السبت، 4 أغسطس 2018

ما قصة التسمم بغاز الأعصاب في بريطانيا؟


أتذكر عندما كنتُ طالباً في بريطانيا في الفترة من عام 1980 إلى 1984 أنني مررتُ أثناء جولاتي السياحية في مدن وقرى بريطانية في الإجازات الرسمية التي تُغلق فيها الجامعة أبوابها على هذه المدينة الوادعة الهادئة التي لم يسمع عنها الكثير من الناس عندما يزورون بريطانيا، وهي مدينة سالزبيري(Salisbury) الصغيرة الآمنة البعيدة عن صغب وإزعاج المدن الكبيرة والتي تقع نحو 145 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة لندن.

 

والآن فجأة نجد أن الأضواء المحلية والدولية تتجه مباشرة نحو هذه المدينة الوادعة وتصبح محط أنظار العالم، بحيث إن وسائل الإعلام من مختلف دول العالم شدَّت رحالها بسرعة شديدة للسفر إليها ونقل أخبارها فوراً وبدون أي تأخير، فقد وقع أمر جلل عصيب يحتاج إلى هذه التغطية الإعلامية المباشرة من موقع الحدث، ففي الرابع من مارس من العام الجاري تم العثور على رجلٍ روسي وابنته غائبين عن الوعي على كرسي في حديقة عامة في هذه المدينة، وبعد التحقيق الشامل والدقيق تبين بأن الرجل هو سيرجي سكريبال ضابط المخابرات الروسي السابق الذي يعيش في بريطانيا، وأن سبب فقدانه الوعي هو تعرضه لقنبلة كيميائية "فردية"، أي مخصصة لعمليات اغتيال الأفراد، وهذه القنبلة تعرف بـ نوفيشوك(Novichok)، أو بمعنى "القَادِمْ الجديد" باللغة الروسية، وهي نوع من أنواع القنابل الكيميائية ومجموعة من غازات الأعصاب التي تمثل الجيل الرابع منها، حيث طور الاتحاد السوفيتي سابقاً سلاح الدمار الشامل هذا في الفترة من 1971 إلى 1993 أثناء الحرب الباردة، ولم تستخدم قط هذه القنابل الفتاكة والمدمرة بعد إنتاجها في أية عملية عسكرية، فطوى عليها الزمن، ووضعتْ في أرشيف الأسلحة الكيماوية، ونساها العلماء والناس.

 

وبعد اكتشاف البريطانيين لهذه المعلومات حول حادثة الاغتيال، توترت العلاقات بين بريطانيا وروسيا وتمثلت في الطرد الجماعي للدبلوماسيين الرُوس من بريطانيا ودول أوروبية أخرى، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

ولم تنته هذه الحادثة عند هذا الحد، فبعد أربعة أشهر وبالتحديد في الثلاثين من يونيو وقعت حادثة مطابقة لرجلٍ وامرأة من بريطانيا في منطقة(Amesbury) التي تبعد قرابة 13 كيلومتراً من موقع الحادثة الأولى، حيث توفت المرأة في الثامن من يوليو نتيجة للتسمم من هذه القنبلة الكيميائية نفسها، وبعد البحث عن السبب ومصدر هذه القنبلة، أكد المحققون في 14 يوليو على أنهم حصلوا على عبوة زجاجية صغيرة للعطور تحتوي على هذه القنبلة الكيميائية في منزل الضحية البريطاني.

 

وهذه الواقعة المخيفة التي تُلقي الفزع والهلع في قلوب الشعوب في كل أنحاء العالم من انعدام الأمن والاستقرار للأفراد من جهة والشعوب من جهةٍ أخرى، أحيت في ذاكرتنا من جديد اغتيال العميل السوفيتي ألكسندر ليفينينكو في 16 أكتوبر 2006 في بريطانيا باستخدام قنبلة فردية مشعة هي بولونيوم(210).

 

فمثل هذه الإعدامات التي لا رادع لها باستخدام القنابل الكيميائية في وضح النهار وأمام أعين العالم، تؤكد لي بأنه بالرغم من وجود الاتفاقيات الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة الكيميائية في الأغراض العسكرية وغير العسكرية وعلى رأسها بروتوكول جنيف لعام 1925، إلا أننا حتى يومنا هذا نرى أمامنا استخدام بعض الدول والأفراد الإرهابيين لسلاح الدمار الشامل، إما على المستوى الفردي لعمليات الاغتيال كما ذكرنا، أو لتدمير وفناء الشعوب.

 

فالمثال الحي الذي لن يغيب عن ذاكرة أحد لسنواتٍ طويلة قادمة، وشاهد كل إنسان يعيش على وجه الأرض تفاصيله المدمرة الحزينة، وصوره الكئيبة المهلكة للحرث والنسل على شاشات التلفاز ووسائل الاتصال الاجتماعي هو استخدام الأسد منذ عام 2012 لسلاح الدمار الشامل من غاز الكلور السام الذي استخدم أولاً في الحرب العالمية الأولى إلى غاز الأعصاب المعروف بالسارين. ومع سكوت دول العالم عن جرائم الإبادة الجماعية للشعب السوري وعدم وجود أي رادع قوي وفاعل ومؤثر لهذه المجازر البشرية، فقد تمادى واستمر الأسد في تعديه على "الخط الأحمر" الذي أعلن عنه الرئيس الأمريكي السابق أوباما وغيره من زعماء الغرب، واستخدام مراراً وتكراراً وبدون أي خجل أو تردد هذا النوع الممنوع دولياً من السلاح حتى يومنا هذا.

 

وفي الحقيقة واستناداً إلى ما أراه أمامي يومياً من أحداث على الساحة الدولية، فإنني قد فقدت ثقتي وتزعزع إيماني بما يُطلق عليه بالمجتمع الدولي، ممثلاً في الأمم المتحدة وعلى رأسها مجلس الأمن في حماية الشعوب أفراداً وجماعات والوقوف مع المظلومين، فالدول الكبرى لا تعترف نفسها بالتشريعات الدولية التي تشارك هي في صياغتها ووضعها ثم التوقيع والمصادقة عليها، فهي تضع هذه التشريعات لاستغلالها عند الحاجة إليها فقط لتنفيذ مآربها وأهدافها الخاصة بها وفي حالة عدم تعارضها مع مصالحها وأهوائها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق