الخميس، 10 فبراير 2022

مرض هافانا الأمريكي المجهول


منذ أن أعلنتْ الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً في أكتوبر 2016 عن وجود حالة صحية مرضية غريبة وغامضة تَعرضَ لها الدبلوماسيون ورجال المخابرات الأمريكيون وبعض أفراد عائلاتهم في السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا، وأنا أُتابع هذه الظاهرة الصحية الفريدة من نوعها للتعرف عن كثب على أسرارها، وخفاياها، وما إذا كانت هذه الظاهرة الصحية المزعومة حقيقية وواقعية، أم أنها نسج من خيال ومكر أجهزة المخابرات الأمريكية لحاجة في نفوسها وهدف خفي يريدون تحقيقه من وراء هذه الادعاءات.

 

وآخر خبر أو تقرير نُشر حول هذه القضية الصحية كان في الثاني من فبراير من العام الجاري، حيث شكَّل الرئيس بايدن في يناير 2021 لجنة من الخبراء من تخصصات متعددة شملت العلوم، والهندسة، والطب تحت إشراف مجتمع المخابرات لدراسة ما أُطلق عليها "الحوادث الصحية الغريبة" (Anomalous Health Incidents)، والذي كان يُطلق عليها سابقاً بظاهرة هافانا(Havana syndrome) بسبب انكشاف أول الحالات في كوبا. وقبيل نشر اللجنة لتقريرها صدر بيان مشترك من أفريل هينز(Avril Haines) مديرة الاستخبارات القومية، وبيل بيرنز(Bill Burns)مدير وكالة الاستخبارات المركزية(سي آي إيه)، كما أُرفق بهذه البيان الملخص التنفيذي لتقرير اللجنة في 2 فبراير.

 

وقد توصلت هذه اللجنة إلى ستة استنتاجات رئيسة، ولكنها غير حاسمة وقوية تفسر هذه الحالات المرضية بمنهجٍ علمي موضوعي ودقيق، بل وربما أثارت لدي الكثير من الشكوك والتساؤلات والغموض من هذا المرض. ومن هذه الاستنتاجات أن الأعراض والمعاناة التي ظهرت على الدبلوماسيين ورجال أجهزة المخابرات في نحو خمسين دولة ويبلغ عددهم نحو 200 أمريكي هي حقيقية وواقعية، كما أفادت اللجنة بأن أعراض المرض الخفي كثيرة، ومختلفة، ومتنوعة ولا توجد قائمة واحدة للأعراض تنطبق على كل الحالات، ولذلك قد تكون هناك عدة أسباب ومصادر تقف وراء ظهورها. فالأعراض التي يشتكي منها المصابون تتلخص في فقدان التوازن، والإحساس بالدوار والدوخة، وألم شديد في الرأس والعينين، والشعور بالتعب والإرهاق الشديدين، وآثار ذهنية وعقلية متعددة ومختلفة، وتلف في خلايا المخ.

ففي بعض الحالات من المحتمل أن تكون الأسباب نفسية واجتماعية ناجمة عن ضغوط العمل وطبيعة المهمات الصعبة والسرية والمعقدة التي يقوم بها بعض الأفراد العاملين في وزارة الخارجية أو أجهزة الاستخبارات.

كما تمخض عن هذا التقرير أن بعض الحالات والأعراض تتطابق مع تعرض الإنسان لذبذبات مباشرة من الأشعة المغناطيسية(pulsed electromagnetic energy) التي تقع في مجال ترددات الراديو( radiofrequency)، وقد تكون سُلطت على هؤلاء الأفراد من مصدر وجهاز خارجي للطاقة، كما أن التعرض للأشعة فوق الصوتية(ultrasound) يمكن أن تُفسر مجموعة أخرى من الحالات المرضية.

 

وعلاوة على هذه الاستنتاجات، فقد جاء أيضاً في الملخص التنفيذي للتقرير المنشور من مكتب مديرة الاستخبارات القومية (Office of the Director of National Intelligence)، استبعاد الأشعة المؤينة أو المواد الكيميائية والحيوية(البيولوجية) من بين الأسباب المحتملة للإصابة بهذا المرض، كما قدَّمت اللجنة سبع توصيات لمتابعة التحقيق في هذه الحالات منها تطوير مؤشرات حيوية لدراسة وتشخيص هذه الحالات المرضية، إضافة إلى استخدام أجهزة تكشف هذه الموجات وتحدد نوعيتها وهويتها.

 

وجدير بالذكر فإن هذا التقرير الأخير لا ينسجم كلياً ولا يتوافق مع التقارير الأخرى الصادرة من أجهزة المخابرات ووزارة الخارجية، بل وفي بعض الحالات وجدتُ تعارضاً وتضارباً في الاستنتاجات، ومنها التقرير المبدئي المنشور من جهاز المخابرات المركزية في العشرين من يناير من العام الجاري، حيث أفاد بأن معظم الحالات لم تكن بسبب عملٍ عدائي مستمر من جهة أجنبية معادية للولايات المتحدة الأمريكية، سواء أكانت روسيا أم دولة أخرى، علماً بأن تقارير وتصريحات سابقة اتهمت روسيا بأنها هي التي قامت بالعمل العدائي باستخدام سلاح خاص يُطلقُ أشعة كهرومغناطيسية في مجال الميكروويف ضد الدبلوماسيين الأمريكيين، حيث حذَّر مدير الـ سي آي إيه، وليم بيرنز روسيا في 24 نوفمبر 2021 من أن تكون لها علاقة بالمرض، وأنها ستواجه تداعيات خطيرة إن وجد بأن لها علاقة ووصف الحادثة بأنها "هجوم".

 

ومنذ عام 2016، أي قبل قرابة ست سنوات والمشاهد والتقارير السرية وغير السرية تُنشر حول هذه القضية ولا يوجد أي تناغم، أو انسجام بينها. وأُقدم نموذجاً من هذه المشاهد، منها تأخر إقلاع طائرة نائبة الرئيس الأمريكي كمالا هاريس في 24 أغسطس 2021 إلى فيتنام بعد تلقي إشعار من مكتبها في هانوي عن ظهور حالات مرضية، كما سجلت حالات في مدينة فيينا، مركز التجسس في أوروبا في الشهر نفسه، وفي الهند أصيب عميل مخابراتي أمريكي بأعراض المرض عند زيارته للهند في 20 سبتمبر 2021، حسب المنشور المحطة الإخبارية الأمريكية سي إن إن، كذلك تم إخلاء مكتب الاستخبارات الأمريكية في صربيا في 29 سبتمبر 2021 بسبب معاناة الموظفين من أعراض المرض بناءً على ما نُشر في صحيفة وال ستريت جورنل، إضافة إلى حالات تم الكشف عنها في مدينة بوجوتا(Bogota) في كولومبيا في 12 أكتوبر.

 

وأما من الجانب التشريعي والسياسي فهناك اهتمام ملحوظ من قبل السلطة التشريعية الممثلة في الكونجرس من جهة ومن السلطة السياسية التنفيذية الممثلة بأعلى سلطة في هرم الجهاز التنفيذي وهو الرئيس الأمريكي نفسه. ففي 21 سبتمبر 2021 وافق مجلس النواب بالإجماع، وهذه من الحالات النادرة أن يكون هناك إجماع في المجلس وموافقة من الحزبين، على قانون هافانا(Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks Act)، حيث وقَّع بايدن على القانون في 8 أكتوبر 2021 وقال متعهداً بإيجاد حل لهذه الحالات: "أنا سعيد بالتوقيع على قانون هافانا من أجل ضمان بأننا نقوم كل ما في وسعنا لمساعدة أفراد الحكومة الأمريكية الذين يعانون من الحالات الصحية الغريبة"، كما أضاف: "مواجهة هذه الحالات هي من الأولويات الرئيسة لإدارتي".

 

فبعد كل هذه الجهود المبذولة لسبر غور هذا المرض الغريب والمجهول مازال الطريق طويلاً أمام الجهات المختصة لتقديم التفسير العلمي حول واقعية ومصداقية هذه الأعراض، وأسبابها، ومصادرها، وهل هي مرض عضوي أم نفسي، وهل هناك جهة أجنبية خارجية تقف وراءها، وما هي دوافعها، إن وجدت؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق