الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

الماءُ الـمَّهِينْ يحْتَضر!


منذ سنوات والدراسات والأبحاث الميدانية لا تتوقف عن سبر غور ظاهرة حديثة خطيرة بدأت تنكشف بوضوح في العقود الماضية، ولها علاقة مباشرة وقوية باستدامة حياة الإنسان واستمرارية عطائه وبقائه على وجه الأرض، وهذه الظاهرة تتمثل في التدهور النوعي والكمي للحيوانات المنوية، التي وصفها القرآن الكريم في عدة آيات كريمات بالماء المهين، منها قوله سبحانه وتعالى: "ثم جَعَلَ نَسْلَهُ من سُلالةٍ من ماء مهين". 

 

فآخر دراسة نُشرت للتحقق من واقعية هذه الظاهرة ودرجة انتشارها واستفحالها بين بني آدم في كل دول العالم هي المنشورة في مجلة "علوم وتقنيات البيئة" في العدد الصادر في نوفمبر من العام الجاري حول نوعية وحجم الحيوانات المنوية للمواطنين الصينيين تحت عنوان: "العلاقة العكسية بين التعرض لثاني أكسيد الكبريت في الهواء الجوي ونوعية الحيوانات المنوية في مدينة وهان بالصين". فقد أخذ الباحثون 2184 عينة من الحيوانات المنوية في الصين، وقاموا بتحليلها مخبرياً من ناحية معرفة صحتها وأعدادها وعلاقة هذه النتائج بالتعرض للملوثات الموجودة في الهواء الجوي في مدن الصين وفي كل مدن العالم بدون استثناء، مثل غاز ثاني أكسيد الكبريت، والأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، حيث أكدت الدراسة على وجود علاقة عكسية وقوية بين صحة الحيوانات المنوية من الناحيتين الكمية والنوعية وبين التعرض لثاني أكسيد الكبريت بشكلٍ خاص.

 

فهذه النتيجة التي توصلت إليها الدراسة تعني وتؤكد على أنه كلما زاد تعرض الإنسان لهذا الغاز كلما انخفضت أعداد الحيوانات المنوية وتدهورت صحتها. والأمر المفزع والمحير في نتائج هذه الدراسة، أن غاز ثاني أكسيد الكبريت، المتهم الرئيس في خفض وتدمير صحة الحيوانات المنوية، موجود في هواء كل مدن وقرى الأرض، فهذا الغاز ينبعث عند احتراق الجازولين أو الديزل في مئات الملايين من السيارات التي تمشي على سطح الأرض، وينطلق هذا الغاز السام عند تكرير وتصفية الغاز الطبيعي والنفط الخام في كل مصانع الدُنيا، كما يخرج من مداخن السفن والناقلات البحرية التي تمخر عُباب البحر في جميع أنهار وبحار وبحيرات ومحيطات العالم، أي أن هذا الغاز الذي يهدد حياة البشر ببطء، وقد يؤدي إلى انقراض الجنس البشري، نراه أمامنا أينما نذهب، ونتعرض له ونستنشقه مُضطرين أينما كُنا، وسيلاحقنا ولو كُنا في بروجٍ مشيدة.

 

كما نُشرت دراسة مخيفة قبل هذه الدراسة الحالية، وبالتحديد في 26 يوليو من العام الجاري تحت عنوان: "الأنماط الزمانية لأعداد الحيوانات المنوية" في مجلة مُستجدات تناسل الإنسان(Human Reproduction Update ومن المفروض أن هذه الدراسة وحدها تدق ناقوس الخطر وتنذر بفناء الإنسان من على وجه الأرض رويداً رويداً، فتؤكد نتائجها على أن أعداد الحيوانات المنوية في الدول الصناعية المتقدمة والغنية الغربية والشرقية في انخفاضٍ تدريجي مستمر خلال الفترة من 1973 إلى 2011، فقد بلغ نسبة عالية جداً قُدرت بنحو 60%، وهذه النسبة تزيد سنوياً بمعدل 1.4%، أي أنها مع الوقت وإذا لم يواجه الإنسان الغربي هذه الحالة العصيبة فستؤدي به إلى الهلاك والانقراض.

 

 وهذا الاستنتاج العصيب الذي تمخض عن هذه الدراسة، جلب انتباه وسائل الإعلام الغربية إلى هذه الدراسة بالتحديد، وإلى قضية النقص الحاد المستمر للحيوانات المنوية في مختلف دول العالم، وبخاصة في الدول الثرية والمتقدمة، حيث نَشرتْ مجلة النيوزويك الأمريكية تحقيقاً شاملاً ومطولاً في 12 سبتمبر من العام الجاري تحت عنوان:" أزمة عُقم الرجال في الولايات المتحدة الأمريكية".

 

وفي الحقيقة فإن هناك عدة أسباب تؤدي إلى تدهور الماء المهين الذي هو  أساس خَلْق الإنسان وضمان بقائه، وأستطيع هنا أن أضع هذه الأسباب في قائمتين رئيستين، الأولى هي قائمة الأسباب التقليدية التي أجمع عليها العلماء منذ عقودٍ طويلة، وتتلخص في وجود خللٍ في التوازن الهرموني، أو الإصابة بحالات صحية محددة نفسية أو عضوية، أو زيادة العمر، أو البدانة المفرطة، أو قلة النشاط الرياضي والعضلي، أو شرب الخمر والتدخين وتعاطي المخدرات. أما القائمة الثانية، فهي القائمة الحديثة التي يكشف العلماء النقاب عنها يوماً بعد يوم، وتتمثل في تعرض الإنسان لآلاف الملوثات والمواد الكيميائية السامة والخطرة من مصادرها التي لا تُعد ولا تحصى في الجو، والبر، والبحر، إضافة إلى المنتجات الاستهلاكية التي نستخدمها في كل يوم ولا يمكننا الاستغناء عنها وتحتوي على ملوثات تضر بالأمن الصحي للإنسان، وبخاصة تأثيراتها السلبية على خصوبة الرجل على المدى البعيد.

 

فالتحدي الذي يواجهه بني البشر الآن هو كيفية التعامل مع القائمة الثانية لمصادر التلوث التي تغلغلت بعمق في مجتمعنا والتي مازالت غامضة ولا نعرف الكثير عن أسرارها وتنكشف خطورتها المهلكة للإنسان يوماً بعد يوم. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق