الأحد، 20 فبراير 2022

استراتيجية الجيش الأمريكي حول التغير المناخي

  

لم أستغرب عندما قرأتُ بأن مؤسسة أمريكية أمنية بحتة في تخصصاتها، وأهدافها، وبرامجها، وأعمالها اليومية قد دشنت في الثامن من فبراير من العام الجاري استراتيجية خاصة لمواجهة إحدى القضايا البيئية الدولية وهي قضية العصر، قضية التغير المناخي.

 

فقد أصدر الجيش الأمريكي لأول مرة في تاريخه، بل وفي تاريخ جيوش العالم أجمع، بالرغم من هواجسه واهتماماته الأمنية الكثيرة التي لا تنتهي، أول استراتيجية متخصصة تهدف إلى التصدي لتداعيات التغير المناخي وسخونة كوكبنا، وتعمل على اتخاذ الإجراءات الكفيلة لمكافحتها، وخفض درجة تهديداتها ومردوداتها على المجتمع الأمريكي خاصة وعلى الكرة الأرضية وسكانها عامة.

 

فقد تأكد الآن وبعد سنوات من المعاناة والتحديات العقيمة التي واجهها البشر بأن التغير المناخي الذي نشهده الآن ليس ظاهرة طبيعية بحتة، وقضية بيئية خالصة تتمثل في انبعاث بعض الملوثات مثل ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وأكسيد النيتروز، وغيرها من شتى أنواع المصادر الثابتة والمتنقلة إلى الهواء الجوي، وقيام هذه الملوثات مع الزمن بحبس الحرارة في الطبقات العليا من الغلاف الجوي ورفع درجة حرارة الأرض، وإنما لهذه الظاهرة انعكاسات في قطاعات ومجالات كثيرة لم تخطر على بال الإنسان، ولم يفكر فيها أحد، فتداعيات ظاهرة التغير المناخي تخطت وتعدت البعد البيئي، فأثرت بشكلٍ مباشر على الجانب الاقتصادي، والاجتماعي، والصحي، وأخيراً الجانب الأمني المتعلق باستقرار وأمن الحكومات والدول وإشعال فتيل النزاعات والأزمات بينهم، إضافة إلى استدامة عطاء البنية التحتية والمكاسب التنموية التي أقامتها الدول.  

 

ولقد لُدغت الولايات المتحدة الأمريكية مرات كثيرة وبشكلٍ مباشر من جُحر التغير المناخي ومن تداعياتها الكثيرة والمتنوعة التي نزلت على كوكبنا عامة، وبخاصة في الجانب الأمني، مما اضطرها إلى صياغة وتبني استراتيجية وسياسة عامة طويلة الأمد تهدف إلى التقليل من آثارها وخفض مردوداتها على أمن وسلامة المجتمع الأمريكي عامة، فجاءت هذه الاستراتيجية من جهة أمنية مختصة لتواجه هذا التحدي الجديد.

 

وقد بُنيت هذه الاستراتيجية على استنتاجات وتوصيات عدة تقارير تنشرها الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عقد من الزمن حول علاقة التغير المناخي وتداعياته بالجانب الأمني، كان آخرها في 21 أكتوبر 2021، حيث صَدرتْ ثلاثة تقارير في الوقت نفسه تعالج وتقيم العلاقة بين التغير المناخي وأمن الدول واستقرارها على كافة المستويات القومية الأمريكية والدولية على حدٍ سواء، وكان من أهمها التقرير تحت عنوان: "التغيرات المناخية والتحديات المتزايدة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2040: تقديرات المخابرات القومية حول التغير المناخي". وهذه التقارير فريدة من نوعها من حيث أن بعضها صدر من جهات أمنية واستخباراتية، إضافة إلى إجماعها على استنتاجات واحدة تتلخص في الدور المؤثر والكبير للتغير المناخي على الأمن القومي الأمريكي والاستقرار الدولي، إضافة إلى علاقة تداعيات التغير المناخي مع الأمن الداخلي، حيث اعتبرت التقارير التغير المناخي كتهديد حقيقي للأمن القومي، كما توصلت هذه التقارير إلى استنتاج آخر هام هو ضرورة إدخال وضم البعد المتعلق بالتغير المناخي وتداعيته في الاستراتيجيات والسياسات الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية، إضافة إلى جعل التغير المناخي محور سياسات الأمن القومي الأمريكي والعمود الفقري لرسم الاستراتيجيات الأمنية المستقبلية.

 

وقد صدرت هذه الاستراتيجية من مكتب مساعد وزيرة الجيش للتركيبات، والطاقة، والبيئة، تحت عنوان "الاستراتيجية المناخية لجيش الولايات المتحدة"، حيث كَتبتْ وزيرة الجيش كريستي ورمث(Christine Wormuth) في مقدمة وثيقة الاستراتيجية قائلة: "التغير المناخي يهدد الأمن الأمريكي ويغير الخارطة الجيواستراتيجية كما نعرفها. فبالنسبة للجنود العاملين اليوم في بيئات درجة حرارتها مرتفعة، ويكافحون الحرائق، ويساعدون عند نزول الأعاصير، فالتغير المناخي ليس ببعيد، فهو حقيقة، والآن حان الوقت لمواجهة التغير المناخي. تأثيرات التغير المناخي بدت واضحة على شبكة الإمداد، تدمير البنية التحتية، وزيادة المخاطر على الجنود وأسرهم بسبب الكوارث الطبيعية والمناخ الشديد. الجيش يجب أن يتكيف مع هذه التغيرات ويعمل على خفض انبعاث غازات الاحتباس الحراري من أجل تقليل المخاطر المناخية، وإذا لم نتخذ الإجراءات اللازمة الآن فإن المخاطر ستتفاقم مع كل سنة".

 

كما قال وزير الدفاع لويد أوستن(Lloyd Austin) في الوثيقة المنشورة في الأول من سبتمبر 2021 تحت عنوان: "خطة التكيف المناخية": "نحن نواجه شتى أنواع التهديدات أثناء عملنا، والقليل منها يستحق أن نُطلق عليها بالتهديدات الوجودية. الأزمة المناخية...التغير المناخي يجعل عالمنا أقل أمناً ويجب أن نفعل شيئاً الآن".

 

وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تحقيق ما عجزت عن تحقيقه الحكومة الأمريكية منذ عشرات السنين، وهو خفض الانبعاث بنسبة 50% بحلول عام 2030، وأخيراً بلوغ الانبعاث الصفري للغازات المسؤولة عن التغير المناخي وسخونة الأرض والمعروفة بغازات الاحتباس الحراري أو غازات الدفيئة بحلول عام 2050. ويتم تحقيق هذا الهدف الطموح جداً من خلال تنفيذ عدة إجراءات واتباع آليات محددة منها رفع كفاءة الوقود المستخدم من قبل الجيش، والتحول من الوقود الأحفوري غير المتجدد والملوث للبيئة إلى الوقود النظيف غير الناضب، مثل استخدام الآليات والسيارات الكهربائية، إضافة إلى تحديث وتحسين إنتاج الطاقة، وتخزين الطاقة في البطاريات، وإدارة الأرض بطرقة مستدامة من خلال حماية الأراضي الخضراء وتأهيلها لتقوم بدورها في امتصاص الملوثات، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، المتهم الرئيس في إحداث التغير المناخي. كما تعمل هذه الاستراتيجية على تطوير وتكييف البنية التحتية للوزارة من قواعد عسكرية برية، وبحرية، وجوية لتكون أكثر وصلابة واستقرار وثبات في مواجهة تهديدات ومخاطر تداعيات التغير المناخي.

 

وفوائد هذه الاستراتيجية الخاصة بمواجهة التغير المناخي لا تنعكس على الولايات المتحدة فحسب وإنما على الكرة الأرضية برمتها وعلى شعوب العالم أجمع. فالانبعاثات التي تنتج عن أنشطة الجيش الأمريكي وحده تساوي في حجمها انبعاثات الكثير من دول العالم مجتمعة، ولذلك خفض نسبتها ينعكس إيجاباً على الجميع في كل دول العالم. كما أن هذه الاستراتيجية الأولى من نوعها على المستوى الدولي تشجع حكومات العالم وتحفز المؤسسات الأمنية وغير الأمنية على وضع مثل هذه الاستراتيجية وتنفيذها على أرض الواقع حماية لكوكبنا وسكان الأرض من إنسان، وحيوان، ونبات من تداعيات هذه المشكلة العصيبة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق