الثلاثاء، 26 ديسمبر 2017

حاول أن تنام والأضواء مفتوحة


لكي تُدرك حجم الضرر الجسدي الذي نُسببه نحن جميعاً بني البشر لأنفسنا أولاً ثم للكائنات الفطرية الحية التي تعيش معنا فتنشط أثناء الليل في الظلام الدامس ونحن نِيام بسبب الأنوار الساطعة ليلاً والأضواء المتوهجة التي تُقلِّب الليل نهاراً، علينا أن نُجري على أنفسنا هذه التجربة البسيطة عدة أيام متتالية، وهي أن تحاول أن تنام ليلاً والمصابيح مفتوحة، والأنوار ساطعة أمام عينيك.

 

لا شك بأن المعاناة الجسدية الآنية ستكون كبيرة، والضغوط النفسية ستكون عصيبة، وهذا ما سنشعر به جميعاً إذا أجرينا هذه التجربة على أنفسنا، ولكن ما لا ندركه، ولا يخطر على بالنا قط، ولم يتوقعه أحد هو التأثيرات طويلة الأمد على أمننا الصحي عندما نتعرض لسنوات ولساعات طويلة لهذه الأنوار الصناعية غير الطبيعية طوال فترات الليل، فتُعرضنا مع الوقت للإصابة بالأمراض المستعصية، وبالتحديد السقوط في شباك مرض السرطان!

 

فقضية الأنوار المضيئة الساطعة طوال الليل في معظم مدن العالم والتي تُعرف بيئياً بالتلوث الضوئي، تحولت الآن إلى قضية تمس الأمن الصحي للإنسان، ولذلك في السنوات الأخيرة توجهت أنظار العلماء والباحثين إلى التعرف عن كثب على هذه الظاهرة العصرية، وطرحوا السؤال التالي: هل هناك علاقة بين هذه الأضواء وتعرض الإنسان لها طوال الليل والصحة العامة على المدى البعيد؟

 

وهناك الكثير من الدراسات التي حاولت الإجابة عن هذا السؤال، ومن أكثر الأبحاث ثقة ومصداقية وشمولاً تلك التي قام بها باحثون من كلية الطب بجامعة هارفرد العريقة، ونُشرت نتائجها في المجلة العلمية الأمريكية "شؤون صحة البيئة" في العدد الصادر في 17 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:"الأضواء الخارجية أثناء الليل وسرطان الثدي".وقد شملت هذه الدراسة مراقبة ومتابعة الحالة الصحية لـ 109,672  امرأة لمدة 22 عاماً في الفترة من 1989 إلى 2013  في الولايات المتحدة الأمريكية، ودرست العلاقة بين شدة الضوء والنور في البيئة الخارجية في مناطق سكن كل امرأة منهن والفترة الزمنية لتعرضهن لهذه الأنوار الليلية طوال فترة الدراسة،ومخاطر الإصابة بسرطان الثدي، حيث أفادت بأن النساء اللاتي يعشن في مناطق شديدة الأنوار والأضواء ليلاً، وبخاصة اللاتي يعملن في نوبات الدوام المسائي والليلي كالممرضات، فإنهن يتعرضن أكثر من غيرهن من النساء الأخريات اللواتي لا يعملن ليلاً لمخاطر الإصابة بسرطان الثدي، وبنسبة أعلى تُقدر بنحو 14%.

 

أما التفسير العلمي المبسط لهذه الظاهرة فيُشير إلى أن التعرض للأنوار الليلية غير الطبيعية يخفض من إفراز هرمون الملاتونين(melatonin) الذي يفرزه الجسم أثناء الليل،فيُضبط ويتحكم في الساعة البيولوجية للإنسان المرتبطة بالنوم والاستيقاظ، وهذا الانخفاض في إفراز هذا الهرمون المتخصص للعمل ليلاً يؤدي مع الوقت إلى حدوث اضطرابٍ وخللٍ في وظيفته وعمله، والنتيجة النهائية هي ارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان الثدي. واستناداً إلى نتائج هذه الدراسة والأبحاث الأخرى، فقد صنَّفت الوكالة الدولية لبحوث السرطان التابعة لمنظمة الصحة العالمية العمل في "فترة المساء للسيدات" أنه من "المحتمل أن يصيب المرأة بالسرطان"، وأنه يزيد من خطر الإصابة بسرطان الثدي.

 

وبالرغم من صُدور هذه الدراسات الطبية التي تؤكد على التهديدات الصحية للبشرية الناجمة عن الأنوار الليلية الصناعية المرتفعة والمتزايدة يومياً، سواء في داخل المنزل أو في الخارج، إلا أن ظاهرة شدة الأضواء في المدن وعلى كوكبنا بشكلٍ عام قد تفاقمت واتسعت مساحتها ودائرة تأثيرها، حسب الدراسة المنشورة في مجلة التطورات العلمية(Science Advances ) في العدد الصادر في 22 نوفمبر من العام الجاري، حيث قامت باستخدام الأقمار الصناعية لقياس مستوى الإنارة للكرة الأرضية أثناء الليل وأكدت على أنه في الفترة من 2012 إلى 2016 زادت الإضاءة الليلية غير الطبيعية لكوكبنا بنسبة 2.2% سنوياً، كما أفادت الدراسة إلى أن المساحة المنيرة والمضيئة للأرض تزيد سنوياً بنسبة 1.8%.

 

وعلاوة على هذه المخاطر والأضرار الفادحة التي تسببها الأضواء المفرطة الشديدة المستمرة طوال الليل في بيئتنا الداخلية والخارجية على الصحة العامة، فإن هناك كائنات حية فطرية نباتية وحيوانية تعيش معنا وبين أظهرنا ولا يمكن لحياتنا أن تستمر بدونها، فهي جزء رئيس من النظام البيئي الكوني الذي خلقه الله سبحانه وتعالى بكل دقة وإتقان واتزان وتكامل وهي المؤشر الحيوي الذي يؤكد لنا سلامة صحة الأرض، وهذه الكائنات اليوم تعاني وتذوق العذاب الشديد نتيجة لهذه التغيرات الجذرية العميقة التي حولت ليلها نهاراً، ومساءها صباحاً، فاختلط عليها الأمر، فلا تستطيع أن تعمل ليلاً ولا أن تنام نهاراً، وفي نهاية المطاف فهي لا تستطيع أن تؤدي دورها ضمن سلسلة الحياة، ولا تتمكن من القيام بوظيفتها التي خُلقت من أجلها خدمة للإنسانية جمعاء.

 

فإذا كُنا لا نبالي بهذه الكائنات الفطرية الحية، ولا نُعير لها أي اهتمام أو حماية ورعاية، فعل الأقل علينا أن نحمي صحتنا من شرور هذا التلوث الضوئي، ونقي أنفسنا من تداعياته القاتلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق