الاثنين، 18 ديسمبر 2017

بعد 66 عاماً والحال هو الحال


الكثير من الناس لا يعرفون بأن هناك عشرات الآلاف من الناس الذين سقطوا صرعى ضحايا لتلوث الهواء، ولقوا نحبهم فوراً نتيجة لاستنشاق هواءٍ مُشبع بخليطٍ معقد من الملوثات في العاصمة البريطانية لندن في أيام الأعياد والأفراح في الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952، فتحولت أيام الأفراح والبهجة والسرور والأعياد هذه إلى أيام مآتم وأحزان وفواجع مؤلمة عمَّت البلاد كلها. ولم يكن هذا الكرب الصحي والبيئي الذي نزل على لندن هو الوحيد أو الأول من نوعه في بلد الضباب، ولكنه كان الأشد بأساً والأقسى تنكيلاً بالمجتمع اللندني، والأكثر تأثيراً عليهم جميعاً، فقد كان بمثابة المنعطف التاريخي البيئي في بريطانيا، حيث تعمق الاهتمام بقضية تلوث الهواء، وسُنت قوانين وطنية لحماية المواطنين من الأضرار المدمرة والمهلكة لتلوث الهواء على الحرث والنسل، وعلى رأسها قانون الهواء النظيف لعام 1956.

 

وبالرغم من هذه الأيام العصيبة والمشاهد المبكية التي تركت بصماتها عميقة ومتجذرة في جسد البلاد والعباد ونُقشت أحداثها بدم اللندنيين في كتب التاريخ البيئي المعاصر، فهذه الأيام مازالت حية في ذاكرة الشيوخ وكبار السن وحاضرة بقوة في وسائل الإعلام وفي أبحاث العلماء، إلا أن الوضع لم يتغير كثيراً، فالحال هو الحال كما هو عليه منذ أكثر من ستة عقودٍ من الزمان.

 

ولكي أُثبت لكم أن الوضع الميداني الآن لم يتغير عمَّا كان عليه في الخمسينيات من القرن المنصرم، بل وربما ازداد سوءاً وأشد تدهوراً، أُقدم لكم بعض الإحصاءات والتقارير الحكومية الرسمية حول تدهور الهواء الجوي في لندن وتداعيات فساد الهواء الجوي على صحة اللندنيين خاصة والبريطانيين عامة.

 

ففي لندن مستوى تركيز بعض الملوثات يُضْرَب به المثل في سائر أنحاء العالم، فتركيز الدخان أو الجسيمات الدقيقة وأكاسيد النيتروجين لسنواتٍ طويلة فاق كثيراً المعايير والمواصفات الأوروبية الخاصة بجودة الهواء وتوجيهات وإرشادات منظمة الصحة العالمية حول نوعية الهواء في المدن، مما اضطر الاتحاد الأوروبي مؤخراً إلى فرض غراماتٍ مالية ضخمة على بريطانيا لعدم التزام لندن بالمواصفات الأوروبية حول نوعية الهواء، كما قامت جمعيات أهلية بريطانية ومنظمات حقوقية برفع دعاوى قضائية ضد حكومتها لعدم القيام بواجباتها تجاه تحسين نوعية الهواء الجوي التي يتعرض لها المواطن كل ثانية من حياته، وفشل الحكومات المتعاقبة منذ عقود في توفير الهواء الصحي السليم الذي هو حق رئيس من حقوق المواطن الأساسية والضرورية للعيش بكرامة وبصحةٍ وعافية، علماً بأن هذه الجمعيات ربحت جميع الدعاوى القضائية وأمرت المحاكم المختصة السلطة التنفيذية على اتخاذ التدابير والإجراءات اللازمة لتحسين نوعية الهواء ووضع خطة مستقبلية لخفض نسبة الملوثات في الهواء الجوي، مما أدخل الحكومة البريطانية في مأزقٍ شديد، وحرجٍ عصيب، وضغطٍ كبير من الاتحاد الأوروبي من جهة ومن المواطنين من جهةٍ أخرى.

 

وهذا التدهور لنوعية الهواء انعكس مباشرة على الصحة العامة، حيث أكدت التقارير الحكومية الرسمية بأن الذي يُنقلون سنوياً إلى مثواهم الأخير في سنٍ مبكرة بسبب تلوث الهواء بلغ 9000 إنسان في لندن وحدها، وقرابة40 ألف على مستوى بريطانيا برمتها. وقد نٌشرت دراسة مخيفة تؤكد هذه الحقيقة وواقعيتها على الأرض، حيث أثبتت بأن تلوث الهواء يؤثر على الجنين وهو في رحم أمه، فيؤدي إلى انخفاض وزن الجنين بعد الولادة، أو وقوع الولادة المبكرة، مما يشكل خطورة على صحة الجنين وتهديداً طويل المدى على سلامته بعد الولادة من ناحية نمو الأعضاء كالرئة والمخ، إضافة إلى سلامة الأجيال اللاحقة. فهذه الدراسة الشاملة غطت عينة واسعة من الأطفال المولودين حديثاً في لندن بلغت 540 ألف في الفترة من 2006 إلى 2010 وراقبت العلاقة بين تعرض الأمهات لتلوث الهواء والوزن المنخفض غير الطبيعي للأطفال وهو أقل من 2.5 كيلوجرام، فقد استنتج الباحثون أنه كلما تعرضت الأم الحامل لملوثات أكثر ولفترة زمنية أطول، وبالتحديد الدخان والجسيمات الدقيقة المنبعثة بشكلٍ رئيس من سيارات الديزل، ارتفعت وزادت مخاطر ولادة الأطفال منخفضي الوزن، وبالتالي زادت المخاطر الصحية التي سيعاني منها هذا الجيل من الأطفال والأجيال اللاحقة.

 

فهذا الوضع المزمن والمتأزم للهواء منذ أكثر من 66 عاماً، اضطر عمدة لندن في الأول من ديسمبر من العام الحالي إلى وضع 2500 لوحة إعلانية تحذيرية حول جودة الهواء في كل ساعة من اليوم في المناطق العامة، مثل مواقف الحافلات، ومحطات القطارات، ومحطات القطارات تحت الأرض في المنطقة، فإذا كانت نسبة الملوثات مرتفعة فإن اللوحات تنبه اللندنيين، وبخاصة الأطفال وكبار السن إلى ضرورة أخذ الحيطة والحذر عند الخروج إلى الشارع لأنهم سيشمون هواءً ملوثاً وقاتلاً.


والآن بعد هذا التحليل لنوعية الهواء في لندن، ألا تتفقون معي بأن الحال هو الحال منذ أكثر من ستة عقود، بل ألا تتفقون معي بأن الوضع البيئي والصحي ازدادا تدهوراً وسوءاً؟


في الحقيقة فإنني أعاني من قلقٍ عميق ويأسٍ شديد لأننا أطلقنا سراح الملوثات دون أية رقابة، فسمحنا لها بأيدينا بالدخول في الهواء الجوي لسنواتٍ طويلة من مصادر لا تعد ولا تحصى، وتركنا هذا الغول القاتل ينمو ويكبر أمام أعيننا في كل يوم، حتى إننا قد فقدنا الآن فعلياً السيطرة عليه، والتحكم فيه، والتصدي له، ولا أدري ماذا سيكون مصيرنا؟


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق