الثلاثاء، 28 أغسطس 2018

حُكم قضائي على مُبيد للأعشاب


قررت هيئة المحلفين في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا الأمريكية في العاشر من أغسطس من العام الجاري منح رجل أُصيب بالسرطان مبلغاً مالياً قدره 289 مليون دولار، ولأهمية هذا الحكم نقلته وسائل الإعلام في كل أنحاء العالم، فصدى هذا الحكم البليغ وصل الدنيا كلها.

 

فالمتهم هنا في إصابة هذا المواطن الأمريكي الذي يبلغ من العمر 46 عاماً ويعمل في حديقة مدرسة في ولاية كاليفورنيا بنوعٍ فريدٍ من السرطان يُعرف بـ (non-Hodgkin’s lymphoma)، هو مبيد شائع للأعشاب، وواسع الإنتشار والأكثر شعبية بين المزارعين في كل أنحاء العالم منذ أكثر من أربعين عاماً، وقامت بإنتاجه شركة مونسانتو الأمريكية العملاقة متعددة الجنسيات، وأطلقتْ عليه اسم رَاونْد أَب(Roundup)، ويحتوي على مجموعة من مركبات الفوسفات العضوية السامة أهمها الجليوفوسات (glyphosate).

 

وهذا المنتج كغيره من المنتوجات التي تصنعها الشركات الكبرى، حيث تقوم بحملةٍ دعائية واسعة لتسويقه في كل قطرٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من العالم، وتستخدم لعملية التسويق والبيع كل ما أُوتيت من نفوذ سياسي وتشريعي، وقوة علمية وفنية وتسويقية وأساليب إبداعية حديثة للإغراء وتحفيز الناس على شرائه وتشجيعهم على اقتنائه، فتُصور لهم بأن هذا المنتج الجديد لا بديل له، وأن هذا المنتج سحري المفعول ولا يمكن التخلي عنه، ولا يمكن العيش بدونه، فبقدرته القضاء على كل المشاكل التي يواجهها الإنسان، كما إنها في الوقت نفسه تجيش وتُسخر كل الأقلام المأجورة في وسائل الإعلام المتعددة والمختلفة لتلميع صورة هذا المنتج في الأسواق، إضافة إلى شراء ضمائر وعقول بعض العلماء والباحثين المأجورين للقيام بإجراء أبحاثٍ "علمية"، أو كتابة مقالات تبين سلامة هذا المنتج على الإنسان والبيئة وعدم إضراره بالحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وفاعليته الشديدة والقوية في القيام بوظيفته ودوره الذي صنع من أجله. 

 

فهذا المبيد الأعجوبة الذي اُستخدم لقتل الأعشاب في الحقول والمزارع، كان فعلاً شديد الفاعلية والتأثير في القضاء كلياً على الأعشاب والنباتات الضارة والغازية، ولذلك نجح في مهمته نجاحاً باهراً خلال العقود الماضية، ولكن في الوقت نفسه الأمر الخطير والعصيب الذي تتجاهله هذه الشركات التي تسعى للربح فقط على حساب كل شيء، وينساه الناس كلياً هو مصير هذا المبيد، أو أي مبيد أو منتج آخر، بعد رشه واستخدامه لسنوات طويلة في البيئة، وتأثيراته المحتملة المتراكمة بعد هذه السنوات الطوال على الإنسان والكائنات الحية.

 

وفي هذا الصدد أَطرح الأسئلة التالية:

ماذا سيحدث لهذا المبيد بعد دخوله في البيئة؟ وهل سيتحلل أم سيتراكم في مكونات البيئة من ماءٍ وهواءٍ وتربة؟ وهل سينتقل مع الزمن من التربة إلى النبات ثم إلى الإنسان؟ وما هي الأضرار التي يسببها للإنسان والكائنات الحية الأخرى؟

 

فهذا المبيد بعد سنواتٍ من استعماله في جميع دول العالم تبين أنه يدخل في التربة، فتمتصه جذور النباتات التي يأكلها الإنسان، وقد أكدت الكثير من الدراسات على هذه الحقيقة، منها الدراسة التي قامت بها "مجموعة العمل البيئية" ونقلتها صحيفة النيويورك تايمس الأمريكية في 16 أغسطس من العام الجاري، حيث أكدت من خلال تحليل 45 عينة على وجود نسبٍ صغيرة من مبيد الأعشاب في بعض المواد الغذائية من منتجات الشوفان التي تُستخدم في الفطور في الولايات المتحدة الأمريكية مثل (Cheerios, Quaker Oats).

 

ولذلك فقد صنَّفت الوكالة الدولية لأبحاث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية هذا المبيد والمادة الفاعلة فيه بأنها "من المحتمل أن تكون مسرطنة للإنسان" منذ مارس عام 2015، وولاية كاليفورنيا أضافت هذه المادة على قائمة السرطان السوداء.

 

فهذا المبيد والأضرار التي تنجم عنه بعد استعماله بطرق غير رشيدة وعشوائية وعلى نطاقٍ واسع وكبير يُعد مثالاً صارخاً مشهوداً يُضاف إلى أمثلة كثيرة جداً تحدثتُ عنها في مناسبات سابقة، وما يمر به هذا المبيد الآن من دعاوى قضائية تُرفع ضده، قد مرًّت بها من قبل منتجات كثيرة أخرى يعرفها الجميع جيداً وعاصر تاريخها الأسود والمظلم تجاه البشرية جمعاء.

 

فالسجائر والتدخين بكل أنواعها وأشكالها ومسمياتها المختلفة مرت بهذه الدورة، بدءاً بتسويقها إلى الشعوب بأنها رمز الرجولة والقوة وأنها لا ضرر لها كلياً على الصحة الفردية والعامة، ثم بدأ العلماء في التعمق في هذا المنتج الجديد وأكدوا في الخمسينيات من القرن المنصرم أنها تسبب السرطان وأكثر من 12 نوعاً من السرطان، فبدأ الناس برفع دعاوى ضد شركات التبغ التي أنكرت في البداية أن التدخين يعرض الإنسان لأية مخاطر صحية ثم بعد أن حصحص الحق وأجمعت الأبحاث على أضرارها اضطرت شركات التبغ إلى الاعتراف والانصياع للحق المبين وتعويض المتضررين.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق