الخميس، 17 فبراير 2022

ما علاقة البنك الدولي بتلوث الهواء والبحار في الشرق الوسط؟

 

يعتبر البنك الدولي إحدى الوكالات المالية المتخصصة التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة، ويهدف أساساً إلى تقديم الدعم المالي والتقني للدول النامية الفقيرة التي تحتاج إلى مثل هذا النوع من المساعدات، فيُقدم البنك القروض، والائتمان، والاستشارات المالية، وغيرهما من طرق وأنواع المساعدات المالية.

 

ولكن ما علاقة البنك المعني فقط بتقديم الدعم المالي للدول المحتاجة بهموم البيئة وشؤونها؟ وما علاقة البنك وهو مؤسسة مالية متخصصة بتلوث الهواء وتلوث البحار حتى ينشر تقريراً خاصاً ومفصلاً بهذا الشأن البيئي، ويحمل في محتواه الهموم والقضايا البيئية العامة التي هي من المفروض أن تكون من اختصاص هيئات ووكالات الأمم المتحدة الأخرى، مثل برنامج الأمم المتحدة للبيئة؟

 

فهذا التقرير الصادر من البنك في السابع من فبراير يأتي ضمن سلسلة تقارير حول التنمية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو إقليم مِينا(MENA)، ونُشر تحت عنوان لا يتوافق ظاهرياً ولا يتماشى مع أهداف البنك وشؤونه، ولا علاقة له بأعماله اليومية وبرامج عمله وهو: "السماء الزرقاء، البحار الزرقاء: تلوث الهواء، البلاستيك البحري، وتآكل السواحل في الشرق الوسط وشمال أفريقيا".

 

وتتناول هذه الدراسة ثلاثة تحديات بيئية تواجه دول إقليم الشرق الوسط وشمال أفريقيا، وهي تلوث الهواء، ثم تلوث البحار، وبالتحديد تلوث البحار وتدهورها من المخلفات البلاستيكية التي تقذف في بطنها، وأخيراً تآكل وتعرية السواحل والعوامل والمصادر المزعزعة لاستقرارها وعطائها واستدامتها مع الوقت. وجميع هذه المحاور لا تتم مناقشتها فقط من الزاوية التقليدية المعروفة وهي البعد البيئي البحت والمتعلق بنوعية وتركيز الملوثات في عناصر البيئة المختلفة، أو البعد الصحي وانعكاسات تدهور بيئة الهواء والبحار على الصحة العامة وسلامة الإنسان، وإنما يركز التقرير على جانب مهم جداً، عادة ما يتم نسيانه وتجاهله وعدم التصدي له، بالرغم من أهميته الكبيرة بالنسبة لمتخذ القرار ورجال السياسة والنفوذ، وهو الجانب الاقتصادي. ولذلك يُبحر التقرير بعمق في البعد المالي النقدي لتدهور الهواء والبحار، ويحسب بدقة المردودات الاقتصادية لفساد بيئة إقليم مينا على المجتمع، وكلفة هذا التدهور البيئي من ناحية علاقته بالناتج المحلي الإجمالي(جِي دِي بِي).

 

وبعبارة أخرى فإن هذا التقرير يقدم معلومة مهمة جداً بالنسبة للحكومات التي في أغلب الأحيان تحسب الربح والخسارة بالمال فقط ولا تدخل في الوقت نفسه كلفة تدهور البيئة في حساباتها، فمقياسها في كل شيء هو الجانب المالي النقدي، وهذه المعلومة تقول للحكومات بأن تلوث الهواء ليس مجانياً، وتدهور البحار ليس بدون مردودات مالية تنعكس على ميزانية الحكومات، وفساد مكونات البيئة ليست بدون كلفة مالية تتكبدها الدول وترهق ميزانياتها. فهذه المعلومات الصادرة من البنك الدولي تعتبر مؤشراً حيوياً للدول على ضرورة اعتبار عناصر البيئة الحية وغير الحية موارد وثروات طبيعية، أو رأس المال الطبيعي الأزرق للدول، كالنفط والغاز الطبيعي، ولذلك لا بد من عدم تجاهل تلوثها وتدمير صحتها، ولا بد من إدخال هذا التلوث البيئي ككلفة ومبلغ مالي مباشر أو غير مباشر ضمن ميزانية الدولة ونفقاتها العامة، فهناك قيمة مالية لتلوث الهواء من المصانع ومحطات توليد الكهرباء ووسائل المواصلات، وهناك كلفة مالية لصرف المخلفات السائلة والصلبة في المسطحات المائية أو المياه الجوفية، كما أن هناك قيمة مالية لكل ممارسة تؤدي إلى الإضرار بسلامة البيئة وأمنها الصحي.

 

ومن هذا الجانب فقد توصلت الدراسة إلى كلفة تدهور كل من القضايا الثلاث التي تم تحليلها، وتقييم آثارها المالية النقدية، وهي تلوث الهواء، ورمي المخلفات البلاستيكية في البحار، وتعرية السواحل وتآكلها. أما الكلفة العامة لتلوث الهواء وتدهور البحار والسواحل معاً من الناحية الاقتصادية والحياتية، فقد قَدَّرت الدراسة هذه الكلفة على الدول بنحو 141 بليون دولار سنوياً، أو معدل 2% من الـ جي دي بي الإقليمي، أي أن تدميرنا لبيئتنا يُكلفنا سنوياً هذا المبلغ العظيم. وفي الوقت نفسه فإن هذا الفساد الكبير الذي تشهده دول منطقة الشرق الوسط وشمال أفريقيا يقضي مبكراً على حياة قرابة 270 ألف من سكان هذا الإقليم سنوياً، إضافة إلى أن تلوث الهواء وحده يسبب المرض للناس بمعدل 60 يوماً في السنة في حياتهم، مما ينعكس على الإنتاجية والعطاء وبرامج التنمية في هذه الدول.

 

وانطلاقاً من هذه الاستنتاجات فقد طرح التقرير العديد من الحلول لمواجهة تلوث الهواء منها توافر المعلومات الدقيقة حول أنماط تغير نوعية وتركيز الملوثات في الهواء الجوي مع الزمن، فمثل هذه المعلومات تكون عادة شحيحة، أو غير موجودة في بعض الدول، وإن وجدت فهي تُصنَّف بأنها سرية وخاصة ولا تنشر، ويحتفظ في الأدراج المغلقة، ولا يسمح لأحد من الاطلاع عليها، وتقييمها، وتحليلها من أجل معرفة واقع التلوث، ووضع السياسات المستقبلية لجودة الهواء في البلاد. كذلك من الضروري وجود معايير للانبعاث من مصادر تلوث الهواء، سواء أكانت وسائل المواصلات، أو المصانع، أو محطات توليد الكهرباء، وهذه المواصفات إن وجدت تكون مخففة ولينة، وفي أغلب الأحيان تكون صورية ولا تطبق، ولا توجد آلية قوية لتنفيذها ومحاسبة ومعاقبة المخالفين لها، فمعظم المصانع الكبرى الملوثة في الكثير من الدول تمتلكها الحكومات نفسها، ومن الصعب وغير العملي أن تحاسب الحكومة وتعاقب نفسها بالنسبة لمخالفة المواصفات البيئية. وعلاوة على ذلك، فإن على الدول وضع سياسات مستقبلية في مجال الطاقة للتحول التدريجي من أنواع الوقود الناضب والملوث للبيئة مثل الوقود الأحفوري إلى الوقود الأخضر النظيف والمتجدد وغير الملوث للبيئة.             

 

أما بالنسبة للمخلفات البلاستيكية التي تنتج عن سكان إقليم مينا، فقد قدَّرت الدراسة بأن معدل كمية المخلفات البلاستيكية التي يُلقيها الفرد في المسطحات المائية يزيد عن 6 كيلوجرامات في السنة، وهو الأعلى على المستوى الدولي، وكلفة تلويث البحار بالمخلفات البلاستيكية تُقدر بنحو 0.8% من الـ جي دي بي. كما أن التقرير يفيد بأن استمرار هذه الممارسات غير المستدامة يؤدي إلى تفاقم أزمة المخلفات، فكمية المخلفات الإجمالية التي تنتج من المتوقع أن تتضاعف بحلول عام 2050 لتصل إلى 255 مليون طن مقارنة بـ 129 مليون طن في عام 2016، مما يحتم على الدول وضع سياسات متطورة ومتقدمة في مجال الإدارة المتكاملة والمستدامة للمخلفات الصلبة.

 

كما أن التقرير عرَّج على وضع السواحل في هذه الدول من حيث تعريتها وتآكلها وانكماشها مع الوقت لأسباب كثيرة منها عمليات حفر ودفن السواحل، وقطع وإزالة الأشجار الساحلية، حيث إن سواحل إقليم مينا تنكمش بسرعة كبيرة تُعد في المرتبة الثانية على المستوى الدولي، مما لها تأثيرات عظيمة على النظام البيئي الساحلي، والصيد السمكي، والسياحة البحرية الساحلية، وبالتالي على اقتصاد الدول.

 

وختاماً فإن البنك الدولي اقترح أن تقوم الدول بعملية الإصلاح البيئي الشامل من خلال اتخاذ عدة إجراءات اقتصادية، وتبني أدوات مالية محددة لخفض نسبة التلوث في هذه المنطقة، إضافة إلى حماية السواحل من التدهور النوعي والكمي. ومن هذه الأدوات عدم إعطاء القروض، أو عدم تقديم المساعدة والدعم المالي لهذه الدول إلا للمشاريع التي تصب في حماية البيئة ورعاية ثرواتها ومواردها الطبيعية الفطرية، إضافة إلى تشجيع الدول للاستثمار في مشاريع الطاقة المستدامة منخفضة انبعاث الملوثات، أو التي لا تنبعث عنها ملوثات كلياً، أو المشاريع التي تهدف إلى رفع كفاءة إنتاج وتشغيل الطاقة وزيادة فاعليتها من حيث ترشيد الاستهلاك وخفض الانبعاث. كما يحث البنك الدولي جميع الدول على إدخال تلوث البيئة عامة في ميزانية الدولة من ضمن باب الإنفاق، وحساب الكلفة المالية لكل نوع من أنواع التلوث البيئي حالياً، وعند دراسة الجدوى البيئية لأي مشروع تنموي مستقبلي.

 

فالبيئة لم تُعد اليوم قضية هامشية يهتم بها علماء البيئة فقط، وتختص بها الوكالات الأممية البيئية والمنظمات ذات التوجه البيئي، وإنما فرضت نفسها على حدٍ سواء على علماء الاقتصاد وكافة الهيئات والمنظمات المالية الاقتصادية والنقدية التابعة للأمم المتحدة، فكل ما يلوث البيئة يُهدد الاقتصاد والازدهار المالي في الوقت نفسه، ولا يحقق أهداف التنمية المستدامة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق