الأحد، 31 ديسمبر 2017

احْذَر فتلوث الهواء ينخر في عِظامك!



من كان يتخيل بأن لتلوث الهواء علاقة حميمية بأحد أشد الأمراض بأساً وتنكيلاً بجسم الإنسان وهو هشاشة العظام، فلا أظن بأن أي طبيبٍ مختص كان يتصور بأن للملوثات التي نسمح لها بالولوج في هوائنا بمحض إرادتنا ستنخر في عظامنا وتصيبها بالشيخوخة والهرم المبكر والضعف المزمن.

ولكنني شخصياً لا أستغرب من أن يكون للتلوث دور في الإصابة بمثل هذه الأمراض، ففي كل يوم يكتشف العلماء إسهامات ودور الملوثات المهلك لأعضاء جسم الإنسان، وفي كل يوم يزيل الباحثون النقاب عن أسباب جديدة للوقوع في أمراضٍ تقليدية معروفة منذ عقود طويلة كالقلب والسكري والبدانة المفرطة، ويؤكدون بأن التلوث أصبح اليوم عاملاً فاعلاً وقوياً في الإصابة بهذه الأمراض.

فهشاشة العظام، بناءً على تقارير المؤسسة الدولية لهشاشة العظام يسبب أكثر من 8.9 مليون حالة كسر للعظام سنوياً، أي بمعدل حالة واحدة كل ثلاث ثوان سنوياً، كما أن هناك قرابة 75 مليون حالة للإصابة بهذا المرض، وفي الولايات المتحدة الأمريكية فقط هناك 2.1 مليون حالة لكسر العظام كل سنة مرتبطة بمرض الهشاشة، وتكلف نحو 20.3 بليون دولار سنوياً.

أما الأسباب التقليدية المعروفة للتعرض لهشاشة العظام فهي التغيرات الهرمونية عند الرجال والنساء، وممارسة العادات والسلوكيات السيئة كشرب الخمر والتدخين والإفراط في تناول المشروبات التي تحتوي على الكافيين، وعدم تناول المواد الغذائية التي تحتوي على الكالسيوم، إضافة إلى القصور في النشاط البدني والعضلي والعامل الوراثي المتعلق بإصابة أحد أفراد الأسرة بهذا المرض.

أما الآن فمع انتشار آلاف الملوثات في بيئتنا وارتفاع تركيزها في الهواء الجوي وتعرض الإنسان كل ثانية لأحجام كبيرة من هذه الملوثات، فقد أصبحت عاملاً هداماً لصحة الإنسان، وأوقعته في الكثير من الأمراض المستحدثة إضافة إلى الأمراض القديمة التي يعاني منها بني البشر لسنواتٍ طويلة، كهشاشة العظام.

فقد نُشرت دراسة في مجلة اللانست الطبية المرموقة في الأول من نوفمبر من العام الجاري تحت عنوان:"العلاقة بين التلوث بالجسيمات الدقيقة وضعف العظام مع الوقت، ومخاطر كسر العظام"، حيث حاولت الدراسة التي شملت تسعة ملايين إنسان سبر غور العلاقة بين التعرض للدخان أو الجسيمات الدقيقة وتأثيرها على كثافة العظام والإصابة بمرض هشاشة العظام. فقد أشار البحث إلى أن التعرض للدخان لفترات طويلة ولو بنسبٍ منخفضة، أو السكن في مناطق يرتفع فيها تركيز هذا النوع من الملوثات، فإن هذه الحالة ستزيد من احتمال الإصابة بحالات الكسور نتيجة لضعف كثافة العظام وسهولة كسرها، وهذا يعني أنكَ إذا كنت تعيش في منطقة ملوثة لسنوات طويلة، كالمناطق المزدحمة بالسيارات، فإنك مُعرض أكثر من غيرك للإصابة بهشاشة العظام، وستكون أكثر عرضة وقابلية لسهولة كسر عظمك.

وهكذا في كل يوم يكتشف العلماء ما لا تتوقع، ولا يخطر على بالك من الآثار السلبية الضارة للملوثات التي تتعرض لها رغماً عن أنفك في كل ثانية من حياتك!



السبت، 30 ديسمبر 2017

أيهما أخطر السجائر الإلكترونية أم السجائر التقليدية؟


بينما كُنتُ أقود سيارتي ذات يوم في أحد الشوارع، توقفتُ خلف سيارةٍ أخرى في وسط الزحمة الشديدة الخانقة عند الإشارة الحمراء، وأثناء انتظاري لتغير الإشارة الضوئية شاهدت أدخنة كثيفة بيضاء اللون تنبعث من السيارة التي أمامي، ولأول وهلة ظننت إنها أدخنة حريق مشتعل داخل السيارة، فهَمَمت أن أخرج من سيارتي للتحقق من مصدر هذه الأدخنة ومد يد العون والمساعدة، فإذا بي فجأة لا أشاهد هذه الأدخنة فقد اختفت كلياً وتوقف خروجها من السيارة، وكأن الحريق قد انطفأ بنفسه. وعندئذٍ تيقنتُ بأنها ليست حريقاً داخل السيارة، وإنما هي الأدخنة التي تنطلق عند تدخين السجائر الإلكترونية الحديثة، فهي التي تُكون هذه السُحب الكثيفة والأدخنة البيضاء.

 

فهناك في الواقع نوعان رئيسان من السجائر في الأسواق حالياً، وهما سجائر التبغ التقليدية المعروفة منذ أكثر من قرنٍ من الزمان، والسجائر الإلكترونية التي دخلت علينا مؤخراً منذ نحو عقدٍ فقط من الزمن، ولذلك هناك الآن الكثير من الأسئلة وعلامات الاستفهام التي تدور حولها، وبخاصة من ناحية تأثيرها على البيئة والصحة العامة وصحة الفرد المدخن.

 

أما سجائر التبغ فآلية عملها تتلخص في احتراق التبغ الموجود في السجائر، وعملية الاحتراق هذه ينبعث منها خليط معقد وخطير من الملوثات التي تهدد الأمن الصحي للمدخن ولكل من يجلس حوله، حيث أجمعت الأبحاث والدراسات المنشورة خلال السبعين عاماً الماضية بأن دخان السجائر يحتوي على أكثر من 4000 مادة كيميائية سامة منها أكثر من مائتي مادة تسبب السرطان للإنسان، كما أجمعت هذه الدراسات بأن دخان السجائر يوقع المدخن في 12 نوعاً من أنواع مرض السرطان، على رأسها سرطان الرئة والفم والحنجرة، إضافة إلى الكثير من الأمراض التي تضرب الجهاز التنفسي والقلب. وعلاوة على ذلك كله فقد اعترفت شركات التبغ العملاقة التي تنتج هذه السجائر وأعلنت رسمياً في نوفمبر من عام 2016 في جميع وسائل الإعلام الأمريكية بأن السجائر التي تُنتجها سامة وقاتلة وتسبب السرطان. وبناءً على هذه الحقائق فإن ملف وقضية الأضرار القاتلة والتهديدات المميتة التي تسببها سجائر التبغ قد أغلقت وإنتهينا منها كلياً.

 

وأما النوع الإبداعي الشيطاني الجديد للسجائر الذي بدأ يكتسح الأسواق فهو السجائر الإلكترونية التي تتكون أساساً من النيكوتين النقي الصافي الذائب في مخلوط سائل يتكون من أكثر من 7000 نوع من المضافات والنكهات والروائح التي لا تعد ولا تحصى ولا تخطر على بال أحد، حسب البحث المنشور في مجلة علوم وتقنية البيئة في الأول من يونيو 2016، ومعظم هذه المضافات لا يعلم عن مكوناتها أحد، ولم يتم الكشف عن هويتها حتى الآن.

 

فآلية عمل هذا النوع من السجائر تختلف عن السجائر التقليدية، حيث يتم تحويل مخلوط السائل الموجود في السجائر الإلكترونية من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية أو البخار، باستخدام الحرارة وتسخين مخلوط السائل عن طريق بطارية خاصة. وهذا البخار ينبعث كغمامة بيضاء كثيفة تُدركه الأبصار، وتحتوي على ملوثات خطرة وبعضها ملوثات مسرطنة يتعرض لها المدخن وكل من يجلس حوله.

 

فإدعاءات شركات التبغ حول هذا النوع من السجائر تتمحور حول نقطتين. الأولى بأن هذا النوع من السجائر يساعد مُدخن سجائر التبغ المعروفة مع الوقت إلى العزوف عن التدخين كلياً، والثانية فإنهم يزعمون بأن هذا النوع من السجائر غير ضار، أو في الأقل فإنه أقل ضرراً من أختها.

 

أما بالنسبة للنقطة الأولى فإن المعلومات العلمية الموثقة المنشورة في المجلات الطبية لا تفيد بأن تعاطي سجائر التبغ يؤدي إلى العزوف عن التدخين، وأما بالنسبة للثانية فإن الدراسات المنشورة حتى الآن حول الملوثات المنبعثة عن تدخين السجائر الإلكترونية أكدت على عدة حقائق منها ما يلي:

أولاً: مدخن السجائر الإلكترونية يتعرض للنيكوتين الصافي النقي، ومادة النيكوتين من المعروف قديماً وطبياً بأنها سامة وتسبب الإدمان.

ثانياً: الدخان الأبيض المتصاعد عند تسخين المخلوط السائل وتحويله من سائل إلى غاز، يحتوي على خليطٍ معقد من الملوثات السامة والخطرة، فهناك الكثير من الأبحاث التي قامت بتحليل هذه السحب البيضاء، منها البحث المنشور في مجلة علوم وتقنية البيئة في الثاني من أغسطس عام 2017، والبحث الثاني المنشور في المجلة نفسها في 17 أغسطس. فهذه الأبحاث أكدت على وجود ملوثات تسبب السرطان للإنسان في الدخان الأبيض مثل الفورمالدهيد والبنزين والدخان أو الجسيمات الدقيقة، إضافة إلى المئات من الملوثات العضوية وغير العضوية المهددة للأمن الصحي للإنسان.

ثالثاً: هناك شح كبير في المعلومات المتعلقة بهوية أكثر من 7000 مادة تستخدم في صناعة السجائر الإلكترونية، ولا شك بأن الكثير من هذه المضافات تضر بصحة الإنسان.

 
وخلاصة القول فإن سجائر التبغ القديمة أشد فتكاً وأقسى تنكيلاً بصحة الإنسان من السجائر الإلكترونية، ولكن كلاهما شر، وكلاهما يدمر صحة المدخن ومن حوله، ولذلك أتمنى من الجهات المختصة أن تتعامل مع السجائر الإلكترونية كما تتعامل مع سجائر التبغ، كما أتمنى منع كل أنواع السجائر والتدخين في البحرين، وأسأل الله أن يكون قريباً.

الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

حاول أن تنام والأضواء مفتوحة


لكي تُدرك حجم الضرر الجسدي الذي نُسببه نحن جميعاً بني البشر لأنفسنا أولاً ثم للكائنات الفطرية الحية التي تعيش معنا فتنشط أثناء الليل في الظلام الدامس ونحن نِيام بسبب الأنوار الساطعة ليلاً والأضواء المتوهجة التي تُقلِّب الليل نهاراً، علينا أن نُجري على أنفسنا هذه التجربة البسيطة عدة أيام متتالية، وهي أن تحاول أن تنام ليلاً والمصابيح مفتوحة، والأنوار ساطعة أمام عينيك.

 

لا شك بأن المعاناة الجسدية الآنية ستكون كبيرة، والضغوط النفسية ستكون عصيبة، وهذا ما سنشعر به جميعاً إذا أجرينا هذه التجربة على أنفسنا، ولكن ما لا ندركه، ولا يخطر على بالنا قط، ولم يتوقعه أحد هو التأثيرات طويلة الأمد على أمننا الصحي عندما نتعرض لسنوات ولساعات طويلة لهذه الأنوار الصناعية غير الطبيعية طوال فترات الليل، فتُعرضنا مع الوقت للإصابة بالأمراض المستعصية، وبالتحديد السقوط في شباك مرض السرطان!

 

فقضية الأنوار المضيئة الساطعة طوال الليل في معظم مدن العالم والتي تُعرف بيئياً بالتلوث الضوئي، تحولت الآن إلى قضية تمس الأمن الصحي للإنسان، ولذلك في السنوات الأخيرة توجهت أنظار العلماء والباحثين إلى التعرف عن كثب على هذه الظاهرة العصرية، وطرحوا السؤال التالي: هل هناك علاقة بين هذه الأضواء وتعرض الإنسان لها طوال الليل والصحة العامة على المدى البعيد؟

 

وهناك الكثير من الدراسات التي حاولت الإجابة عن هذا السؤال، ومن أكثر الأبحاث ثقة ومصداقية وشمولاً تلك التي قام بها باحثون من كلية الطب بجامعة هارفرد العريقة، ونُشرت نتائجها في المجلة العلمية الأمريكية "شؤون صحة البيئة" في العدد الصادر في 17 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:"الأضواء الخارجية أثناء الليل وسرطان الثدي".وقد شملت هذه الدراسة مراقبة ومتابعة الحالة الصحية لـ 109,672  امرأة لمدة 22 عاماً في الفترة من 1989 إلى 2013  في الولايات المتحدة الأمريكية، ودرست العلاقة بين شدة الضوء والنور في البيئة الخارجية في مناطق سكن كل امرأة منهن والفترة الزمنية لتعرضهن لهذه الأنوار الليلية طوال فترة الدراسة،ومخاطر الإصابة بسرطان الثدي، حيث أفادت بأن النساء اللاتي يعشن في مناطق شديدة الأنوار والأضواء ليلاً، وبخاصة اللاتي يعملن في نوبات الدوام المسائي والليلي كالممرضات، فإنهن يتعرضن أكثر من غيرهن من النساء الأخريات اللواتي لا يعملن ليلاً لمخاطر الإصابة بسرطان الثدي، وبنسبة أعلى تُقدر بنحو 14%.

 

أما التفسير العلمي المبسط لهذه الظاهرة فيُشير إلى أن التعرض للأنوار الليلية غير الطبيعية يخفض من إفراز هرمون الملاتونين(melatonin) الذي يفرزه الجسم أثناء الليل،فيُضبط ويتحكم في الساعة البيولوجية للإنسان المرتبطة بالنوم والاستيقاظ، وهذا الانخفاض في إفراز هذا الهرمون المتخصص للعمل ليلاً يؤدي مع الوقت إلى حدوث اضطرابٍ وخللٍ في وظيفته وعمله، والنتيجة النهائية هي ارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان الثدي. واستناداً إلى نتائج هذه الدراسة والأبحاث الأخرى، فقد صنَّفت الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية العمل في "فترة المساء للسيدات" أنه من "المحتمل أن يصيب المرأة بالسرطان"، وأنه يزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي.

 

وبالرغم من صُدور هذه الدراسات الطبية التي تؤكد على التهديدات الصحية للبشرية الناجمة عن الأنوار الليلية الصناعية المرتفعة والمتزايدة يومياً، سواء في داخل المنزل أو في الخارج، إلا أن ظاهرة شدة الأضواء في المدن وعلى كوكبنا بشكلٍ عام قد تفاقمت واتسعت مساحتها ودائرة تأثيرها، حسب الدراسة المنشورة في مجلة التطورات العلمية(Science Advances ) في العدد الصادر في 22 نوفمبر من العام الجاري، حيث قامت باستخدام الأقمار الصناعية لقياس مستوى الإنارة للكرة الأرضية أثناء الليل وأكدت على أنه في الفترة من 2012 إلى 2016 زادت الإضاءة الليلية غير الطبيعية لكوكبنا بنسبة 2.2% سنوياً، كما أفادت الدراسة إلى أن المساحة المنيرة والمضيئة للأرض تزيد سنوياً بنسبة 1.8%.

 

وعلاوة على هذه المخاطر والأضرار الفادحة التي تسببها الأضواء المفرطة الشديدة المستمرة طوال الليل في بيئتنا الداخلية والخارجية على الصحة العامة، فإن هناك كائنات حية فطرية نباتية وحيوانية تعيش معنا وبين أظهرنا ولا يمكن لحياتنا أن تستمر بدونها، فهي جزء رئيس من النظام البيئي الكوني الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بكل دقة وإتقان واتزان وتكامل وهي المؤشر الحيوي الذي يؤكد لنا سلامة صحة الأرض، وهذه الكائنات اليوم تعاني وتذوق العذاب الشديد نتيجة لهذه التغيرات الجذرية العميقة التي حولت ليلها نهاراً، ومساءها صباحاً، فاختلط عليها الأمر، فلا تستطيع أن تعمل ليلاً ولا أن تنام نهاراً، وفي نهاية المطاف فهي لا تستطيع أن تؤدي دورها ضمن سلسلة الحياة، ولا تتمكن من القيام بوظيفتها التي خُلقت من أجلها خدمة للإنسانية جمعاء.

 

فإذا كُنا لا نبالي بهذه الكائنات الفطرية الحية، ولا نُعير لها أي اهتمام أو حماية ورعاية، فعل الأقل علينا أن نحمي صحتنا من شرور هذا التلوث الضوئي، ونقي أنفسنا من تداعياته القاتلة.

الاثنين، 18 ديسمبر 2017

بعد 66 عاماً والحال هو الحال


الكثير من الناس لا يعرفون بأن هناك عشرات الآلاف من الناس الذين سقطوا صرعى ضحايا لتلوث الهواء، ولقوا نحبهم فوراً نتيجة لاستنشاق هواءٍ مُشبع بخليطٍ معقد من الملوثات في العاصمة البريطانية لندن في أيام الأعياد والأفراح في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952، فتحولت أيام الأفراح والبهجة والسرور والأعياد هذه إلى أيام مآتم وأحزان وفواجع مؤلمة عمَّت البلاد كلها. ولم يكن هذا الكرب الصحي والبيئي الذي نزل على لندن هو الوحيد أو الأول من نوعه في بلد الضباب، ولكنه كان الأشد بأساً والأقسى تنكيلاً بالمجتمع اللندني، والأكثر تأثيراً عليهم جميعاً، فقد كان بمثابة المنعطف التاريخي البيئي في بريطانيا، حيث تعمق الاهتمام بقضية تلوث الهواء، وسُنت قوانين وطنية لحماية المواطنين من الأضرار المدمرة والمهلكة لتلوث الهواء على الحرث والنسل، وعلى رأسها قانون الهواء النظيف لعام 1956.

 

وبالرغم من هذه الأيام العصيبة والمشاهد المبكية التي تركت بصماتها عميقة ومتجذرة في جسد البلاد والعباد ونُقشت أحداثها بدم اللندنيين في كتب التاريخ البيئي المعاصر، فهذه الأيام مازالت حية في ذاكرة الشيوخ وكبار السن وحاضرة بقوة في وسائل الإعلام وفي أبحاث العلماء، إلا أن الوضع لم يتغير كثيراً، فالحال هو الحال كما هو عليه منذ أكثر من ستة عقودٍ من الزمان.

 

ولكي أُثبت لكم أن الوضع الميداني الآن لم يتغير عمَّا كان عليه في الخمسينيات من القرن المنصرم، بل وربما ازداد سوءاً وأشد تدهوراً، أُقدم لكم بعض الإحصاءات والتقارير الحكومية الرسمية حول تدهور الهواء الجوي في لندن وتداعيات فساد الهواء الجوي على صحة اللندنيين خاصة والبريطانيين عامة.

 

ففي لندن مستوى تركيز بعض الملوثات يُضْرَب به المثل في سائر أنحاء العالم، فتركيز الدخان أو الجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين لسنواتٍ طويلة فاق كثيراً المعايير والمواصفات الأوروبية الخاصة بجودة الهواء وتوجيهات وإرشادات منظمة الصحة العالمية حول نوعية الهواء في المدن، مما اضطر الاتحاد الأوروبي مؤخراً إلى فرض غراماتٍ مالية ضخمة على بريطانيا لعدم التزام لندن بالمواصفات الأوروبية حول نوعية الهواء، كما قامت جمعيات أهلية بريطانية ومنظمات حقوقية برفع دعاوى قضائية ضد حكومتها لعدم القيام بواجباتها تجاه تحسين نوعية الهواء الجوي التي يتعرض لها المواطن كل ثانية من حياته، وفشل الحكومات المتعاقبة منذ عقود في توفير الهواء الصحي السليم الذي هو حق رئيس من حقوق المواطن الأساسية والضرورية للعيش بكرامة وبصحةٍ وعافية، علماً بأن هذه الجمعيات ربحت جميع الدعاوى القضائية وأمرت المحاكم المختصة السلطة التنفيذية على اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لتحسين نوعية الهواء ووضع خطة مستقبلية لخفض نسبة الملوثات في الهواء الجوي، مما أدخل الحكومة البريطانية في مأزقٍ شديد، وحرجٍ عصيب، وضغطٍ كبير من الاتحاد الأوروبي من جهة ومن المواطنين من جهةٍ أخرى.

 

وهذا التدهور لنوعية الهواء انعكس مباشرة على الصحة العامة، حيث أكدت التقارير الحكومية الرسمية بأن الذي يُنقلون سنوياً إلى مثواهم الأخير في سنٍ مبكرة بسبب تلوث الهواء بلغ 9000 إنسان في لندن وحدها، وقرابة40 ألف على مستوى بريطانيا برمتها. وقد نٌشرت دراسة مخيفة تؤكد هذه الحقيقة وواقعيتها على الأرض، حيث أثبتت بأن تلوث الهواء يؤثر على الجنين وهو في رحم أمه، فيؤدي إلى انخفاض وزن الجنين بعد الولادة، أو وقوع الولادة المبكرة، مما يشكل خطورة على صحة الجنين وتهديداً طويل المدى على سلامته بعد الولادة من ناحية نمو الأعضاء كالرئة والمخ، إضافة إلى سلامة الأجيال اللاحقة. فهذه الدراسة الشاملة غطت عينة واسعة من الأطفال المولودين حديثاً في لندن بلغت 540 ألف في الفترة من 2006 إلى 2010 وراقبت العلاقة بين تعرض الأمهات لتلوث الهواء والوزن المنخفض غير الطبيعي للأطفال وهو أقل من 2.5 كيلوجرام، فقد استنتج الباحثون أنه كلما تعرضت الأم الحامل لملوثات أكثر ولفترة زمنية أطول، وبالتحديد الدخان والجسيمات الدقيقة المنبعثة بشكلٍ رئيس من سيارات الديزل، ارتفعت وزادت مخاطر ولادة الأطفال منخفضي الوزن، وبالتالي زادت المخاطر الصحية التي سيعاني منها هذا الجيل من الأطفال والأجيال اللاحقة.

 

فهذا الوضع المزمن والمتأزم للهواء منذ أكثر من 66 عاماً، اضطر عمدة لندن في الأول من ديسمبر من العام الحالي إلى وضع 2500 لوحة إعلانية تحذيرية حول جودة الهواء في كل ساعة من اليوم في المناطق العامة، مثل مواقف الحافلات، ومحطات القطارات، ومحطات القطارات تحت الأرض في المنطقة، فإذا كانت نسبة الملوثات مرتفعة فإن اللوحات تنبه اللندنيين، وبخاصة الأطفال وكبار السن إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر عند الخروج إلى الشارع لأنهم سيشمون هواءً ملوثاً وقاتلاً.


والآن بعد هذا التحليل لنوعية الهواء في لندن، ألا تتفقون معي بأن الحال هو الحال منذ أكثر من ستة عقود، بل ألا تتفقون معي بأن الوضع البيئي والصحي ازدادا تدهوراً وسوءاً؟


في الحقيقة فإنني أعاني من قلقٍ عميق ويأسٍ شديد لأننا أطلقنا سراح الملوثات دون أية رقابة، فسمحنا لها بأيدينا بالدخول في الهواء الجوي لسنواتٍ طويلة من مصادر لا تعد ولا تحصى، وتركنا هذا الغول القاتل ينمو ويكبر أمام أعيننا في كل يوم، حتى إننا قد فقدنا الآن فعلياً السيطرة عليه، والتحكم فيه، والتصدي له، ولا أدري ماذا سيكون مصيرنا؟


 

الأحد، 10 ديسمبر 2017

الكلفة المالية لإدمان أمريكا على المخدرات حسب البيت الأبيض


إدمان الشعب الأمريكي على المخدرات، وبخاصة الأفيون لم يَعُد خافياً على أحد حول العالم، ولم يعد بعد الآن قضية هامشية يمكن تجاهلها أو غض الطرف عنها من قبل الولايات المتحدة الأمريكية على أعلى المستويات السياسية والصحية والاقتصادية.

 

أما على المستوى الصحي فقد أنذرت الهيئة الرئاسية العليا التي شكلها الرئيس الأمريكي ترمب حول "مكافحة الإدمان على المخدرات وأزمة الأفيون"في تقريرها المنشور في 31 يوليو من العام الجاري ونبهت إلى حقيقةٍ بسيطة جداً قائلة: "إن هذا الوباء إذا لم يُصبك أنت، أو أحد أفراد عائلتك حتى الآن، فإنه سينزل عليك عاجلاً حتماً وتُصاب به، إذا لم تتخذ الحكومة الإجراءات الصارمة لمكافحته"، وهذا التصريح الواضح الذي لا لبس فيه يؤكد حجم انتشار الآفة الصحية في المجتمع الأمريكي برمته، ويُثبت استفحال إدمان الشعب على تعاطي المخدرات.

 

وأما على المستوى السياسي ومن أرفع سلطة سياسية في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلن الرئيس الأمريكي ترمب في 26 أكتوبر من العام الجاري في البيت الأبيض أعلى درجات التأهب والحذر وهي "حالة الطوارئ الصحية" على المستوى القومي بسبب الوضع العصيب والكرب العظيم الذي ينخر في جسد الشعب الأمريكي ويعاني منه الجميع من شباب وشيوخ في إدمانهم على المخدرات عامة والأفيون خاصة، حيث وصف ترمب هذه الحالة الكارثية قائلاً بأنها "أسوأ أزمة مخدرات في تاريخ أمريكا"، كما أضاف "إنها حالة طوارئ قومية، وسنصرف الكثير من الوقت، والكثير من الجهد، والكثير من المال على أزمة الأفيون".

 

وهذا الوباء الصحي المتجذر في عمق المجتمع الأمريكي له تداعيات اقتصادية ضخمة وواسعة تُرهق كاهل أمريكا مالياً وتسبب شللاً في ميزانيتها العامة على المستوى القومي وعلى مستوى الولايات على جدٍ سواء. فقد أعلن البيت الأبيض في 20 نوفمبر من العام الجاري بأن الكُلفة الحقيقية الفعلية في عام 2015 لوباء المخدرات عامة والأفيون خاصة بلغت 504 بلايين دولار، كما أكد مجلس المستشارين الاقتصاديين التابع للبيت الأبيض أن هذا الإرهاق المالي الباهظ الذي يتكبده المجتمع الأمريكي في ازدياد مطرد مع الوقت نتيجة لتفاقم الأزمة وازديادها سوءاً وتوسع دائرة انتشارها في كافة الشرائح والفئات وكافة الأعمار، ولذلك لا بد من مكافحة جدية لهذا الوباء ومعالجة صارمة وجذرية لكل مصادره ومسبباته. فوباء المخدرات أعتبره قنبلة تدمير شامل للاقتصاد الأمريكي، حسب دراسة أجرتها جامعة برينستن المعروفة ونُشرت نتائجها في التاسع من يوليو من العام الجاري في وسائل الإعلام الأمريكية، حيث أكدت على تأثيره المزمن على الاقتصاد الأمريكي من ناحية مرض وغياب وموت العمال المدمنين على المخدرات وضعف الإنتاجية، وقدَّرت الدراسة الخسائر الاقتصادية الناجمة عن ضعف الإنتاجية بنحو عشرة بلايين دولار سنوياً، كما خصص الكونجرس في عام 2016 في عهد أوباما مليار دولار لمنع وعلاج الإدمان حسب قانون "علاجات القرن الحادي والعشرين".

 

فالإحصاءات المنشورة من "مراكز التحكم ومنع المرض" في الولايات المتحدة الأمريكية تفيد بموت 145أمريكياً يومياً بسبب تعاطي المخدرات والجرعات الزائدة، ففي عام 2015 أكدت التقارير بأن عدد الموتى بسبب المخدرات فاق بكثير عدد الموتى من حوادث السيارات والإيدز معاً، ووصل إلى أكثر من 52 ألف، وفي عام 2016 بلغ عدد الذي لقوا مصرعهم ونقلوا إلى مثواهم الأخير نتيجة لتعاطي المخدرات 64 ألف أمريكي، وهذه الأرقام المخيفة في تزايد مطرد وبمستويات عالية جداً، والأدهى من ذلك كله والأشد بأساً وتنكيلاً على المدى البعيد بالمجتمع الأمريكي هو أنه في كل 25 دقيقة تضع المرأة الأمريكية مولوداً مدمناً على المخدرات، مما يعني نشوء أجيالٍ متلاحقة من المواطنين الأمريكيين وهم يقعون تحت وطأة الإدمان منذ صغرهم!. كما قال القائم بأعمال وزارة الصحة والخدمات الإنسانية لصحيفة الواشنطن تايمس في الرابع من ديسمبر من العام الجاري أن الموت بسبب الجرعة الزائدة من الأفيون ما هو إلا "حافة جبل الجليد" أي بعبارة أخرى ما خفي أعظم بالنسبة لوباء المخدرات، فتبعات موت مدمن المخدرات عظيمة على الأسرة والمجتمع واقتصاد أمريكا.

 

فهذا الوباء المهدد لأمريكا صحياً واقتصادياً واجتماعياً يجب أن يكون لنا درساً واقعياً نراه أمامنا، ومختبراً حياً نشاهد نتائجه أمام أعيننا، لعلنا نتعظ ونتعلم ونستفيد من هذه الخبرة القاسية والوضع المأساوي المؤلم، فلا نقع في الأخطاء نفسها التي وقع فيها المجتمع الأمريكي.

 

الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

الماءُ الـمَّهِينْ يحْتَضر!


منذ سنوات والدراسات والأبحاث الميدانية لا تتوقف عن سبر غور ظاهرة حديثة خطيرة بدأت تنكشف بوضوح في العقود الماضية، ولها علاقة مباشرة وقوية باستدامة حياة الإنسان واستمرارية عطائه وبقائه على وجه الأرض، وهذه الظاهرة تتمثل في التدهور النوعي والكمي للحيوانات المنوية، التي وصفها القرآن الكريم في عدة آيات كريمات بالماء المهين، منها قوله سبحانه وتعالى: "ثم جَعَلَ نَسْلَهُ من سُلالةٍ من ماء مهين". 

 

فآخر دراسة نُشرت للتحقق من واقعية هذه الظاهرة ودرجة انتشارها واستفحالها بين بني آدم في كل دول العالم هي المنشورة في مجلة "علوم وتقنيات البيئة" في العدد الصادر في نوفمبر من العام الجاري حول نوعية وحجم الحيوانات المنوية للمواطنين الصينيين تحت عنوان: "العلاقة العكسية بين التعرض لثاني أكسيد الكبريت في الهواء الجوي ونوعية الحيوانات المنوية في مدينة وهان بالصين". فقد أخذ الباحثون 2184 عينة من الحيوانات المنوية في الصين، وقاموا بتحليلها مخبرياً من ناحية معرفة صحتها وأعدادها وعلاقة هذه النتائج بالتعرض للملوثات الموجودة في الهواء الجوي في مدن الصين وفي كل مدن العالم بدون استثناء، مثل غاز ثاني أكسيد الكبريت، والأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، حيث أكدت الدراسة على وجود علاقة عكسية وقوية بين صحة الحيوانات المنوية من الناحيتين الكمية والنوعية وبين التعرض لثاني أكسيد الكبريت بشكلٍ خاص.

 

فهذه النتيجة التي توصلت إليها الدراسة تعني وتؤكد على أنه كلما زاد تعرض الإنسان لهذا الغاز كلما انخفضت أعداد الحيوانات المنوية وتدهورت صحتها. والأمر المفزع والمحير في نتائج هذه الدراسة، أن غاز ثاني أكسيد الكبريت، المتهم الرئيس في خفض وتدمير صحة الحيوانات المنوية، موجود في هواء كل مدن وقرى الأرض، فهذا الغاز ينبعث عند احتراق الجازولين أو الديزل في مئات الملايين من السيارات التي تمشي على سطح الأرض، وينطلق هذا الغاز السام عند تكرير وتصفية الغاز الطبيعي والنفط الخام في كل مصانع الدُنيا، كما يخرج من مداخن السفن والناقلات البحرية التي تمخر عُباب البحر في جميع أنهار وبحار وبحيرات ومحيطات العالم، أي أن هذا الغاز الذي يهدد حياة البشر ببطء، وقد يؤدي إلى انقراض الجنس البشري، نراه أمامنا أينما نذهب، ونتعرض له ونستنشقه مُضطرين أينما كُنا، وسيلاحقنا ولو كُنا في بروجٍ مشيدة.

 

كما نُشرت دراسة مخيفة قبل هذه الدراسة الحالية، وبالتحديد في 26 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: "الأنماط الزمانية لأعداد الحيوانات المنوية" في مجلة مُستجدات تناسل الإنسان(Human Reproduction Update ومن المفروض أن هذه الدراسة وحدها تدق ناقوس الخطر وتنذر بفناء الإنسان من على وجه الأرض رويداً رويداً، فتؤكد نتائجها على أن أعداد الحيوانات المنوية في الدول الصناعية المتقدمة والغنية الغربية والشرقية في انخفاضٍ تدريجي مستمر خلال الفترة من 1973 إلى 2011، فقد بلغ نسبة عالية جداً قُدرت بنحو 60%، وهذه النسبة تزيد سنوياً بمعدل 1.4%، أي أنها مع الوقت وإذا لم يواجه الإنسان الغربي هذه الحالة العصيبة فستؤدي به إلى الهلاك والانقراض.

 

 وهذا الاستنتاج العصيب الذي تمخض عن هذه الدراسة، جلب انتباه وسائل الإعلام الغربية إلى هذه الدراسة بالتحديد، وإلى قضية النقص الحاد المستمر للحيوانات المنوية في مختلف دول العالم، وبخاصة في الدول الثرية والمتقدمة، حيث نَشرتْ مجلة النيوزويك الأمريكية تحقيقاً شاملاً ومطولاً في 12 سبتمبر من العام الجاري تحت عنوان:" أزمة عُقم الرجال في الولايات المتحدة الأمريكية".

 

وفي الحقيقة فإن هناك عدة أسباب تؤدي إلى تدهور الماء المهين الذي هو  أساس خَلْق الإنسان وضمان بقائه، وأستطيع هنا أن أضع هذه الأسباب في قائمتين رئيستين، الأولى هي قائمة الأسباب التقليدية التي أجمع عليها العلماء منذ عقودٍ طويلة، وتتلخص في وجود خللٍ في التوازن الهرموني، أو الإصابة بحالات صحية محددة نفسية أو عضوية، أو زيادة العمر، أو البدانة المفرطة، أو قلة النشاط الرياضي والعضلي، أو شرب الخمر والتدخين وتعاطي المخدرات. أما القائمة الثانية، فهي القائمة الحديثة التي يكشف العلماء النقاب عنها يوماً بعد يوم، وتتمثل في تعرض الإنسان لآلاف الملوثات والمواد الكيميائية السامة والخطرة من مصادرها التي لا تُعد ولا تحصى في الجو، والبر، والبحر، إضافة إلى المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها في كل يوم ولا يمكننا الاستغناء عنها وتحتوي على ملوثات تضر بالأمن الصحي للإنسان، وبخاصة تأثيراتها السلبية على خصوبة الرجل على المدى البعيد.

 

فالتحدي الذي يواجهه بني البشر الآن هو كيفية التعامل مع القائمة الثانية لمصادر التلوث التي تغلغلت بعمق في مجتمعنا والتي مازالت غامضة ولا نعرف الكثير عن أسرارها وتنكشف خطورتها المهلكة للإنسان يوماً بعد يوم. 

 

السبت، 2 ديسمبر 2017

شركات التدخين تنخر جسدها بيدها!


هذه الأيام ستشاهد أمراً عجباً لم يخطر على بالك، ستشاهد في وسائل الإعلام الأمريكية ووسائل الاتصال الاجتماعية دعايات إعلانية ضد السجائر وضد التدخين عامة، وستُصور لك هذه الدعايات المدفوعة الثمن بأن التدخين آفة ووباء انتشر في المجتمع الأمريكية برمته، وأنه يأكل جسد شبابها وشيوخها على حدٍ سواء، وستؤكد لك هذه اللوحات الإعلانية قائمة الأمراض الفتاكة والمستعصية على العلاج التي ستنجم عن السجائر والتدخين، سواء للمدخن نفسه أو الجالسين حوله وبالقرب منه.

 

ولكن ما العجب في هذا الأمر؟ فقد رأينا وشاهدنا منذ عقود إعلانات ضد التدخين! فالحكومات والجمعيات المدنية العامة والمتخصصة دأبت منذ سنوات على بيان خطورة السجائر والتهديدات البيئية والصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تنجم عنها.

 

ولكن الغريب هذه المرة والعجيب أن هذه الدعايات تصدر من شركات التبغ والسجائر نفسها ومن مالها، أي أن هذه الشركات الأمريكية العملاقة تحارب نفسها بنفسها وبيديها بضاعتها التي صنعتها بنفسها، وسهرت الليالي الطوال على إنتاجها، وعملت بكل جدٍ وتعب على تسويقها وبيعها بشكلٍ واسعٍ وممنهج في كل أنحاء العالم منذ مطلع القرن التاسع عشر!

 

فماذا حدث بالفعل لهذه الشركات لكي تقوم بهذا العمل غير المنطقي؟ وهل تقوم به طواعية أم أنها مضطرة رغماً عن أنفها على ذلك؟

 

هذا الحدث الذي نشهده اليوم هو مشهد من مشاهد الحرب الضروس كحرب داحس والغبراء المستمرة منذ أكثر من ستين عاماً بين الشر والخير، بين الحق والباطل، بين وزارة العدل الأمريكية المُمَثِلة للشعب الأمريكي وبين شركات التبغ والسجائر الأمريكية، حيث رفعت الوزارة قضية ضد 11 شركة للتبغ والسجائر في 22 سبتمبر 1999 في العاصمة واشنطن وتحت إشراف القاضية الاتحادية جلاديز كيسلر(Gladys Kessler)، واستمر التداول في هذه القضية التاريخية أمريكياً ودولياً أكثر من سبع سنوات، وبالتحديد إلى 17 أغسطس 2006، حيث أصدرت القاضية رأيها في وثيقة مكونة من 1683 صفحة أكدت فيها على أن شركات التبغ والسجائر ارتكبت جريمة التحايل والتآمر والكذب على الشعب الأمريكي لعقود طويلة حول مخاطر التدخين وتعريضه للأمريكيين للموت والقتل البطيء، حيث صرحت القاضية قائلة: "شركة فيليب موريس وشركات التبغ الأخرى سَوَّقت وباعت السجائر باستخدام أساليب الغش والتضليل من أجل تحقيق النجاح المالي دون أي اعتبار للكوارث الإنسانية والأعباء الاجتماعية الناجمة عن هذا النجاح الاقتصادي"، كما أمرت في الوقت نفسه أكبر أربع شركات أمريكية للتبغ والسجائر وأجبرتهم على نشر بيانات "تصحيحية" تعترف فيها بأنها كذبت وضللت الشعب الأمريكي حول أضرار التدخين، وبخاصة بالنسبة للسجائر الخفيفة منخفضة القطران. ولكن هذه الشركات الجشعة لجمع المال بالحلال والحرام لم تستسلم، ولم ترفع العلم الأبيض عندما خسرت هذه الجولة الأولى من المعركة، فأعدت العُدة من جديد، وجنَّدت محاميها ومستشاريها الأكثر دهاءً ومكراً لاستئناف الحكم، ولكنها أيضاً انهزمت في المعركة الثانية شر هزيمة عندما أصدر فريق من ثلاثة قضاة في 22 مايو 2009 رأياً مؤكدين فيه على صحة الحكم السابق.

 

واليوم وبعد نحو 11 عاماً من صُدور الحكم جاءت مرحلة التنفيذ، حيث قامت وسائل الإعلام الأمريكية القومية من المحطات التلفزيونية والصحف ومن أموال شركات التبغ نفسها، إضافة إلى وسائل الاتصال الاجتماعية بدءاً من 26 نوفمبر من العام الجاري بنشر هذه البيانات التصحيحية على شكل دعايات إعلامية، والتي ستصدر خمسة أيام كل يوم ولمدة عام كامل بحيث يكون هناك ضمان بأن كل مواطن أمريكي سيشاهد، أو يقرأ، أو يسمع عنما ارتكبتها أيدي هذه الشركات الأمريكية العملاقة طوال العقود الماضية.

 

ومن أمثلة هذه اللوحات الإعلانية التي تضطر شركات التبغ إلى نشرها ليلاً ونهاراً تحت اسمها وشعارها، ما يلي: "السجائر ستبقى على رأس قائمة أسباب موت الشعب الأمريكي وهو يمكن منعه، فهي تقتل 1200 أمريكي يومياً، أي أكثر من الإيدز والانتحار والمخدرات وحوادث السيارات والخمر معاً"، وفي إعلان آخر: "لا يوجد حَدٌ آمن للسجائر، فهي تسبب السرطان وأمراض الرئة والقلب والموت المبكر"، كما جاء في إعلانٍ ثالث: "شركات السجائر تعمَّدت إلى تصميم سجائر تحتوي على كمية مناسبة للنيكوتين لتسبب الإدمان".

 

ولكن هل هذه المعركة الأخيرة أنْهت الحرب بين وزارة العدل وشركات التبغ؟ أم ستبدأ معركة جديدة أخرى مع منتجات حديثة وإبداعية شيطانية تطرحها هذه الشركات في الأسواق؟

 

من خبرتي مع مثل هذه الشركات الكبرى، فإنها لا تيأس ولا يصيبها الإحباط والقنوط، فقد شَرَعت منذ بضع سنوات بتسويق منتجها الجديد، بنكهةٍ عصرية شبابية، وبنيةٍ خبيثة وهي أن هذا المنتج يؤدي إلى العزوف عن تدخين سجائر التبغ التقليدية، وهذا المنتج هو السجائر الإلكترونية، وفي القريب العاجل سيدخل علينا منتج جديد آخر هو "سجائر الحشيش أو الماريوانا"، فاستعدوا قريباً لمعارك جديدة بين الشر والخير.