الخميس، 3 فبراير 2022

استراتيجية الإدارة المتكاملة لمخلفات دبي


نَشر ولي عهد دبي حمدان بن محمد آل مكتوم ورئيس المجلس التنفيذي لدبي تغريدة في 27 يناير من العام الجاري جاء فيها: "نحن أيضاً اعتمدنا استراتيجية متكاملة لإدارة النفايات 2021 إلى 2041 بميزانية 74.5 بليون دولار، ومساهمة القطاع الخاص تبلغ 70.5 بليون، وهدفنا هو تشجيع الابتكار في إدارة النفايات، التدوير والتحويل للطاقة".

 

وهذه التغريدة شدتني كثيراً واستوقفتني لعلاقتها المباشرة بهمومي اليومية، وشؤوني العملية الأكاديمية في مجال البيئة عامة وإدارة المخلفات بكافة أنواعها وأشكالها عامة، فمثل هذه الأخبار والتطورات المتعلقة بوضع استراتيجيات وسياسات طويلة المدى في قطاع المخلفات في بلادنا تثلج صدري وتفرحني كثيراً لأنها تُعتبر مؤشرات عملية واقعية على تقدم وتطور وعمق فكرنا وثقافتنا في إدارة المخلفات عامة، ومخلفات المنازل أو القمامة المنزلية عامة.

 

ففي العقود الماضية كُنا نعتبر التعامل مع المخلفات من القضايا البسيطة الهامشية غير العلمية وغير المتخصصة التي تسند إلى أي قسم عام غير مختص في البلديات، ولذلك كانت لا تحتاج إلى رؤية علمية شاملة ودراسات معمقة ومستفيضة ونظرة استراتيجية متكاملة بعيدة المدى، فلا داعي لسياسات متقدمة تقنن عملية إدارتها والتعامل معها في كافة مراحلها وعمرها، ولذلك بالفعل لم تكن هناك سياسة منهجية علمية ثاقبة وواضحة تطبق في الواقع العملي الميداني عند التعامل مع القمامة المنزلية على سبيل المثال، فالأسلوب الوحيد الشائع والمعروف الذي كان يُنفذ في الواقع العملي هو ما أُطلقُ عليه "خُذوه فغُلوه"، أي جمع القمامة من المنازل والمتاجر والمجمعات بأية طريقة كانت، ثم نقلها مباشرة إلى موقع التخلص من المخلفات، والتي كانت في بعض الحالات قريبة من المجمعات السكنية والعمرانية، ودفنها بأي أسلوب سهل وعملي غير مكلف ويمكن أن يقوم به أي عامل أُمي وغير فني ومدرب على إجراءات وطرق دفن المخلفات، إضافة إلى عدم استخدام الآليات والمعدات المتطورة الحديثة المتخصصة في القيام بعملية الدفن الصحي.

 

ولكن هذه الممارسات العشوائية القديمة في إدارة المخلفات البلدية الصلبة أصبحت الآن في بعض دول الخليج جزءاً من الماضي، فعملت هذه الدول على وضع خطط واستراتيجيات عِلمية عَملية في كيفية الإدارة المستدامة والمتكاملة للمخلفات، كما هو الحال على سبيل المثال بالنسبة لإمارة دبي.

 

كذلك من المؤشرات التي استخلص من مثل هذه الاستراتيجيات والخطط المستقبلية في التعامل مع المخلفات هي النظرة الجديدة إلى القمامة خاصة والمخلفات عامة، وهي اعتبار المخلفات ثروة قيِّمة، ومواد خام يمكن أن تقوم عليها مختلف أنواع الصناعات، وتوفر الوظائف الدائمة لآلاف الناس، وتحقق في الوقت أرباحاً مالية، وليس كما هو في السابق بأن القمامة البلدية مخلفات لا قيمة لها، ولا فائدة اقتصادية من ورائها، ولا جدوى استثمارية منها، ولذلك كان الحل الوحيد هو الدفن.

 

فهناك الكثير من التقنيات الموجودة تجارياً في السوق الآن للاستفادة من القمامة وإنشاء مصانع حديثة تقوم في التخلص منها، أو إعادة استعمالها، أو تدويرها، وكل تقنية لها سلبياتها وايجابياتها من الناحية التقنية، والاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية، وعلى كل دولة اختيار ما يتناسب معها من الناحية الاقتصادية، ومن ناحية الظروف الجغرافية والمناخية ومساحة الدولة. فمن الطرق الشائعة على المستوى العالمي، والتي دعوتُ إلى استخدامها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، هي طريقة حرق مكونات المخلفات البلدية الصلبة القابلة للاشتعال والاستفادة من الطاقة العالية والحرارة المرتفعة الناجمة عن الحرق لتوليد الكهرباء. ولهذه الطريقة إيجابيات منها التخلص من الجزء الأكبر من القمامة العضوية وتوليد الكهرباء من عملية الحرق. وهذه التقنية مفيدة جداً للدول التي تعاني من ضيق المساحة وشح الأراضي وندرة المساحات التي تصلح لعملية الدفن، مثل البحرين، فالأراضي الضيقة الموجودة من الأولى والأجدى أن تُستخدم للمشاريع التنموية والعمرانية والسياحية والصناعية بدلاً من هدرها وعدم الاستفادة منها في عملية دفن المخلفات.

 

كذلك من التقنيات التي تؤكد بأن المخلفات ثروة حقيقة متجددة وغير ناضبة ويجب استغلالها والاستفادة منها هي عمليات إعادة الاستعمال وتدوير جميع مكونات المخلفات. فعلى سبيل المثال، يمكن تحويل الجزء العضوي من المخلفات، وبالتحديد المواد الغذائية القابلة للتحلل الحيوي، إما إلى سماد عضوي مخصب للتربة الزراعية والمعروف بالكمبوست باستخدام تقنية التحلل الهوائي للمخلفات، أو تحويلها إلى غاز الميثان، وهو المكون الرئيس للغاز الطبيعي، باستخدام تقنية التحلل أو الهضم اللاهوائي للجزء العضوي من القمامة. وفي الوقت نفسه يمكن تدوير الأجزاء الأخرى من المخلفات البلدية مثل البلاستيك، والورق، والمعادن بمختلف أنواعها، إضافة إلى المخلفات الإلكترونية الخطرة التي تزيد وتتفاقم أحجامها يوماً بعد يوم.

 

وعلاوة على ذلك كله، فإن من المؤشرات المهمة جداً التي وردت في استراتيجية الإدارة المتكاملة للمخلفات هي تحديد الميزانية المخصصة لتنفيذ هذه الاستراتيجية، مما يؤكد جدية تطبيقها على أرض الواقع، كما يرفع من نسبة نجاحها واستدامتها. كذلك من النقاط الأساسية التي تضمن استدامة هذه الاستراتيجية هي إشراك القطاع الخاص مع القطاع الحكومي في تحمل مسؤولياته المجتمعية، والاستثمار في ثروة المخلفات في الوقت نفسه، والتي تتمثل في تنفيذ وتمويل بعض المشاريع المتعلقة بإدارة المخلفات، وبالأخص من ناحية إنشاء مصانع لتدوير وإعادة استعمال بعض مكونات هذه المخلفات، ومشاريع أخرى ذات جدوى اقتصادية وبيئية وصحية متعلقة بإدارة المخلفات.

 

وأخيراً من النقاط المهمة في أية استراتيجية متكاملة للمخلفات، والتي عادة ما يتم تجاهلها، أو نسيانها، أو عدم إعطائها الأهمية المطلوبة هي دراسة كافة المراحل المتعلقة بالمخلفات، وليست المرحلة النهائية من عُمر هذه المخلفات فقط، وهي مرحلة التخلص النهائي والدفن. فالاستراتيجية الشاملة والمتكاملة والمستدامة تتطلب النظر بدقة ومنهجية علمية إلى كافة مراحل إنتاج المخلفات، أي من المهد إلى اللحد، بدءاً بالبحث عن أفضل الممارسات والطرق البيئية والصحية والاقتصادية في كيفية منع وخفض إنتاج المخلفات من مصادرها، أي من المنزل، والمتجر، والمطعم، وغيرها، ثم النظر علمياً إلى كيفية نقل هذه المخلفات بعد جمعها من مصادرها والسيارات والآليات الأخرى المستخدمة لهذا الغرض، ثم عدد أيام الجَمْع، هل هي كل يوم، أو مرة كل يومين، وهكذا، ثم خط النقل هل سيكون مباشرة إلى موقع التخلص، أو عمل محطة تحويل. فكل هذه المراحل المتعددة يجب أن نقف عندها وندرسها ونتخذ القرار المستدام المناسب لظروفنا، وخصوصيتنا بيئياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وجغرافياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق