الخميس، 24 فبراير 2022

شركات أمريكية تتسبب في قتل الشعب الأمريكي


نقلتْ معظم وسائل الإعلام الأمريكية خاصة والغربية بصفةٍ عامة خبراً نُشر في الثاني من فبراير من العام الجاري تحت عنوان: "قبائل السكان الأصليين في الولايات المتحدة الأمريكية يَصِلون إلى تسوية في الأول من فبراير مع شركة جونسون و جونسون وثلاث شركات أخرى بمبلغ 590 مليون دولار أمريكي".

 

فما هي الجريمة التي ارتكبتها أيدي شركة جونسون وجونسون الأمريكية الشهيرة(Johnson & Johnson) وشركات أخرى للأدوية ضد الشعب الهندي الأحمر الأمريكي، أو الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة الأمريكية، حتى يستحقوا الحصول على هذا المبلغ الكبير؟

 

فهل هي جريمة إبادة جماعية قامت بها هذه الشركات بزعامة جونسون و جونسون، كما قام بها أسلافهم وأجدادهم من قبل ضد هؤلاء الضعفاء والفقراء من السكان الأصليين لأمريكا؟

 

في الحقيقة، فإن هذه الجريمة الجديدة وقعت قبل نحو عقدين واستمرت حتى اليوم، وليس قبل قرون كما كان الحال في المرات السابقة، وهذه الجريمة النكراء لا تقل شدة ووطأة وتنكيلاً بهذه الأمة البسيطة من القبائل المتناثرة هنا وهناك، كما حدث في الماضي، ولذلك تستحق أن أُطلق عليها "إبادة مرضية جماعية".

 

فقد استهدفت عمداً شركة جونسون و جونسون المنتجة لعدة أنواع من العقاقير والأدوية المخدرة والمدمنة من الأفيون والهيروين والتي تقع تحت عنوان "المسكن للألم"، أو "المهدئ للأعصاب" هذه الأمم البسيطة من الهنود الحمر، وساعدت هذه الشركة العريقة العملاقة للقيام بهذا العمل الشيطاني القاتل والجريمة البشعة لأمم بأكملها شبكة معقدة ومنظمة من شركات التوزيع والتسويق مثل أمري سورس بيرجن(AmerisourceBergen)، وشركة كاردينال هيلث(Cardinal Health)، وماك كيسون(McKesson)، إضافة إلى قائمة كبيرة من المراكز الصحية والأطباء والصيدليات التي كانت تقوم بدور كتابة الوصفات الطبية لهذه "المسكنات"، سواء إلى المرضى الذين يحتاجون إليها، أو المرضى الذين حالتهم الصحية لا تستدعي مثل هذه الأدوية القوية والمخدرة التي تصيب الإنسان بالإدمان.

 

وهذه الحالة المأساوية غُرست بذورها الخبيثة في مجتمع الهنود الحمر منذ نهاية التسعينيات من القرن المنصرم، واستمرت أكثر من عقدين طويلين من الزمن، حتى أن الدراسات أكدت بأن أعلى معدل للوفيات للفرد الواحد على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب الإدمان والجرعات الزائدة كان في مجتمعات السكان الأصليين مقارنة بالأمريكيين المهاجرين من البيض وغيرهم. فعلى سبيل المثال في عام 2016 بلغ عدد الوفيات بسبب الجرعة الزائدة من الأفيون بين سكان قبيلة(Oglala Lakota) في ولاية ساوث داكوتا 21 شخصاً لكل مائة ألف من سكان القبيلة، حسب الدراسة الميدانية المنشورة في 21 ديسمبر 2018 في المجلة الأسبوعية تقارير الأمراض والوفيات(morbidity and mortality weekly report) تحت عنوان: "الوفيات بسبب الجرعة الزائدة من أدوية الأفيون والهيروين بين الهنود الأمريكيين والسكان الأصليين في ألاسكا في الفترة من 1999 إلى 2015".

 

وجدير بالذكر فإن هذه الشركات الجشعة التي لا ترقب في صحة الإنسان إلا ولا ذمة لم يكن هدفها فقط السكان الأصليين الفقراء، ولم يكتفوا بالربح القليل والمكاسب المالية التي جنوها من إفساد وتدمير صحة هذه الأمم الهندية البسيطة، وإنما توغلوا بعمق وبمنهجية مدروسة طويلة المدى في الشعب الأمريكي برمته، وجنَّدوا كل طاقاتهم وإمكاناتهم العقلية، والفنية، والمالية، والتسويقية من أجل تحقيق هذا الهدف الشيطاني اللئيم، فنجحوا في الدخول إلى كل بيتٍ أمريكي غني كان أو فقير، وتمكنوا من كل أمريكي مثقف كان أو جاهل، فأدمن جُل الشعب الأمريكي على المخدرات من جهة، وعلى هذه الحبوب المخدرة والمسكنة من جهة أخرى، حتى أن عدد الذين قضوا نحبهم بسبب الجرعات الزائدة وصل في عام 2020 فقط إلى قرابة 93 ألف ضحية بشرية سقطوا بسبب فساد هذه الشركات وإجرامهم في حق الشعب الأمريكي عامة، والحصيلة الإجمالية لعدد الوفيات قُدرت منذ التسعينيات من القرن المنصرم إلى أكثر من نصف مليون أمريكي، إضافة إلى نحو 20 مليون أمريكي يعانون من الإدمان على المخدرات بأنواعها وأشكالها المتعددة.

 

وعلاوة على ذلك فقد نشرت مجلة اللانست الطبية في الثاني من فبراير من العام الجاري بحثاً تحت عنوان: "التجاوب مع أزمة الأفيون في شمال أمريكا وغيرها: التوصيات من هيئة ستانفور ولانست"، حيث أفادت بأنه منذ عام 1999 أكثر من 600 ألف إنسان مات في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا من الجرعة الزائدة للأفيون، كما أشارت الدراسة بأن التقديرات تحذر من وفات قرابة 1.22 مليون في الفترة من 2020 إلى عام 2029، أي بمعدل وفاة 336 إنساناً كل يوم.

 

فهذا الوباء الخطير المستشري في جسد المجتمع الأمريكي وينخر في أعضائه يوماً بعد يوم يهدد فعلياً أمن وسلامة هذا المجتمع من جذوره، صحياً، واجتماعياً، واقتصادياً، فبدأت التحركات الجادة ضد شركات الموت والمرض على كافة المستويات والتي تعمدَّت إلى خلق حالة الإدمان هذه على أدويتهم، فمنها كانت تحركات على المستوى السياسي، ومنها على المستوى القضائي الذي شمل معظم ولايات وحكومات ومنظمات أمريكا.

 

أما على المستوى السياسي، فقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق ترمب في 26 أكتوبر عام 2018 عن أعلى درجات التأهب والحذر وهي "حالة الطوارئ الصحية" على المستوى القومي بسبب الإدمان على الحبوب المسكنة للألم، حيث وصف ترمب هذه الحالة الكارثية قائلاً بأنها "أسوأ أزمة مخدرات في تاريخ أمريكا"، كما أضاف "إنها حالة طوارئ قومية، وسنصرف الكثير من الوقت، والكثير من الجهد، والكثير من المال على أزمة الأفيون".

وأما على المستوى القضائي فقد رُفعت عشرات الآلاف من القضايا إلى المحاكم على مستوى الفرد الأمريكي، أو على مستوى الحكومات والولايات والسلطات المحلية في أكثر من أربعين ولاية. وقد نجحت معظم هذه القضايا في إدانة هذه الشركات وإجبارهم إلى الوصول إلى تسوية مالية. فعلى سبيل المثال، توصلت وزارة العدل مع "بُوردو فَارما"( Purdue Pharma) التي تنتج حبوب الأفيون أوكسي كونتن(OxyContin) في 21 أكتوبر 2021، إلى تسوية تاريخية، حيث وافقت الشركة على دَفْع مبلغ وقدره 8.34 بليون دولار أمريكي، كما اعترفتْ رسمياً بجرائمها المتعمدة التي ارتكبتها ضد الشعب الأمريكي، فأقرتْ بها في بيانٍ مقتضب أُطلق على وسائل الإعلام، جاء فيه: "الشركة تُعبِّر عن أسفها العميق، وتتحمل كامل المسؤولية عن ممارساتها الخاطئة التي جاء تفصيلها من قبل وزارة العدل". كذلك هناك التسوية التي توصلت إليها قبيلة أو أمة تشيروكي(Cherokee Nation) في ولاية أوكلاهوما بمبلغ 75 مليون دولار في 27 سبتمبر 2021 مع جونسون و جونسون و3 شركات أخرى موزعة لحبوب الموت. وفي الوقت نفسه توصلت أربعين ولاية إلى تسوية مع شركة جونسون و جونسون وجنودها المرتزقة في العشرين من يوليو 2021 على مبلغ وقدره 40 بليون دولار كتسوية لآلاف القضايا المرفوعة ضدها.

وكل هذه التسويات بين الشعب الأمريكي وشركات الموت والقتل التي تعمل تحت غطاء شركات الأدوية والعقاقير، أو شركات إنتاج اللقاح تؤكد بأن هذه الشركات تعترف بذنبها العظيم أمام الأمريكيين، وتُبدي لهذا الشعب حجم الإثم العقيم الذي ارتكبته ضد المواطن الأمريكي من كافة أعراقه، وطبقاته، ومستواه العلمي والثقافي والإداري.

 

فإذا كانت هذه هي حجم الممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية التي قامت بها هذه الشركات الأمريكية للشعب الأمريكي نفسه والمتمثلة في القتل المتعمد البطيء عن طريق إدمانه على المخدرات، فماذا تتوقعون أن تكون معاملتهم مع الشعوب الأخرى، وخاصة الشعوب الفقيرة والمستضعفة والتي لا تتمتع بنفوذ سياسي أو اقتصادي على المستوى الدولي؟

 

وهذا السؤال يثير في نفسي أسئلة كثيرة أخرى متعلقة باللقاحات التي تنتجها هذه الشركات العملاقة الآن ضد فيروس كورونا، فكيف نثق في مصداقيتها وهي بيدها القول الفصل والأخير؟ وكيف نثق في سلامة وفاعلية وحماية لقاحاتهم لأمننا الصحي، وخاصة أن جميع التجارب على هذه اللقاحات لا تجريها جهات علمية مستقلة يمكن الوثوق بها؟ وكيف نصدق ادعاءاتهم بأننا كنا نحتاج إلى جرعة ثانية، ثم ثالثة، والآن نحتاج إلى جرعة رابعة؟ وما الذي يمنع هذه الشركات أن تفعل بنا كشعوب كما فعلت هي بشعبها، الشعب الأمريكي؟

الأربعاء، 23 فبراير 2022

ما هو تصنيف الطاقة النووية بين مصادر الطاقة الأخرى؟

كُلنا سمع عن التجربة العظيمة الفريدة من نوعها على المستوى الدولي والعلمي، والانجاز الكبير الذي تحقق من هذه التجربة التي أجراها "مركز كلهام لطاقة الفيوشن"(Culham Centre for Fusion Energy) في أكسفورد في التاسع من فبراير من العام الجاري، والذي يعمل تحت إشراف "هيئة الطاقة الذرية" في بريطانيا بالتعاون مع بعض دول الاتحاد الأوروبي تحت برنامج بحثي عمره أكثر من أربعين عاماً اسمه "يورو فيوشن"(EUROfusion).

 

فهذه التجربة كانت حلماً بالنسبة للعلماء والمهندسين الذين يبحثون في موضوع "الاندماج النووي"(Nuclear Fusion)، ومثَّل لهم تحدياً كبيراً شغل بالهم منذ عقود طويلة من الزمن، وأُجريت العديد من التجارب السابقة لأكثر من أربعين عاماً لتحقيق هذا الحلم الكبير بجميع مشاهده وتفصيلاته، فتحول الحلم بعد هذه التجربة الرائدة إلى حقيقة واقعة رأوها رأي العين أمامهم، وهي إجراء تفاعلات الاندماج النووي التي تحدث في الشمس على الأرض، وفي مفاعلات خاصة صُممت لهذا الغرض، كان آخرها مفاعلات "توكاماك" (tokamak) من نوع "جيت" (Joint European Torus (JET)).

 

فقد نجح هذا الفريق العلمي المتعدد التخصصات ومن دول عدة في إدماج نظيرين من الهيدروجين الثقيل وهما الديتيريم و التريتيم (deuterium and tritium) تحت حرارة عالية جداً تبلغ نحو 150 مليون درجة مئوية، وضغط مرتفع ليتولد البلازما، أو سحابة من الغاز المؤين في مجال مغناطيسي، فتنطلق من عملية الاندماج النووي التي استمرت خمس ثوان فقط النيترونات(neutrons)، أو الطاقة الشديدة التي قُدرت بنحو 59 ميجا جول. ونجاح هذه التجربة، وتحطيمها للأرقام القياسية السابقة، يكمن في أن كمية الطاقة الناتجة والمنطلقة كانت أكبر من كمية الطاقة التي تم استخدامها في عملية التسخين، مما يعني بأن هذه الطاقة الزائدة يمكن استخدامها في توليد الكهرباء، أو كوقود في مجالات أخرى تحتاج إلى مصدر للطاقة.

 

والآن الخطوة الثانية في سباق توليد الطاقة من الاندماج النووي ستكون باستخدام مفاعلٍ جديد، أكبر حجماً، وأكثر تطوراً، ويُطلق عليه "المفاعل التجريبي النووي الحراري" Thermonuclear Experimental Reactor (ITER)). وهذا المفاعل كلفته نحو 25 بليون دولار، وتموله ثماني دول هي الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، والهند، وروسيا، والاتحاد الأوروبي، والهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وموقعه في جنوب فرنسا.

 

ويأتي هذا الاهتمام بهذه التجربة وبتقنية الاندماج النووي بشكل عام بسبب سعي دول العالم أجمع، وبخاصة الدول الصناعية الكبرى التي تلهث وراء مصادر الطاقة وتغزو الدول وتدخل في الحروب من أجلها، فالطاقة بالنسبة لهذه الدول ودول العالم أجمع هي عصب الحياة، والركن الأساس لتحقيق التنمية المستدامة والانتعاش والازدهار الاقتصادي، ولذلك لا بد من مصدر الطاقة أن يكون مستداماً، فيتصف بعدة مميزات منها أن يكون نظيفاً فلا تنبعث عنه الملوثات، وبخاصة تلك المتهمة بالتغير المناخي ورفع درجة حرارة الأرض، مثل ثاني أكسيد الكربون، كما يجب أن يكون آمناً في استخدامه، ومتجدداً وغير ناضب، إضافة إلى يكون ذات مصداقية عالية وثبات واستقرار مرتفع، أي أنه يكون ذات فاعلية وقدرة مستمرة على توليد الطاقة في جميع الظروف والأحوال المناخية دون انقطاع أو انخفاض.

 

ومثل هذه الصفات تتوافر بعضها في الطاقة النووية، ولكن ليست الطاقة النووية باستخدام تقنية الانشطار النووي(nuclear fission) المستعملة الآن في جميع المفاعلات التي تنتج الكهرباء حول العالم. فهذه التقنية من سلبياتها التي لم تُعالج حتى الآن، بالرغم من مرور أكثر من مائة عام على اكتشافها واستخدامها، هي أنها غير آمنة كلياً، وقد تقع كوارث مدمرة على نطاق واسع، مثل كارثة ثري مايلز آيلند في ولاية بنسلفانيا الأمريكية في عام 1979، وكارثة تشرنوبيل في أوكرانيا في 1986، وأخيراً الطامة الكبرى التي وقعت في فوكوشيما في اليابان في 2011. وعلاوة على هذه السلبية الكبيرة، فإن تقنية الانشطار النووي للذرة، تُنتج كميات كبيرة من المخلفات الخطرة المشعة، ومنها أعمدة الوقود المستنفد(spent nuclear fuel rods)، وهذه المخلفات تعتبر الآن كقنبلة دمار شامل موجودة في جميع الدول التي لديها الآن، أو كانت لديها مفاعلات نووية لأغراض سلمية أو عسكرية في السابق. فهذه المخلفات المشعة تتمثل بشكلٍ كبير في الوقود المستنفد الذي استخدم في المفاعلات لتوليد الكهرباء، ثم تلاشت قدرته ونسبة إشعاعه مع الوقت، مما يستدعي استبداله بأعمدة وقود جديدة، وهكذا تتكرر عملية الاستبدال كل 12 أو 18 شهراً، مما يعني تراكم قنابل الدمار الشامل وتخزينها في مواقع المفاعلات سنة بعد سنة دون علاج جذري ومستدام.  

 

فهناك الآن، حسب بعض التقديرات، نحو ربع مليون طن من الوقوع المستنفد موجود في 14 دولة جاثمة كالقنابل النووية التي تنتظر أن تنفجر في أية لحظة، أو أن تتسرب منها الملوثات المشعة القاتلة، ومعظم هذه المخلفات موجود في أحواض مائية لتبريدها ومنع تسرب الاشعاع منها، أو في بعض الأحيان تكون مخزنة في براميل فوق الأرض، أو تحتها، وهذه أيضاً قد تتآكل وتصدأ وتنطلق منها الإشعاعات إلى الهواء الجوي. كما أن خطورة هذا الوضع الدولي قد يكون في قيام بعض الجماعات بعمليات إرهابية باستخدام هذه المخلفات المشعة، كذلك هناك كلفة عالية لا تقدر بثمن لصيانة هذه المخلفات ومتابعة سلامتها وأمنها، ومنع وصول أيدي المجرمين إليها.

 

وهناك بعض الحلول الترقيعية غير المستدامة لإدارة هذه المخلفات المشعة، فعلى سبيل المثال تقوم فرنسا بمعالجة وإعادة استعمال البعض منها، أو في بعض الأحيان تحولها إلى مادة زجاجية مستقرة تُعرف بتقنية الفيترفيكيشن(vitrification). ولكن في معظم الحالات يتجه الحل نحو التخزين طويل الأمد في أعماق الأرض، منها تجربة فنلندا التي وضعت المخلفات المشعة في أنابيب النحاس وخزنتها في باطن الأرض في صخور الجرانيت على عمق قرابة 1400 قدم، كما أن هناك تجارب أخرى لم تر النور بعد لأسباب سياسية وتقلبات الحكومات وتغيرها، مثل ما حدث في الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا.

 

أما تقنية الاندماج النووي فينطبق عليها معظم معايير مصدر الطاقة المستدام، فهي لا تنبعث عنها ملوثات، وبالتحديد ملوثات التغير المناخي كثاني أكسيد الكربون، كما أن المخلفات المشعة التي تنتج عنها تكون قليلة ومنخفضة الإشعاع، وهي آمنة وسليمة عند تشغيلها ويمكن الاعتماد عليها لتوليد الطاقة في جميع الظروف المناخية.

 

ولذلك هناك تهافت واستثمار كبير من الدول المتقدمة والغنية نحو تطوير هذه التقنية لتكون المصدر المستدام والنظيف للطاقة لجميع دول العالم. فعلى سبيل المثال، أعلنت شركة يابانية في مقاطعة كيوتو(Kyoto Fusioneering Ltd.) في 13 فبراير من العام الجاري عن خطتها لبناء مفاعل يعمل بتقنية الاندماج النووي، كأول محطة تجريبية لتوليد الكهرباء.

 

فالمستقبل إذن مشرق ويبشر بالخير الوفير بالنسبة لهذه التقنية النووية لتوليد الطاقة لتحظى بلقب "المصدر المستدام للطاقة"، ولكن الطريق مازال طويلاً وشاقاً ومكلفاً، وسيستغرق سنين طويلة لإنتاج المفاعل التجاري الذي يمكن أن يُعمم على دول العالم.

 

الأحد، 20 فبراير 2022

استراتيجية الجيش الأمريكي حول التغير المناخي

  

لم أستغرب عندما قرأتُ بأن مؤسسة أمريكية أمنية بحتة في تخصصاتها، وأهدافها، وبرامجها، وأعمالها اليومية قد دشنت في الثامن من فبراير من العام الجاري استراتيجية خاصة لمواجهة إحدى القضايا البيئية الدولية وهي قضية العصر، قضية التغير المناخي.

 

فقد أصدر الجيش الأمريكي لأول مرة في تاريخه، بل وفي تاريخ جيوش العالم أجمع، بالرغم من هواجسه واهتماماته الأمنية الكثيرة التي لا تنتهي، أول استراتيجية متخصصة تهدف إلى التصدي لتداعيات التغير المناخي وسخونة كوكبنا، وتعمل على اتخاذ الإجراءات الكفيلة لمكافحتها، وخفض درجة تهديداتها ومردوداتها على المجتمع الأمريكي خاصة وعلى الكرة الأرضية وسكانها عامة.

 

فقد تأكد الآن وبعد سنوات من المعاناة والتحديات العقيمة التي واجهها البشر بأن التغير المناخي الذي نشهده الآن ليس ظاهرة طبيعية بحتة، وقضية بيئية خالصة تتمثل في انبعاث بعض الملوثات مثل ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز، وغيرها من شتى أنواع المصادر الثابتة والمتنقلة إلى الهواء الجوي، وقيام هذه الملوثات مع الزمن بحبس الحرارة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي ورفع درجة حرارة الأرض، وإنما لهذه الظاهرة انعكاسات في قطاعات ومجالات كثيرة لم تخطر على بال الإنسان، ولم يفكر فيها أحد، فتداعيات ظاهرة التغير المناخي تخطت وتعدت البعد البيئي، فأثرت بشكلٍ مباشر على الجانب الاقتصادي، والاجتماعي، والصحي، وأخيراً الجانب الأمني المتعلق باستقرار وأمن الحكومات والدول وإشعال فتيل النزاعات والأزمات بينهم، إضافة إلى استدامة عطاء البنية التحتية والمكاسب التنموية التي أقامتها الدول.  

 

ولقد لُدغت الولايات المتحدة الأمريكية مرات كثيرة وبشكلٍ مباشر من جُحر التغير المناخي ومن تداعياتها الكثيرة والمتنوعة التي نزلت على كوكبنا عامة، وبخاصة في الجانب الأمني، مما اضطرها إلى صياغة وتبني استراتيجية وسياسة عامة طويلة الأمد تهدف إلى التقليل من آثارها وخفض مردوداتها على أمن وسلامة المجتمع الأمريكي عامة، فجاءت هذه الاستراتيجية من جهة أمنية مختصة لتواجه هذا التحدي الجديد.

 

وقد بُنيت هذه الاستراتيجية على استنتاجات وتوصيات عدة تقارير تنشرها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقد من الزمن حول علاقة التغير المناخي وتداعياته بالجانب الأمني، كان آخرها في 21 أكتوبر 2021، حيث صَدرتْ ثلاثة تقارير في الوقت نفسه تعالج وتقيم العلاقة بين التغير المناخي وأمن الدول واستقرارها على كافة المستويات القومية الأمريكية والدولية على حدٍ سواء، وكان من أهمها التقرير تحت عنوان: "التغيرات المناخية والتحديات المتزايدة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2040: تقديرات المخابرات القومية حول التغير المناخي". وهذه التقارير فريدة من نوعها من حيث أن بعضها صدر من جهات أمنية واستخباراتية، إضافة إلى إجماعها على استنتاجات واحدة تتلخص في الدور المؤثر والكبير للتغير المناخي على الأمن القومي الأمريكي والاستقرار الدولي، إضافة إلى علاقة تداعيات التغير المناخي مع الأمن الداخلي، حيث اعتبرت التقارير التغير المناخي كتهديد حقيقي للأمن القومي، كما توصلت هذه التقارير إلى استنتاج آخر هام هو ضرورة إدخال وضم البعد المتعلق بالتغير المناخي وتداعيته في الاستراتيجيات والسياسات الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى جعل التغير المناخي محور سياسات الأمن القومي الأمريكي والعمود الفقري لرسم الاستراتيجيات الأمنية المستقبلية.

 

وقد صدرت هذه الاستراتيجية من مكتب مساعد وزيرة الجيش للتركيبات، والطاقة، والبيئة، تحت عنوان "الاستراتيجية المناخية لجيش الولايات المتحدة"، حيث كَتبتْ وزيرة الجيش كريستي ورمث(Christine Wormuth) في مقدمة وثيقة الاستراتيجية قائلة: "التغير المناخي يهدد الأمن الأمريكي ويغير الخارطة الجيواستراتيجية كما نعرفها. فبالنسبة للجنود العاملين اليوم في بيئات درجة حرارتها مرتفعة، ويكافحون الحرائق، ويساعدون عند نزول الأعاصير، فالتغير المناخي ليس ببعيد، فهو حقيقة، والآن حان الوقت لمواجهة التغير المناخي. تأثيرات التغير المناخي بدت واضحة على شبكة الإمداد، تدمير البنية التحتية، وزيادة المخاطر على الجنود وأسرهم بسبب الكوارث الطبيعية والمناخ الشديد. الجيش يجب أن يتكيف مع هذه التغيرات ويعمل على خفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري من أجل تقليل المخاطر المناخية، وإذا لم نتخذ الإجراءات اللازمة الآن فإن المخاطر ستتفاقم مع كل سنة".

 

كما قال وزير الدفاع لويد أوستن(Lloyd Austin) في الوثيقة المنشورة في الأول من سبتمبر 2021 تحت عنوان: "خطة التكيف المناخية": "نحن نواجه شتى أنواع التهديدات أثناء عملنا، والقليل منها يستحق أن نُطلق عليها بالتهديدات الوجودية. الأزمة المناخية...التغير المناخي يجعل عالمنا أقل أمناً ويجب أن نفعل شيئاً الآن".

 

وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الحكومة الأمريكية منذ عشرات السنين، وهو خفض الانبعاث بنسبة 50% بحلول عام 2030، وأخيراً بلوغ الانبعاث الصفري للغازات المسؤولة عن التغير المناخي وسخونة الأرض والمعروفة بغازات الاحتباس الحراري أو غازات الدفيئة بحلول عام 2050. ويتم تحقيق هذا الهدف الطموح جداً من خلال تنفيذ عدة إجراءات واتباع آليات محددة منها رفع كفاءة الوقود المستخدم من قبل الجيش، والتحول من الوقود الأحفوري غير المتجدد والملوث للبيئة إلى الوقود النظيف غير الناضب، مثل استخدام الآليات والسيارات الكهربائية، إضافة إلى تحديث وتحسين إنتاج الطاقة، وتخزين الطاقة في البطاريات، وإدارة الأرض بطرقة مستدامة من خلال حماية الأراضي الخضراء وتأهيلها لتقوم بدورها في امتصاص الملوثات، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، المتهم الرئيس في إحداث التغير المناخي. كما تعمل هذه الاستراتيجية على تطوير وتكييف البنية التحتية للوزارة من قواعد عسكرية برية، وبحرية، وجوية لتكون أكثر وصلابة واستقرار وثبات في مواجهة تهديدات ومخاطر تداعيات التغير المناخي.

 

وفوائد هذه الاستراتيجية الخاصة بمواجهة التغير المناخي لا تنعكس على الولايات المتحدة فحسب وإنما على الكرة الأرضية برمتها وعلى شعوب العالم أجمع. فالانبعاثات التي تنتج عن أنشطة الجيش الأمريكي وحده تساوي في حجمها انبعاثات الكثير من دول العالم مجتمعة، ولذلك خفض نسبتها ينعكس إيجاباً على الجميع في كل دول العالم. كما أن هذه الاستراتيجية الأولى من نوعها على المستوى الدولي تشجع حكومات العالم وتحفز المؤسسات الأمنية وغير الأمنية على وضع مثل هذه الاستراتيجية وتنفيذها على أرض الواقع حماية لكوكبنا وسكان الأرض من إنسان، وحيوان، ونبات من تداعيات هذه المشكلة العصيبة.

الخميس، 17 فبراير 2022

ما علاقة البنك الدولي بتلوث الهواء والبحار في الشرق الوسط؟

 

يعتبر البنك الدولي إحدى الوكالات المالية المتخصصة التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، ويهدف أساساً إلى تقديم الدعم المالي والتقني للدول النامية الفقيرة التي تحتاج إلى مثل هذا النوع من المساعدات، فيُقدم البنك القروض، والائتمان، والاستشارات المالية، وغيرهما من طرق وأنواع المساعدات المالية.

 

ولكن ما علاقة البنك المعني فقط بتقديم الدعم المالي للدول المحتاجة بهموم البيئة وشؤونها؟ وما علاقة البنك وهو مؤسسة مالية متخصصة بتلوث الهواء وتلوث البحار حتى ينشر تقريراً خاصاً ومفصلاً بهذا الشأن البيئي، ويحمل في محتواه الهموم والقضايا البيئية العامة التي هي من المفروض أن تكون من اختصاص هيئات ووكالات الأمم المتحدة الأخرى، مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة؟

 

فهذا التقرير الصادر من البنك في السابع من فبراير يأتي ضمن سلسلة تقارير حول التنمية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو إقليم مِينا(MENA)، ونُشر تحت عنوان لا يتوافق ظاهرياً ولا يتماشى مع أهداف البنك وشؤونه، ولا علاقة له بأعماله اليومية وبرامج عمله وهو: "السماء الزرقاء، البحار الزرقاء: تلوث الهواء، البلاستيك البحري، وتآكل السواحل في الشرق الوسط وشمال أفريقيا".

 

وتتناول هذه الدراسة ثلاثة تحديات بيئية تواجه دول إقليم الشرق الوسط وشمال أفريقيا، وهي تلوث الهواء، ثم تلوث البحار، وبالتحديد تلوث البحار وتدهورها من المخلفات البلاستيكية التي تقذف في بطنها، وأخيراً تآكل وتعرية السواحل والعوامل والمصادر المزعزعة لاستقرارها وعطائها واستدامتها مع الوقت. وجميع هذه المحاور لا تتم مناقشتها فقط من الزاوية التقليدية المعروفة وهي البعد البيئي البحت والمتعلق بنوعية وتركيز الملوثات في عناصر البيئة المختلفة، أو البعد الصحي وانعكاسات تدهور بيئة الهواء والبحار على الصحة العامة وسلامة الإنسان، وإنما يركز التقرير على جانب مهم جداً، عادة ما يتم نسيانه وتجاهله وعدم التصدي له، بالرغم من أهميته الكبيرة بالنسبة لمتخذ القرار ورجال السياسة والنفوذ، وهو الجانب الاقتصادي. ولذلك يُبحر التقرير بعمق في البعد المالي النقدي لتدهور الهواء والبحار، ويحسب بدقة المردودات الاقتصادية لفساد بيئة إقليم مينا على المجتمع، وكلفة هذا التدهور البيئي من ناحية علاقته بالناتج المحلي الإجمالي(جِي دِي بِي).

 

وبعبارة أخرى فإن هذا التقرير يقدم معلومة مهمة جداً بالنسبة للحكومات التي في أغلب الأحيان تحسب الربح والخسارة بالمال فقط ولا تدخل في الوقت نفسه كلفة تدهور البيئة في حساباتها، فمقياسها في كل شيء هو الجانب المالي النقدي، وهذه المعلومة تقول للحكومات بأن تلوث الهواء ليس مجانياً، وتدهور البحار ليس بدون مردودات مالية تنعكس على ميزانية الحكومات، وفساد مكونات البيئة ليست بدون كلفة مالية تتكبدها الدول وترهق ميزانياتها. فهذه المعلومات الصادرة من البنك الدولي تعتبر مؤشراً حيوياً للدول على ضرورة اعتبار عناصر البيئة الحية وغير الحية موارد وثروات طبيعية، أو رأس المال الطبيعي الأزرق للدول، كالنفط والغاز الطبيعي، ولذلك لا بد من عدم تجاهل تلوثها وتدمير صحتها، ولا بد من إدخال هذا التلوث البيئي ككلفة ومبلغ مالي مباشر أو غير مباشر ضمن ميزانية الدولة ونفقاتها العامة، فهناك قيمة مالية لتلوث الهواء من المصانع ومحطات توليد الكهرباء ووسائل المواصلات، وهناك كلفة مالية لصرف المخلفات السائلة والصلبة في المسطحات المائية أو المياه الجوفية، كما أن هناك قيمة مالية لكل ممارسة تؤدي إلى الإضرار بسلامة البيئة وأمنها الصحي.

 

ومن هذا الجانب فقد توصلت الدراسة إلى كلفة تدهور كل من القضايا الثلاث التي تم تحليلها، وتقييم آثارها المالية النقدية، وهي تلوث الهواء، ورمي المخلفات البلاستيكية في البحار، وتعرية السواحل وتآكلها. أما الكلفة العامة لتلوث الهواء وتدهور البحار والسواحل معاً من الناحية الاقتصادية والحياتية، فقد قَدَّرت الدراسة هذه الكلفة على الدول بنحو 141 بليون دولار سنوياً، أو معدل 2% من الـ جي دي بي الإقليمي، أي أن تدميرنا لبيئتنا يُكلفنا سنوياً هذا المبلغ العظيم. وفي الوقت نفسه فإن هذا الفساد الكبير الذي تشهده دول منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا يقضي مبكراً على حياة قرابة 270 ألف من سكان هذا الإقليم سنوياً، إضافة إلى أن تلوث الهواء وحده يسبب المرض للناس بمعدل 60 يوماً في السنة في حياتهم، مما ينعكس على الإنتاجية والعطاء وبرامج التنمية في هذه الدول.

 

وانطلاقاً من هذه الاستنتاجات فقد طرح التقرير العديد من الحلول لمواجهة تلوث الهواء منها توافر المعلومات الدقيقة حول أنماط تغير نوعية وتركيز الملوثات في الهواء الجوي مع الزمن، فمثل هذه المعلومات تكون عادة شحيحة، أو غير موجودة في بعض الدول، وإن وجدت فهي تُصنَّف بأنها سرية وخاصة ولا تنشر، ويحتفظ في الأدراج المغلقة، ولا يسمح لأحد من الاطلاع عليها، وتقييمها، وتحليلها من أجل معرفة واقع التلوث، ووضع السياسات المستقبلية لجودة الهواء في البلاد. كذلك من الضروري وجود معايير للانبعاث من مصادر تلوث الهواء، سواء أكانت وسائل المواصلات، أو المصانع، أو محطات توليد الكهرباء، وهذه المواصفات إن وجدت تكون مخففة ولينة، وفي أغلب الأحيان تكون صورية ولا تطبق، ولا توجد آلية قوية لتنفيذها ومحاسبة ومعاقبة المخالفين لها، فمعظم المصانع الكبرى الملوثة في الكثير من الدول تمتلكها الحكومات نفسها، ومن الصعب وغير العملي أن تحاسب الحكومة وتعاقب نفسها بالنسبة لمخالفة المواصفات البيئية. وعلاوة على ذلك، فإن على الدول وضع سياسات مستقبلية في مجال الطاقة للتحول التدريجي من أنواع الوقود الناضب والملوث للبيئة مثل الوقود الأحفوري إلى الوقود الأخضر النظيف والمتجدد وغير الملوث للبيئة.             

 

أما بالنسبة للمخلفات البلاستيكية التي تنتج عن سكان إقليم مينا، فقد قدَّرت الدراسة بأن معدل كمية المخلفات البلاستيكية التي يُلقيها الفرد في المسطحات المائية يزيد عن 6 كيلوجرامات في السنة، وهو الأعلى على المستوى الدولي، وكلفة تلويث البحار بالمخلفات البلاستيكية تُقدر بنحو 0.8% من الـ جي دي بي. كما أن التقرير يفيد بأن استمرار هذه الممارسات غير المستدامة يؤدي إلى تفاقم أزمة المخلفات، فكمية المخلفات الإجمالية التي تنتج من المتوقع أن تتضاعف بحلول عام 2050 لتصل إلى 255 مليون طن مقارنة بـ 129 مليون طن في عام 2016، مما يحتم على الدول وضع سياسات متطورة ومتقدمة في مجال الإدارة المتكاملة والمستدامة للمخلفات الصلبة.

 

كما أن التقرير عرَّج على وضع السواحل في هذه الدول من حيث تعريتها وتآكلها وانكماشها مع الوقت لأسباب كثيرة منها عمليات حفر ودفن السواحل، وقطع وإزالة الأشجار الساحلية، حيث إن سواحل إقليم مينا تنكمش بسرعة كبيرة تُعد في المرتبة الثانية على المستوى الدولي، مما لها تأثيرات عظيمة على النظام البيئي الساحلي، والصيد السمكي، والسياحة البحرية الساحلية، وبالتالي على اقتصاد الدول.

 

وختاماً فإن البنك الدولي اقترح أن تقوم الدول بعملية الإصلاح البيئي الشامل من خلال اتخاذ عدة إجراءات اقتصادية، وتبني أدوات مالية محددة لخفض نسبة التلوث في هذه المنطقة، إضافة إلى حماية السواحل من التدهور النوعي والكمي. ومن هذه الأدوات عدم إعطاء القروض، أو عدم تقديم المساعدة والدعم المالي لهذه الدول إلا للمشاريع التي تصب في حماية البيئة ورعاية ثرواتها ومواردها الطبيعية الفطرية، إضافة إلى تشجيع الدول للاستثمار في مشاريع الطاقة المستدامة منخفضة انبعاث الملوثات، أو التي لا تنبعث عنها ملوثات كلياً، أو المشاريع التي تهدف إلى رفع كفاءة إنتاج وتشغيل الطاقة وزيادة فاعليتها من حيث ترشيد الاستهلاك وخفض الانبعاث. كما يحث البنك الدولي جميع الدول على إدخال تلوث البيئة عامة في ميزانية الدولة من ضمن باب الإنفاق، وحساب الكلفة المالية لكل نوع من أنواع التلوث البيئي حالياً، وعند دراسة الجدوى البيئية لأي مشروع تنموي مستقبلي.

 

فالبيئة لم تُعد اليوم قضية هامشية يهتم بها علماء البيئة فقط، وتختص بها الوكالات الأممية البيئية والمنظمات ذات التوجه البيئي، وإنما فرضت نفسها على حدٍ سواء على علماء الاقتصاد وكافة الهيئات والمنظمات المالية الاقتصادية والنقدية التابعة للأمم المتحدة، فكل ما يلوث البيئة يُهدد الاقتصاد والازدهار المالي في الوقت نفسه، ولا يحقق أهداف التنمية المستدامة.

الخميس، 10 فبراير 2022

مرض هافانا الأمريكي المجهول


منذ أن أعلنتْ الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً في أكتوبر 2016 عن وجود حالة صحية مرضية غريبة وغامضة تَعرضَ لها الدبلوماسيون ورجال المخابرات الأمريكيون وبعض أفراد عائلاتهم في السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا، وأنا أُتابع هذه الظاهرة الصحية الفريدة من نوعها للتعرف عن كثب على أسرارها، وخفاياها، وما إذا كانت هذه الظاهرة الصحية المزعومة حقيقية وواقعية، أم أنها نسج من خيال ومكر أجهزة المخابرات الأمريكية لحاجة في نفوسها وهدف خفي يريدون تحقيقه من وراء هذه الادعاءات.

 

وآخر خبر أو تقرير نُشر حول هذه القضية الصحية كان في الثاني من فبراير من العام الجاري، حيث شكَّل الرئيس بايدن في يناير 2021 لجنة من الخبراء من تخصصات متعددة شملت العلوم، والهندسة، والطب تحت إشراف مجتمع المخابرات لدراسة ما أُطلق عليها "الحوادث الصحية الغريبة" (Anomalous Health Incidents)، والذي كان يُطلق عليها سابقاً بظاهرة هافانا(Havana syndrome) بسبب انكشاف أول الحالات في كوبا. وقبيل نشر اللجنة لتقريرها صدر بيان مشترك من أفريل هينز(Avril Haines) مديرة الاستخبارات القومية، وبيل بيرنز(Bill Burns)مدير وكالة الاستخبارات المركزية(سي آي إيه)، كما أُرفق بهذه البيان الملخص التنفيذي لتقرير اللجنة في 2 فبراير.

 

وقد توصلت هذه اللجنة إلى ستة استنتاجات رئيسة، ولكنها غير حاسمة وقوية تفسر هذه الحالات المرضية بمنهجٍ علمي موضوعي ودقيق، بل وربما أثارت لدي الكثير من الشكوك والتساؤلات والغموض من هذا المرض. ومن هذه الاستنتاجات أن الأعراض والمعاناة التي ظهرت على الدبلوماسيين ورجال أجهزة المخابرات في نحو خمسين دولة ويبلغ عددهم نحو 200 أمريكي هي حقيقية وواقعية، كما أفادت اللجنة بأن أعراض المرض الخفي كثيرة، ومختلفة، ومتنوعة ولا توجد قائمة واحدة للأعراض تنطبق على كل الحالات، ولذلك قد تكون هناك عدة أسباب ومصادر تقف وراء ظهورها. فالأعراض التي يشتكي منها المصابون تتلخص في فقدان التوازن، والإحساس بالدوار والدوخة، وألم شديد في الرأس والعينين، والشعور بالتعب والإرهاق الشديدين، وآثار ذهنية وعقلية متعددة ومختلفة، وتلف في خلايا المخ.

ففي بعض الحالات من المحتمل أن تكون الأسباب نفسية واجتماعية ناجمة عن ضغوط العمل وطبيعة المهمات الصعبة والسرية والمعقدة التي يقوم بها بعض الأفراد العاملين في وزارة الخارجية أو أجهزة الاستخبارات.

كما تمخض عن هذا التقرير أن بعض الحالات والأعراض تتطابق مع تعرض الإنسان لذبذبات مباشرة من الأشعة المغناطيسية(pulsed electromagnetic energy) التي تقع في مجال ترددات الراديو( radiofrequency)، وقد تكون سُلطت على هؤلاء الأفراد من مصدر وجهاز خارجي للطاقة، كما أن التعرض للأشعة فوق الصوتية(ultrasound) يمكن أن تُفسر مجموعة أخرى من الحالات المرضية.

 

وعلاوة على هذه الاستنتاجات، فقد جاء أيضاً في الملخص التنفيذي للتقرير المنشور من مكتب مديرة الاستخبارات القومية (Office of the Director of National Intelligence)، استبعاد الأشعة المؤينة أو المواد الكيميائية والحيوية(البيولوجية) من بين الأسباب المحتملة للإصابة بهذا المرض، كما قدَّمت اللجنة سبع توصيات لمتابعة التحقيق في هذه الحالات منها تطوير مؤشرات حيوية لدراسة وتشخيص هذه الحالات المرضية، إضافة إلى استخدام أجهزة تكشف هذه الموجات وتحدد نوعيتها وهويتها.

 

وجدير بالذكر فإن هذا التقرير الأخير لا ينسجم كلياً ولا يتوافق مع التقارير الأخرى الصادرة من أجهزة المخابرات ووزارة الخارجية، بل وفي بعض الحالات وجدتُ تعارضاً وتضارباً في الاستنتاجات، ومنها التقرير المبدئي المنشور من جهاز المخابرات المركزية في العشرين من يناير من العام الجاري، حيث أفاد بأن معظم الحالات لم تكن بسبب عملٍ عدائي مستمر من جهة أجنبية معادية للولايات المتحدة الأمريكية، سواء أكانت روسيا أم دولة أخرى، علماً بأن تقارير وتصريحات سابقة اتهمت روسيا بأنها هي التي قامت بالعمل العدائي باستخدام سلاح خاص يُطلقُ أشعة كهرومغناطيسية في مجال الميكروويف ضد الدبلوماسيين الأمريكيين، حيث حذَّر مدير الـ سي آي إيه، وليم بيرنز روسيا في 24 نوفمبر 2021 من أن تكون لها علاقة بالمرض، وأنها ستواجه تداعيات خطيرة إن وجد بأن لها علاقة ووصف الحادثة بأنها "هجوم".

 

ومنذ عام 2016، أي قبل قرابة ست سنوات والمشاهد والتقارير السرية وغير السرية تُنشر حول هذه القضية ولا يوجد أي تناغم، أو انسجام بينها. وأُقدم نموذجاً من هذه المشاهد، منها تأخر إقلاع طائرة نائبة الرئيس الأمريكي كمالا هاريس في 24 أغسطس 2021 إلى فيتنام بعد تلقي إشعار من مكتبها في هانوي عن ظهور حالات مرضية، كما سجلت حالات في مدينة فيينا، مركز التجسس في أوروبا في الشهر نفسه، وفي الهند أصيب عميل مخابراتي أمريكي بأعراض المرض عند زيارته للهند في 20 سبتمبر 2021، حسب المنشور المحطة الإخبارية الأمريكية سي إن إن، كذلك تم إخلاء مكتب الاستخبارات الأمريكية في صربيا في 29 سبتمبر 2021 بسبب معاناة الموظفين من أعراض المرض بناءً على ما نُشر في صحيفة وال ستريت جورنل، إضافة إلى حالات تم الكشف عنها في مدينة بوجوتا(Bogota) في كولومبيا في 12 أكتوبر.

 

وأما من الجانب التشريعي والسياسي فهناك اهتمام ملحوظ من قبل السلطة التشريعية الممثلة في الكونجرس من جهة ومن السلطة السياسية التنفيذية الممثلة بأعلى سلطة في هرم الجهاز التنفيذي وهو الرئيس الأمريكي نفسه. ففي 21 سبتمبر 2021 وافق مجلس النواب بالإجماع، وهذه من الحالات النادرة أن يكون هناك إجماع في المجلس وموافقة من الحزبين، على قانون هافانا(Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks Act)، حيث وقَّع بايدن على القانون في 8 أكتوبر 2021 وقال متعهداً بإيجاد حل لهذه الحالات: "أنا سعيد بالتوقيع على قانون هافانا من أجل ضمان بأننا نقوم كل ما في وسعنا لمساعدة أفراد الحكومة الأمريكية الذين يعانون من الحالات الصحية الغريبة"، كما أضاف: "مواجهة هذه الحالات هي من الأولويات الرئيسة لإدارتي".

 

فبعد كل هذه الجهود المبذولة لسبر غور هذا المرض الغريب والمجهول مازال الطريق طويلاً أمام الجهات المختصة لتقديم التفسير العلمي حول واقعية ومصداقية هذه الأعراض، وأسبابها، ومصادرها، وهل هي مرض عضوي أم نفسي، وهل هناك جهة أجنبية خارجية تقف وراءها، وما هي دوافعها، إن وجدت؟