية التي وقعت عبر التاريخ المعاصر بسبب التلوث، وبخاصة في المناطق الساخنة التي توجد بها مصادر واضحة للتلوث كالمطارات، والمصانع، ومحطات معالجة مياه المجاري، والشوارع المكتظة بالسيارات ووسائل النقل الأخرى، ومحطات الحافلات، ومواقع أبراج الاتصالات، ومواقع دفن المخلفات الصلبة البلدية والصناعية، كما أن ارتفاع وعي الناس في السنوات الأخيرة بالأضرار الصحية التي يعاني منها الإنسان عندما يعيش في بيئة ملوثة وبالقرب من مصادر التلوث، إضافة إلى ازدياد اهتمامهم وإدراكهم بانعكاسات تلوث الهواء، أدى إلى هروبهم من شراء أي عقار في هذه المناطق المشبوهة بالملوثات.

وقد نشرت صحيفة بريطانية مؤخراً تحقيقاً أكدت فيه بأن التلوث يخفض من أسعار العقارات في المنطقة بنسبة تصل إلى 15%،وأن الناس بدأوا يسألون أولاً عن جودة الهواء في المنطقة التي يريدون شراء أي منزل فيها ويستفسرون عن وجود مصادر لتلوث الهواء بالقرب منه، مما أضطر الآن شركات العقار الكبرى إلى شراء برامج بيئية متطورة ومكلفة تُقدم معلومات عن نوعية الهواء في مناطق المدن وتركيز ونسبة الملوثات في كل منطقة.     

ولذلك نجد أنه لأول مرة في تاريخ البشرية يصبح العامل البيئي المتعلق بوجود الملوثات السامة والخطرة ووجود مصادر التلوث بشكلٍ عام، محركاً لسوق العقار، ومسيطراً على الأسعار، ومتحكماً فيها نزولاً أو صعوداً.

الخميس، 16 أغسطس 2018

سجناء يجرون أبحاثاً علمية!


هناك ظواهر كونية عظيمة نراها أمامنا ونشاهدها كل يوم، أو مرة كل سنة، وهذه الظواهر الكونية والآيات الربانية الغريبة والعجيبة ذات الأسرار المكنونة والألغاز الحائرة، ألهمت العلماء وأثارت عند الباحثين فضول سبر غورها والدخول في أعماقها، وفك خيوط خفاياها ومدلولاتها، وإيجاد تطبيقات عملية واختراعات تستفيد منها البشرية عامة.

ومن أشهر هذه المظاهر وأكثرها عجباً ودهشة للعلماء والمفكرين هجرة الفراشات الجماعية المليونيرة في رحلة ماراثونية تزيد عن 4000كيلومتر من الجو البارد في شمال الولايات المتحدة الأمريكية إلى جنوبها، وبالتحديد من كندا ومن الولايات الشمالية الشرقية أو الشمالية الغربية لأمريكا إلى دفء دولة المكسيك جنوباً في وسط غاباتأشجار التنوب أو الراتين وهي من أنواع الصنوبر المعروفة، أي أن هذه الحشرة الطائرة الضعيفة والصغيرة الحجم والوزن تقطع بفطرتها وغريزتها التي خلقها الله عليها، دون أن تكل أو تتعب أو تمل رحلة سنوية، كرحلة الشتاء والصيف، طولها قرابة أربعة أضعاف المسافة من البحرين إلى مكة المكرمة!

وقد أراد أحد العلماء من جامعة ولاية واشنطن في شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية التعرف عن كثب على ظاهرة هجرة هذه الفراشات من ولاية واشنطن حيث موطنها الأصلي إلى الولايات جنوب واشنطن وصولاً إلى موقعها التي تحط فيها رحالها مؤقتاً في المكسيك قبل رجوعها مرة ثانية في رحلة الإياب، ومثل هذه الدراسات الميدانية التي تستلزم مراقبة ومتابعة الملايين من هذه الفراشات في رحلتها الطويلة تُعتبر عملية مرهقة ومكلفة جداً، وتحتاج في الوقت نفسه إلى ميزانية ضخمة للقيام بها، كما تحتاج إلى الآلاف من الأيدي العاملة من علماء وفنيين ومتطوعين لدراسة دورة حياة هذه الفراشات من ولاية واشنطن إلى المكسيك.

ولذلك فكَّر هذا الأستاذ الجامعي وفريقه البحثي من جامعة ولاية واشنطن في فئةٍ من أفراد المجتمع لديها كل الوقت، بل وليس لديها أي عملٍ تقوم به، وفي الوقت نفسه الاستعانة والاستفادة من هذه الفئة لإجراء هذا البحث العلمي الميداني الطويل والشاق لا يكلفهم مالياً دولاراً واحداً!

هذه الفئة هم القابعون في السجون، وبعضهم محكوم عليهم بالسجن المؤبد أو لسنوات عجاف طويلة، فالوقت متوفر وكثير، والفراغ طويل وقاتل، والأيدي العاملة كبيرة وبدون أية كلفة، إضافة إلى إشغال هؤلاء السجناء في عمل اجتماعي بحثي يشغل فراغهم في عمل مفيد ومثمر، ويقوي عزيمتهم، ويحرك فكرهم، ويؤثر إيجابياً على نفسياتهم، حيث قام الفريق الجامعي بزيارة خاصة إلى مديري سجن والا والا(Walla Walla) في ولاية واشنطن، وعرض فكرة المشروع عليهم وطلب تعاون الجميع للقيام بمهمات محددة تصب في أهداف هذا البحث، وبالتحديد إنشاء مزرعة صغيرة لإكثار الفراش في جميع مراحل حياتهم، ووضع ملصقٍ خفيف جداً تحت الجناح من أجل المراقبة والمتابعة والتعرف على سير الرحلة من ولاية واشنطن ثم جنوباً إلى ولايتي إيداهووأوريجن ومروراً بولاية كاليفورنيا ونيفادا ووصولاً إلى المكسيك، ثم قيام السجناء بأيديهم بإطلاق هذه الفراشات التي قاموا برعايتها وإكثارها في وقت معين من السنة إلى البيئة الخارجية. وبالفعل لاقى المشروع استحساناً من المسؤولين في السجن وبدأ بداية موفقة وناجحة، حيث تم بالفعل بعد أشهر من العمل الجاد الدؤوب والطويل من السجناء بإطلاق سراح الدفعة الأولى المكونة من الآلاف من هذه الفراشات من نوع فراشة الملكة في12 يوليو 2018.

فمثل هذه المشاريع البحثية الاجتماعية الرائدة لها مردودات عظيمة تنعكس على المجتمع برمته من جميع النواحي وتضرب عصفورين بحجرٍ واحد. أما من الناحية البيئية العلمية فمراقبة ومتابعة سلامة هذه الكائنات الفطرية الحية المهاجرة عبر الحدود الجغرافية سواء الطيور في أعالي السماء، أو الكائنات البرية في الصحاري والغابات، أو الأحياء البحرية في أعماق المحيطات، مهمة جداً كمؤشر على سلامة الكرة الأرضية ودليل دامغ ميداني على صحة كوكبنا،  فمشاهدة هذه الدورة السنوية والهجرة الجماعية في وقتها وفي مكانها، دون أي تأخير أو تقديم في الموعد يؤكد للإنسان أن النظام البيئي الكوني يعمل بشكلٍ سليم وفاعل، ويثبت لنا جميعاً أن كوكبنا لا يعاني من خللٍ في التوازن أو من أية أعراضٍ مرضية عابرة أو مزمنة.  

وأما من الناحية الاجتماعية فتدريب بعض فئات المجتمع، سواء الذين يقضون وقتاً في السجون، أو غيرهم على المشاركة الفاعلة في البحث العلمي وإجراء الدراسات عامة، وبخاصة في مجال التفكير في مخلوقات الله، والتدبر في إبداع خلقه، والتأمل في أسرار الظواهر الكونية المرئية، تزيد من إيمان الإنسان بربه، وتقوي عقيدته، وتثير عنده دائماً روح البحث والاكتشاف، وتنمي في نفسه القدرات الذهنية والعقلية والرغبة في الإبداع والتطوير.

السبت، 11 أغسطس 2018

هل قضية التغير المناخي تَهُم المواطن البحريني؟


أُصنفُ المشكلات والقضايا البيئية إلى ثلاثة أقسام رئيسة حسب تأثيراتها الجغرافية، وحدود أضرارها على الناس والحياة الفطرية، فهناك قضايا محلية وطنية، أي أن تأثيراتها السلبية تقع عادة على البيئة المحلية وعلى الناس الذين يعيشون في تلك المنطقة، كظاهرة الإثراء الغذائي أو تغير لون المسطحات المائية إلى اللون الأحمر الفاقع أو الأخضر الداكن، أو ظاهرة انقراض الأحياء وفقدان التنوع الحيوي، وهناك مشكلات إقليمية تمتد أيادي أضرارها على منطقة جغرافية أوسع تشمل في بعض الحالات عدة دول كظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي والمطر الحمضي، وفي المقابل هناك قضايا بيئية دولية تغطي تأثيراتها الخطرة كل دول العالم وعلى كوكبنا عامة من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، فلا تُستثني أية بقعة صغيرة أم كبيرة، بعيدة أم قريبة، غنية أم فقيرة، متقدمة أم نامية من تداعياتها المهددة لصحة وأمن كوكبنا وكل من يعيش عليها، مثل انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون العلوية التي تحمينا من شرور الأشعة البنفسجية المهلكة للحرث والنسل.

 

كذلك هناك القضية الدولية التي شغلت دول العالم منذ أكثر من خمسين عاماً، ومازالت تراوح في مكانها، فلا يعلم رجال السياسة والبيئة كيفية التعامل معها وخفض بصماتها التي تركتها منذ عقود على البيئة والإنسان والكائنات الحية، وهي قضية التغير المناخي، أو ما يُطلق عليه أيضاً بالاحتباس الحراري، أو قضية سخونة الأرض، أو ظاهرة البيت الزجاجي.

 

فالمجتمع الدولي، ممثلاً في منظمات الأمم المتحدة المعنية، يحاول منذ قمة الأرض، أو مؤتمر البيئة والتنمية في ريو دي جانيروا في البرازيل في عام 1992 أن يضح حلولاً دولية مشتركة فاعلة وملزمة للتصدي بشكلٍ جماعي لهذه القضية العالمية التي تُسهم كل دولة، ويسهم كل إنسان وكل حيوان وكل نبات في وجودها وتفاقمها، ولكن هذه الحلول ومنذ ذلك الوقت تفشل في كل محاولة تقوم بها الدول، فمازلنا على حالنا ووضعنا الذي بدأنا فيه عام 1992 فندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها.

 

فهل لهذه القضية الدولية المعقدة علاقة بالمواطن البحريني الذي يعيش في جزرٍ صغيرة بالقرب من سطح البحر؟ وهل يتضرر المواطن من مردودات التغير المناخي على المستوى الدولي؟ 

 

لا أريد هنا أن أَلجَ في التفاصيل العلمية المعقدة لهذه القضية، ولكن من أجل التبسيط فإن الإنسان عندما يفتح الكهرباء في منزله، أو مكتبه، أو في مكان عمله، وعندما يشغل سيارته، أو يركب الطائرة، وعندما يستخدم الثلاجات والمكيفات فإنه يطلق ملوثات كثيرة ومتنوعة، على رأسها ثاني أكسيد الكربون، ثم غاز الميثان وأكاسيد النيتروجين، إضافة إلى مركبات الفلورو كلورو كربون والمعروفة بالـ سِي إِف سي، وهذه الملوثات وغيرها تؤدي في نهاية المطاف إلى رفع درجة حرارة الأرض، ولهذا الارتفاع في درجة حرارة كوكبنا تداعيات كثيرة بيئية، وصحية، واجتماعية، واقتصادية تنعكس على كل كائن حي يعيش فوق سطح الأرض.

 

وأول هذه التداعيات وأشدها تهديداً لأمن الإنسان واستدامة وجوده على سطح الأرض هو ارتفاع مستوى سطح البحر الذي ينجم عن ذوبان الثلوج وتمدد وتوسع المحيطات. فهذا الارتفاع في مستوى سطح البحر، مهما كان صغيراً فإنه يؤثر على المنشآت والمرافق الساحلية التي بنيناها بأيدينا سنواتٍ طويلة وسهرنا عقوداً لإنشائها، وقد يكون التأثير تدميراً شاملاً كاملاً لكل هذه المرافق التنموية.

 

ونحن في البحرين، وكل مواطن يعيش على هذه الأرض الطيبة عليه أن يهتم شخصياً بهذه القضية الأمنية البحتة، ويُسهم على المستوى الفردي والجماعي في علاجها ومكافحتها بكل ما أوتي من وسائل وإمكانات لحماية هذه المكتسبات الوطنية التنموية الساحلية من جهة وحماية أنفسنا وأولادنا من كارثة ارتفاع مستوى سطح البحر.

 

فالبحرين مجموعة من أكثر من 36 جزيرة صغيرة منخفضة السطح، وجزء كبير من مساحة البحرين التي بلغت الآن حسب المخطط الهيكلي الاستراتيجي لعام 2016، 934 كيلومتراً مربعاً، يُعد مساحات ساحلية مدفونة من جسم البحر ووصلت إلى قرابة 290 كيلومتراً مربعاً، مما يعني أن كل المنتجعات والمرافق السياحية والصناعية والسكنية التي شيدناها حديثاً وأنفقنا عليها الملايين من الدنانير على السواحل المدفونة ستكون هي الأشد تنكيلاً وضرراً من تداعيات التغير المناخي وارتفاع مستوى سطح البحر، إضافة إلى التأثيرات التي سيعاني منها الناس الذين يعيشون في هذه المناطق الساحلية المدفونة بشكلٍ مباشر.

 

أما درجة التأثير ومستوى الضرر والمساحة من اليابسة التي ستغمرها هذه المياه نتيجة للتغير المناخي، فتعتمد على مستوى ارتفاع سطح البحر، وهناك العديد من الدراسات التي قامت بمحاولة وضع "أرقام" لمستوى الارتفاع حسب التقديرات الحسابية، ولكن مهما كان مستوى الارتفاع، ولو كان قليلاً، فعلينا الأخذ من اليوم بسياسة "الوقاية خير من العلاج"، أو المبدأ "الاحترازي" المبني على سياسة منع وتجنب الضرر قبل وقوعه واتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لذلك، سواء من خلال سن التشريعات والقوانين المتعلقة بتحديد مصادر تلوث الهواء وخفض انبعاث الملوثات منها، أو من خلال وضع البرامج التنفيذية لتفعيل هذه القوانين على المستوى الحكومي الرسمي، أو على مستوى الجمعيات الأهلية الطوعية.

 

فالضرر قادم لا محالة، عاجلاً أم آجلاً.