السبت، 2 ديسمبر 2017

شركات التدخين تنخر جسدها بيدها!


هذه الأيام ستشاهد أمراً عجباً لم يخطر على بالك، ستشاهد في وسائل الإعلام الأمريكية ووسائل الاتصال الاجتماعية دعايات إعلانية ضد السجائر وضد التدخين عامة، وستُصور لك هذه الدعايات المدفوعة الثمن بأن التدخين آفة ووباء انتشر في المجتمع الأمريكية برمته، وأنه يأكل جسد شبابها وشيوخها على حدٍ سواء، وستؤكد لك هذه اللوحات الإعلانية قائمة الأمراض الفتاكة والمستعصية على العلاج التي ستنجم عن السجائر والتدخين، سواء للمدخن نفسه أو الجالسين حوله وبالقرب منه.

 

ولكن ما العجب في هذا الأمر؟ فقد رأينا وشاهدنا منذ عقود إعلانات ضد التدخين! فالحكومات والجمعيات المدنية العامة والمتخصصة دأبت منذ سنوات على بيان خطورة السجائر والتهديدات البيئية والصحية والاجتماعية والاقتصادية التي تنجم عنها.

 

ولكن الغريب هذه المرة والعجيب أن هذه الدعايات تصدر من شركات التبغ والسجائر نفسها ومن مالها، أي أن هذه الشركات الأمريكية العملاقة تحارب نفسها بنفسها وبيديها بضاعتها التي صنعتها بنفسها، وسهرت الليالي الطوال على إنتاجها، وعملت بكل جدٍ وتعب على تسويقها وبيعها بشكلٍ واسعٍ وممنهج في كل أنحاء العالم منذ مطلع القرن التاسع عشر!

 

فماذا حدث بالفعل لهذه الشركات لكي تقوم بهذا العمل غير المنطقي؟ وهل تقوم به طواعية أم أنها مضطرة رغماً عن أنفها على ذلك؟

 

هذا الحدث الذي نشهده اليوم هو مشهد من مشاهد الحرب الضروس كحرب داحس والغبراء المستمرة منذ أكثر من ستين عاماً بين الشر والخير، بين الحق والباطل، بين وزارة العدل الأمريكية المُمَثِلة للشعب الأمريكي وبين شركات التبغ والسجائر الأمريكية، حيث رفعت الوزارة قضية ضد 11 شركة للتبغ والسجائر في 22 سبتمبر 1999 في العاصمة واشنطن وتحت إشراف القاضية الاتحادية جلاديز كيسلر(Gladys Kessler)، واستمر التداول في هذه القضية التاريخية أمريكياً ودولياً أكثر من سبع سنوات، وبالتحديد إلى 17 أغسطس 2006، حيث أصدرت القاضية رأيها في وثيقة مكونة من 1683 صفحة أكدت فيها على أن شركات التبغ والسجائر ارتكبت جريمة التحايل والتآمر والكذب على الشعب الأمريكي لعقود طويلة حول مخاطر التدخين وتعريضه للأمريكيين للموت والقتل البطيء، حيث صرحت القاضية قائلة: "شركة فيليب موريس وشركات التبغ الأخرى سَوَّقت وباعت السجائر باستخدام أساليب الغش والتضليل من أجل تحقيق النجاح المالي دون أي اعتبار للكوارث الإنسانية والأعباء الاجتماعية الناجمة عن هذا النجاح الاقتصادي"، كما أمرت في الوقت نفسه أكبر أربع شركات أمريكية للتبغ والسجائر وأجبرتهم على نشر بيانات "تصحيحية" تعترف فيها بأنها كذبت وضللت الشعب الأمريكي حول أضرار التدخين، وبخاصة بالنسبة للسجائر الخفيفة منخفضة القطران. ولكن هذه الشركات الجشعة لجمع المال بالحلال والحرام لم تستسلم، ولم ترفع العلم الأبيض عندما خسرت هذه الجولة الأولى من المعركة، فأعدت العُدة من جديد، وجنَّدت محاميها ومستشاريها الأكثر دهاءً ومكراً لاستئناف الحكم، ولكنها أيضاً انهزمت في المعركة الثانية شر هزيمة عندما أصدر فريق من ثلاثة قضاة في 22 مايو 2009 رأياً مؤكدين فيه على صحة الحكم السابق.

 

واليوم وبعد نحو 11 عاماً من صُدور الحكم جاءت مرحلة التنفيذ، حيث قامت وسائل الإعلام الأمريكية القومية من المحطات التلفزيونية والصحف ومن أموال شركات التبغ نفسها، إضافة إلى وسائل الاتصال الاجتماعية بدءاً من 26 نوفمبر من العام الجاري بنشر هذه البيانات التصحيحية على شكل دعايات إعلامية، والتي ستصدر خمسة أيام كل يوم ولمدة عام كامل بحيث يكون هناك ضمان بأن كل مواطن أمريكي سيشاهد، أو يقرأ، أو يسمع عنما ارتكبتها أيدي هذه الشركات الأمريكية العملاقة طوال العقود الماضية.

 

ومن أمثلة هذه اللوحات الإعلانية التي تضطر شركات التبغ إلى نشرها ليلاً ونهاراً تحت اسمها وشعارها، ما يلي: "السجائر ستبقى على رأس قائمة أسباب موت الشعب الأمريكي وهو يمكن منعه، فهي تقتل 1200 أمريكي يومياً، أي أكثر من الإيدز والانتحار والمخدرات وحوادث السيارات والخمر معاً"، وفي إعلان آخر: "لا يوجد حَدٌ آمن للسجائر، فهي تسبب السرطان وأمراض الرئة والقلب والموت المبكر"، كما جاء في إعلانٍ ثالث: "شركات السجائر تعمَّدت إلى تصميم سجائر تحتوي على كمية مناسبة للنيكوتين لتسبب الإدمان".

 

ولكن هل هذه المعركة الأخيرة أنْهت الحرب بين وزارة العدل وشركات التبغ؟ أم ستبدأ معركة جديدة أخرى مع منتجات حديثة وإبداعية شيطانية تطرحها هذه الشركات في الأسواق؟

 

من خبرتي مع مثل هذه الشركات الكبرى، فإنها لا تيأس ولا يصيبها الإحباط والقنوط، فقد شَرَعت منذ بضع سنوات بتسويق منتجها الجديد، بنكهةٍ عصرية شبابية، وبنيةٍ خبيثة وهي أن هذا المنتج يؤدي إلى العزوف عن تدخين سجائر التبغ التقليدية، وهذا المنتج هو السجائر الإلكترونية، وفي القريب العاجل سيدخل علينا منتج جديد آخر هو "سجائر الحشيش أو الماريوانا"، فاستعدوا قريباً لمعارك جديدة بين الشر والخير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق