الجمعة، 24 أغسطس 2018

الإرثْ الثقيل الذي لا يعلمه الناس


عامة الناس ينظرون إلى السلاح النووي كالقنبلة الذرية أو الصواريخ ذات الرؤوس النووية بأنها دليل عملي على التقدم والرقي، ومؤشر مشهود على قوة الدولة وتطورها العلمي والتقني، وعامل من عوامل هيبتها ورهبتها وتقدم موقعها العالمي السياسي والعسكري بين دول النادي النووي.

ولكن في الوقت نفسه لا يعلمون، بل ويجهلون كلياً الإرث الثقيل والطامة الكبرى التي تتركها أسلحة الدمار الشامل على المجتمع نفسه وعلى الناس أجمعين لمئات السنين ولجيلٍ بعد جيل، فهذا الإرث العظيم، والعبء الكبير يُثقل الآن كاهل العلماء والمختصين ويقصم ظهورهم، ويُعد بالنسبة لهم كابوساً مرعباً وحلماً كارثياً يجثم على صدورهم كل ليلة.

فصناعة أسلحة الدمار الشامل والدخول في عالم التقنية النووية بشكلٍ عام سواء لأغراض سلمية أو عسكرية تترك وراءها مخلفات نووية مشعة لا يمكن علاجها حتى يومنا هذا بطرق سليمة ومستدامة بيئياً وصحياً، ولا يمكن إدارتها والتحكم فيها بأسلوب علمي يحمي صحة الناس ويرعى في الوقت نفسه مصالح وسلامة مكونات البيئة الحية وغير الحية من ماءٍ وهواءٍ وتربة وحياة فطرية نباتية أو حيوانية.

فالدول الصناعية العريقة الغربية والشرقية التي ولجت منذ العشرينيات من القرن المنصرم في تحديات استعمال التقنية النووية لأغراض سلمية أو عسكرية، وشرعت في القيام بتجارب على إنتاج القنابل الذرية تعاني الأمرين منذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا من المخلفات النووية المشعة التي نجمت عن هذه البرامج والأنشطة النووية، وهي وبعد مضي أكثر من 80 عاماً تقف حائرة وعاجزة أمام هذه المخلفات الخطرة والمدمرة للحرث والنسل وأعلنت فشلها الذريع في التوصل لحلولٍ عملية مستدامة، وكل ما قامت به طوال العقود الطويلة الماضية هو دفن وتخزين مخلفات الدمار الشامل هذه في خنادق عميقة تحت الأرض، أو وضعها في بركٍ مائية، أو خزانات حديدية، ثم توريث هذا الكابوس المخيف ونقله للأجيال اللاحقة للتعامل معها!

فالولايات المتحدة الأمريكية ورَّثتْ شعبها جيلاً بعد جيل منطقة مساحتها قرابة الإجمالية 1500 كيلومتر مربع أي أكبر من مساحة البحرين، وتُعرف بمحمية هانفورد النووية( Hanford Nuclear Reservation) بالقرب من مدينة ريشموند بولاية واشنطن، وهي الموقع السري الذي استخدم في الأربعينيات من القرن المنصرم لإنتاج أول قنبلة ذرية وأسلحة نووية أخرى، وهذه المنطقة تُعد من أخطر المواقع على سطح الأرض فهي تحمل في بطنها الآلاف من الأطنان من مخلفات الدمار الشامل والقنابل الذرية الموقوتة المخزنة في براميل أكل عليها الدهر وأضعف قوتها الزمن، فبدأت تتهاوى وتتسرب منها الملوثات الإشعاعية القاتلة، علماً بأن آخر تسرب إشعاعي وقع في 15 فبراير 2013 وأُعلن رسمياً عن حدوثه.

وها هي بريطانيا العظمى تقف يائسة وحائرة أيضاً أمام المخلفات النووية التي تولدت قبل أكثر من 60 عاماً، ومازالت تتراكم في بيئتها، فهي تبحث دون جدوى عن مواقع تصلح لدفنها وتخزيها إلى أجلٍ غير مسمى، حتى أن الحكومة البريطانية أعلنت في 12 أغسطس من العام الجاري بأنها تدرس في دفن وتخزين مخلفات الدمار الشامل النووية تحت أكثر مناطق بريطانيا جمالاً وجذباً للسياح، وهي منطقة البحيرات العظمى(Lake District) في شمال البلاد!

وكوريا الجنوبية التي تولد الكهرباء من أكثر من ثلاثين مفاعلاً نووياً، تستخدم موقعاً خاصاً لتخزين المخلفات المشعة، والآن هي تقاسي من أزمة خانقة حقيقية، فهذا الموقع بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة ويتشبع كلياً من هذه المخلفات، فلا يتحمل أية كمية أخرى تنتج سنوياً من هذه المفاعلات.

وألمانيا ورِثتْ حملاً عصيباً من الأجيال السابقة قرابة 130 ألف برميل من المخلفات المشعة المدفونة تحت الأرض في مناجم ملحية تحت أعماق الأرض، ولا يعلم إلا الله إلى متى ستظل مخزنة هناك، وماذا سيحدث لها في العقود القادمة؟

واليابان لا تختلف في ورطتها عن الدول الصناعية المتقدمة الأخرى فقد انقطعت بها السبل في كيفية إدارة مخلفات الدمار الشامل، إلى درجة أن الحكومة اليابانية أعلنت في 14 أغسطس من العام الجاري بأنها تدرس جميع الخيارات الممكنة، ومنها دفن وتخزين المخلفات النووية المشعة تحت قاع البحر!

فجميع هذه الدول النووية الكبرى نقلت أزمتها الطاحنة ومشكلاتها المستعصية في التعامل مع مخلفات الدمار الشامل النووية إلى الأجيال اللاحقة، وإنني على يقين بأن الجيل الحالي أيضاً سيورث الجيل القادم هذه القضية العصيبة، ولا أدري متى سينتهي هذا الإرث الثقيل؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق