الخميس، 16 أغسطس 2018

سجناء يجرون أبحاثاً علمية!


هناك ظواهر كونية عظيمة نراها أمامنا ونشاهدها كل يوم، أو مرة كل سنة، وهذه الظواهر الكونية والآيات الربانية الغريبة والعجيبة ذات الأسرار المكنونة والألغاز الحائرة، ألهمت العلماء وأثارت عند الباحثين فضول سبر غورها والدخول في أعماقها، وفك خيوط خفاياها ومدلولاتها، وإيجاد تطبيقات عملية واختراعات تستفيد منها البشرية عامة.

ومن أشهر هذه المظاهر وأكثرها عجباً ودهشة للعلماء والمفكرين هجرة الفراشات الجماعية المليونيرة في رحلة ماراثونية تزيد عن 4000كيلومتر من الجو البارد في شمال الولايات المتحدة الأمريكية إلى جنوبها، وبالتحديد من كندا ومن الولايات الشمالية الشرقية أو الشمالية الغربية لأمريكا إلى دفء دولة المكسيك جنوباً في وسط غاباتأشجار التنوب أو الراتين وهي من أنواع الصنوبر المعروفة، أي أن هذه الحشرة الطائرة الضعيفة والصغيرة الحجم والوزن تقطع بفطرتها وغريزتها التي خلقها الله عليها، دون أن تكل أو تتعب أو تمل رحلة سنوية، كرحلة الشتاء والصيف، طولها قرابة أربعة أضعاف المسافة من البحرين إلى مكة المكرمة!

وقد أراد أحد العلماء من جامعة ولاية واشنطن في شمال غرب الولايات المتحدة الأمريكية التعرف عن كثب على ظاهرة هجرة هذه الفراشات من ولاية واشنطن حيث موطنها الأصلي إلى الولايات جنوب واشنطن وصولاً إلى موقعها التي تحط فيها رحالها مؤقتاً في المكسيك قبل رجوعها مرة ثانية في رحلة الإياب، ومثل هذه الدراسات الميدانية التي تستلزم مراقبة ومتابعة الملايين من هذه الفراشات في رحلتها الطويلة تُعتبر عملية مرهقة ومكلفة جداً، وتحتاج في الوقت نفسه إلى ميزانية ضخمة للقيام بها، كما تحتاج إلى الآلاف من الأيدي العاملة من علماء وفنيين ومتطوعين لدراسة دورة حياة هذه الفراشات من ولاية واشنطن إلى المكسيك.

ولذلك فكَّر هذا الأستاذ الجامعي وفريقه البحثي من جامعة ولاية واشنطن في فئةٍ من أفراد المجتمع لديها كل الوقت، بل وليس لديها أي عملٍ تقوم به، وفي الوقت نفسه الاستعانة والاستفادة من هذه الفئة لإجراء هذا البحث العلمي الميداني الطويل والشاق لا يكلفهم مالياً دولاراً واحداً!

هذه الفئة هم القابعون في السجون، وبعضهم محكوم عليهم بالسجن المؤبد أو لسنوات عجاف طويلة، فالوقت متوفر وكثير، والفراغ طويل وقاتل، والأيدي العاملة كبيرة وبدون أية كلفة، إضافة إلى إشغال هؤلاء السجناء في عمل اجتماعي بحثي يشغل فراغهم في عمل مفيد ومثمر، ويقوي عزيمتهم، ويحرك فكرهم، ويؤثر إيجابياً على نفسياتهم، حيث قام الفريق الجامعي بزيارة خاصة إلى مديري سجن والا والا(Walla Walla) في ولاية واشنطن، وعرض فكرة المشروع عليهم وطلب تعاون الجميع للقيام بمهمات محددة تصب في أهداف هذا البحث، وبالتحديد إنشاء مزرعة صغيرة لإكثار الفراش في جميع مراحل حياتهم، ووضع ملصقٍ خفيف جداً تحت الجناح من أجل المراقبة والمتابعة والتعرف على سير الرحلة من ولاية واشنطن ثم جنوباً إلى ولايتي إيداهووأوريجن ومروراً بولاية كاليفورنيا ونيفادا ووصولاً إلى المكسيك، ثم قيام السجناء بأيديهم بإطلاق هذه الفراشات التي قاموا برعايتها وإكثارها في وقت معين من السنة إلى البيئة الخارجية. وبالفعل لاقى المشروع استحساناً من المسؤولين في السجن وبدأ بداية موفقة وناجحة، حيث تم بالفعل بعد أشهر من العمل الجاد الدؤوب والطويل من السجناء بإطلاق سراح الدفعة الأولى المكونة من الآلاف من هذه الفراشات من نوع فراشة الملكة في12 يوليو 2018.

فمثل هذه المشاريع البحثية الاجتماعية الرائدة لها مردودات عظيمة تنعكس على المجتمع برمته من جميع النواحي وتضرب عصفورين بحجرٍ واحد. أما من الناحية البيئية العلمية فمراقبة ومتابعة سلامة هذه الكائنات الفطرية الحية المهاجرة عبر الحدود الجغرافية سواء الطيور في أعالي السماء، أو الكائنات البرية في الصحاري والغابات، أو الأحياء البحرية في أعماق المحيطات، مهمة جداً كمؤشر على سلامة الكرة الأرضية ودليل دامغ ميداني على صحة كوكبنا،  فمشاهدة هذه الدورة السنوية والهجرة الجماعية في وقتها وفي مكانها، دون أي تأخير أو تقديم في الموعد يؤكد للإنسان أن النظام البيئي الكوني يعمل بشكلٍ سليم وفاعل، ويثبت لنا جميعاً أن كوكبنا لا يعاني من خللٍ في التوازن أو من أية أعراضٍ مرضية عابرة أو مزمنة.  

وأما من الناحية الاجتماعية فتدريب بعض فئات المجتمع، سواء الذين يقضون وقتاً في السجون، أو غيرهم على المشاركة الفاعلة في البحث العلمي وإجراء الدراسات عامة، وبخاصة في مجال التفكير في مخلوقات الله، والتدبر في إبداع خلقه، والتأمل في أسرار الظواهر الكونية المرئية، تزيد من إيمان الإنسان بربه، وتقوي عقيدته، وتثير عنده دائماً روح البحث والاكتشاف، وتنمي في نفسه القدرات الذهنية والعقلية والرغبة في الإبداع والتطوير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق