الأحد، 29 نوفمبر 2020

الاقتصاد الدائري للكربون في كلمة خادم الحرمين الشريفين

أكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية في الكلمة التي ألقاها في قمة قادة دول مجموعة العشرين على تبني نموذجٍ اقتصادي مستدام يسعى إلى تحقيق الازدهار والتنمية الاقتصادية دون المساس بحقوق وحرمات البيئة، وبالتحديد في قضية مواجهة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض من خلال إدارة الانبعاثات التي أدت إلى بروز هذه القضية على المسرح الدولي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ولكن دون أن ينجح المجتمع الدولي إلى الوصول إلى الحل الإلزامي المشترك لكافة دول العالم. 

فقد دعا خادم الحرمين الشريفين إلى تبني ما يُطلق عليه بالاقتصاد الدائري للكربون، حيث قال في كلمته: "يشرفني أن أرحب بكم في الفعالية المصاحبة الثانية حول الحفاظ على كوكب الأرض في إطار الاقتصاد الدائري للكربون"، كما أضاف قائلاً: "إن الحفاظ على كوكب الأرض يعتبر ذا أهمية قصوى، وفي ظل زيادة الانبعاثات الناتجة عن النمو الاقتصادي، علينا أن نكون رواداً في تبني منهجيات مستدامة وواقعية ومجدية التكلفة لتحقيق الأهداف المناخية الطموحة. ومن هذا المنطلق، شجعت رئاسة المملكة إطار الاقتصاد الدائري للكربون التي يمكن من خلالها إدارة الانبعاثات بنحو شامل ومتكامل بهدف تخفيف حدة آثار التحديات المناخية، وجعل أنظمة الطاقة أنظف وأكثر استدامة، وتعزيز أمن واستقرار أسواق الطاقة، والوصول إليها. حيث سيتسنى للدول تبني وتعزيز التقنيات التي تتناسب مع المسارات التي تختارها الدول لتحولات الطاقة وذلك من خلال ركائز الاقتصاد الدائري للكربون، حيث تشكل هذه الركائز مجتمعة نهجاً شاملاً ومتكاملاً وواقعياً يتيح الاستفادة من جميع خيارات إدارة الانبعاثات في جميع القطاعات". كذلك أكد العاهل السعودية في خطابه بأن المملكة ستقوم بإطلاق البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون لترسيخ وتسريع الجهود الحالية لتحقيق الاستدامة بأسلوب شامل، ودعا في الوقت نفسه الدول الأخرى لتنفيذ النهج نفسه قائلاً: "ندعو الدول الأخرى للعمل معنا لتحقيق أهداف هذا البرنامج المتمثلة في التصدي للتغير المناخي مع الاستمرار في تنمية الاقتصاد وزيادة رفاه الإنسان. وفي عام 2012 أطلقنا البرنامج الوطني لكفاءة الطاقة، في جهود تقليل الانبعاثات ضمن مبدأ الاقتصاد الدائري للكربون".

وفي الحقيقة فإن هذا الطرح الجديد لفكرة ونموذج الاقتصاد الدائري يأتي في مرحلة تاريخية دقيقة وخطرة هزَّت اقتصاديات دول العالم أجمع بدون استثناء، الغنية منها والفقيرة، نتيجة لانكشاف وباء كورونا على المشهد الدولي منذ أكثر من عام، وهذا النموذج والمدخل الجديد للتنمية يختلف عن النمط الاقتصادي الاستهلاكي القديم الذي أكل عليه الدهر وشرب وعفا عليه الزمن، وأثبت عدم فاعليته في تحقيق التنمية المستدامة على المستوى الدولي ومستوى دول العالم على حدة، فقد حقق نمواً اقصادياً معوقاً دمر قطاعات أخرى حيوية يعتمد عليها الاقتصاد نفسه، وهو القطاع البيئي والاجتماعي، ولذلك يُطلق على هذا النوع بالاقتصاد "الخطي المستقيم"(linear model)، والذي ينجم عنه عدم استخدام الموارد بشكل رشيد وفاعل ومجدي اقتصادياً، كما يؤدي هذا النمط الاقتصادي إلى سرعة نضوب الموارد والثروات البيئة الحية وغير الحية وتدهورها نوعياً وارتفاع نسبة تلوثها، فهذا النموذج الاقتصادي يهمل الجانب البيئي عند القيام بالأعمال التنموية في جميع القطاعات.

ولذلك اضطر المجتمع البشري إلى طرح رؤية اقتصادية جديدة متوازنة ومعتدلة، تتمتع بأخلاقيات عالية وسامية، وتتحمل مسؤولية مشتركة عن الجميع لهذا الجيل الذي نحن فيه الآن وللأجيال المستقبلية، فنُنمي دون أن نُدمر، ونُعمِّر بدون أن نُفسد، ويعم الخير والعيش الرغيد على الجميع وليس دولاً بعينها، أو فئات قليلة من المجتمع. فكانت ولادة رؤية اقتصادية جديدة للنمو تأخذ في الاعتبار هموم ومتطلبات الدول المتقدمة ورجال الأعمال ورجال السياسة والنفوذ والاقتصاد جنباً إلى جنب مع هموم واحتياجات الدول الفقيرة والنامية والشعوب المستضعفة للنمو، وهذه الفكرة هي "الاقتصاد الدائري" في جميع القطاعات التنموية ، وهي نموذج أكثر استدامة وشمولية، وأشد حفاظاً على الثروات البيئية من الناحيتين النوعية والكمية، ويحقق في الوقت نفسه الحياة الكريمة لكافة فئات وطبقات المجتمع، فجاءت فكرة "الاقتصاد الدائري"( Circular Economy).

وأحد التطبيقات التي يرُكز عليها هذا النمط الاقتصادي هو قضية التغير المناخي الدولية التي دوخت العلماء ورجال السياسة منذ عقود طويلة. فالاقتصاد الدائري الكربوني، أو منخفض الكربون في مجال التغير المناخي يستند إلى أربعة أركان رئيسة. فأما الركن الأول هو خفض وتقليل الانبعاثات المسؤولة عن إحداث ظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من أية عملية احتراق للوقود الأحفوري في وسائل النقل والمواصلات، وفي محطات توليد الكهرباء، وفي المصانع، ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال تبني مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة المياه، والطاقة العضوية، والطاقة النووية، إضافة إلى تحسين وتطوير إنتاجية الطاقة ورفع كفاءتها التشغيلية. كما أن ترشيد وتقنين استهلاك الطاقة بشكلٍ عام يؤدي إلى خفضٍ مشهود في أحجام الغازات المعنية بارتفاع حرارة كوكبنا.

 

والركن الثاني والثالث للاقتصاد الدائري الكربوني فيتمثلان في إعادة استخدام وتدوير الانبعاثات الناجمة عن مصادرها التي لا تعد ولا تحصى، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، وذلك من خلال احتجازه من هذه المصادر وتخزينه، ثم الاستفادة منه كمادة خام لعمليات صناعية جديدة، مثل إنتاج الأمونيا والميثانول واليوريا.

 

وأما الركن الرابع والأخير فيختص بإزالة والتخلص من هذه الانبعاثات المسببة لسخونة الأرض بعد ولوجها إلى الهواء الجوي من خلال امتصاصها من قبل الغابات والأراضي الخضراء في البر والبحر.

 

وجدير بالذكر فإن تطبيقات الاقتصاد الدائري ليست في مجال التغير المناخي فحسب، وإنما في كافة القطاعات التنموية الأخرى التي تفرز ملوثات ومخلفات وتضر بموارد البيئة وثرواتها الحية وغير الحية، فهي تعتمد على إدارة المنتجات من "المهد إلى اللحد"، منذ أن يُنتج في المصانع إلى أن ينتهي به المطاف إلى القبر، ففي كل هذه المراحل من دورة حياة المنتج علينا أن نطبق أداة الاقتصاد الدائري، ونضمن بأن للبيئة رأي وموقف في القرارات التي تُتخذ في التعامل معها، بحيث تكون قرارات مستدامة لنا وللأجيال اللاحقة، فنُوَّرث الأجيال القادمة بيئة سليمة وصحية، وموارد نابضة بالحياة، وقادرة على العطاء والإنتاج.

 

الأحد، 22 نوفمبر 2020

المخلفات في بيئتنا لا تموت(2 من 2)

في المقال السابق ركزتُ على أن المخلفات المشعة إذا دخلت إلى مكونات بيئتنا فإنها ستبقى فيها خالدة مخلدة لا تموت سريعاً، فبعضها يبقى نابضاً بالحياة آلاف السنين، وهو ينشر سمومه المشعة في البيئة ومكوناتها الحية، ثم أخيراً ولو بعد حين، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة يصل إلى أعضاء جسم الإنسان، فيرمي به في شباك الأمراض المستعصية على العلاج.

 

وهناك ملوثات أخرى غابرة تجاوزها الزمن، وكُنا نُعدها منذ سنوات بأنها قد انتهت من مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وأننا فعلياً قد تخلصنا منها كلياً منذ مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، فلم يعد لها أي وجود معنا. ولكن كما أكدتُ لكم بأن المخلفات لا تموت، وإنما تظهر علينا كالأشباح عندما يحل الظلام الكالح فتفسد علينا حياتنا، وتظل معنا كالحلم المزعج، والكابوس المرعب الذي يجثم فوق صدورنا ويعكر نفوسنا.

وإليكم قصة أحد هذه الملوثات، وهو من المنتجات الشهيرة التي صنعها الإنسان في مختبره ونال على ذلك جائزة نوبل للسلام في عام 1948، وهو العالم السويسري بول مولر(Paul Hermann Müller)، حيث اكتشف أشهر مبيد حشري صنعة الإنسان في تاريخه الطويل، ومن أكثرها فاعلية في القضاء على الآفات والحشرات المرضية التي كانت تدمر مجتمعات بأكملها، وهو المعروف بـ دِي دِي تِي.

فهذا المبيد الحشري السحري نظراً لفاعليته في القضاء على الأمراض التي كانت تقضي على ملايين البشر وعلى رأسها الملاريا، إضافة إلى حماية المحاصيل الزراعية من شر الآفات والحشرات الضارة التي كانت تلتهم هذه المحاصيل الغذائية، فقد تم استخدامه في كل أنحاء العالم بدون استثناء وبشكلٍ عشوائي فيه الكثير من الإسراف والإفراط، فكان هذا المبيد يُرش من فوق بالطائرات فيلوث مساحات جغرافية واسعة من الأرض، من التربة الزراعية وغير الزراعية، كما كان يرش من الشاحنات الكبيرة في الطرقات الواسعة والحدائق العامة، إضافة إلى الرش اليدوي الذي عاصرته شخصياً عندما كنتُ طفلاً صغيراً، حيث كان يأتي عامل الصحة فيرش البواليع، والمنازل، والأسواق، وأماكن تجمع المياه والقمامة، كما أننا كنا نحن الأطفال نأخذ حصتنا من هذا المبيد عندما كان يرش العامل علينا ونحن نلعب أمامه.  

فمن الواضح إذن أن هذا المبيد دخل في بيئتنا من أوسع أبوابها، ونحن وبدون عقلانية ودراسة معمقة وشاملة لهذا المبيد، أدخلناه طواعية وبأيدينا في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، حتى إن هذا المبيد مع الوقت تم اكتشافه وبمستويات مخيفة في المحاصيل الزراعية التي نأكلها جميعاً، وفي السلسلة الغذائية البحرية، بدءاً بالكائنات النباتية والحيوانية الصغيرة العالقة في الأسماك، ثم الأسماك التجارية الكبيرة التي نستهلكها يومياً، كما تم اكتشافه في الطيور الآكلة للأسماك، وأخيراً جاءت الطامة الكبرى عندما تم اكتشاف المبيد في حليب الأم التي ترضع طفلها، وفي أجسام البشر صغاراً وكباراً. وهنا دق ناقوس الخطر، ورفع العلم الأحمر ضد هذا المبيد.

فقد أجمعت الدراسات في نهاية الستينيات من القرن المنصرم بأن هذا المبيد ثابت ومستقر ولا يتحلل سريعاً، أي أنه يمكث في مكونات بيئتنا سنواتٍ طويلة، فيتراكم يوماً بعد يوم في الدهون الموجودة في أجسامنا وأجسام الكائنات الحية الأخرى، ولذلك أجمعوا بعد تجارب وخبرات ميدانية بأن أضرار المبيد بدأت تفوق المنافع، وأن المفاسد التي تنجم عن سوء استخدامه زادت عن المصالح، وعندها اتفقت معظم دول العالم على حظره ومنع استخدامه، إلا على نطاق ضيق وفي الحالات القاهرة، حيث منعت الولايات المتحدة الأمريكية هذا المبيد في عام 1972. وظننا بعد هذا المنع بأن آثار هذا المبيد على مجتمعنا ستزول مع الوقت، وأن هذا المبيد قد نقل إلى مثواه أخرى وتحول إلى جزء من مقبرة التاريخ البيئي الصحي المعاصر.

ولكن كما أكدتُ لكم فإن المخلفات وآثار الملوثات تحفر بصماتها عميقة في بيئتنا، وتبقى على قيد الحياة لا تموت حتى تكتشفها الأيام، وهذا ما حدث بالفعل للمبيد دي دي تي بعد منعه قرابة خمسين عاماً. فقد وقعت حادثة غريبة بطلها أحد العلماء في منطقة بحرية بالقرب جزيرة سانتا كاتالينا(Santa Catalina) في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وهي منطقة سياحية وتجارية جميلة يستخدمها الصيادون وهواة الغوص. فهذا الباحث كان يجري تجارب حول تسرب الميثان من التربة القاعية في البحر، وكان يستخدم عدة معدات وأجهزة، منها روبوتات وأجهزة تصوير خاصة للمياه العميقة والمظلمة والتي تصل إلى قرابة ألف متر. وهذه الأجهزة عندما بدأت بالتصوير رصدت مناظر غريبة، فكانت مفاجأة غير سارة لهذا الباحث، فللوهلة الأولى بدت المنطقة وكأنها صحراء جرداء قاحلة، ثم لقطت كاميرا التصوير المشهد الأكثر غرابة ودهشة وما لم يتوقعه أحد، ولم يكن في الحسبان، وهو منظر آلاف البراميل الحديدية  الجاثمة فوق ظلمة التراب في القاع على عمق أكثر من كيلومترٍ واحد، وكأنها أشباح تطل برأسها فوق تربة قاع المحيط الهادئ.

فهذه الصدمة القوية اضطرت العلماء والمعنيين إلى سبر غور هذه الحادثة وإجراء دراسة أخرى لمعرفة مصدر هذه البراميل، وما تخفيها في بطنها من مفاجآت وأسرار تاريخية قديمة. فالرجوع إلى الدراسات التاريخية والأرشيف المعنى بالمخلفات والسجلات الخاصة بتحرك السفن في تلك المنطقة البحرية، أكدت أنه في الفترة من 1947 إلى 1982، كان أكبر مصنع لإنتاج المبيد الحشري وهو مونتروز كيميكل(Montrose Chemical Corp.)، يخزن مخلفاته السائلة الملوثة بحمض الكبريتيك والمبيد الحشري دي دي تي في براميل، ويلقيها في جنح الليل في بارجات تنقلها إلى أعماق المحيط، وفي الكثير من الحالات كانت البراميل تثقب من أجل توفير الجهد والوقت والمال، فتترسب سريعاً في المناطق الساحلية، وتتسرب منها المخلفات وتنتشر في كل أنحاء بيئة المحيط. ومنذ ذلك الوقت، وطوال هذه السنوات، كان السر محفوظاً في الصدور، ومخفياً في النفوس، فلم يعلم عنه أحد لعقود متلاحقة. وأما بالنسبة للمسؤولين في المصنع، فقد اختفت هذه المخلفات عن الأبصار والعيون، وانتهت مشكلة المخلفات منذ أن لامست التربة في قاع المحيط، فمات المسؤولون عن هذه الممارسات الشنيعة، ولكن المخلفات لم تمت وبقت هناك أكثر من خمسة عقود تشهد على ظلم الإنسان تجاه بيئته، وتؤكد ما على ارتكبته يداه من تعد صارخ على حرمات البيئة وصحة الناس، وقد نقلت صحيفة اللوس أنجلوس تايمس في 25 أكتوبر من العام الجاري تفاصيل هذه الجريمة البيئية الصحية العظيمة تحت عنوان: "سواحل لوس أنجلوس كانت موقعاً للإلقاء مخلفات المبيد الحشري المعروف دِي دِي تي، لم يراها أحد حتى الآن".

ولذلك فأزمة المخلفات لا تنتهي بإلقائها في أي مكان، وآثارها وأضرارها لا تزول بالتخلص العشوائي منها، مما يحتم علينا الإدارة السليمة لكل أنواع المخلفات، سواء أكانت صناعية أو منزلية، حفاظاً على أمننا الصحي وسلامة الأجيال اللاحقة من بعدنا، فنحن نموت ولكن المخلفات لا تموت.

الخميس، 19 نوفمبر 2020

المخلفات في بيئتنا لا تموت(1 من 2)

كادتْ اليابان أن ترتكب إثماً بيئياً وصحياً عظيمين لا يغتفر، وأوشكت أن تقع في خطيئة أبدية فيبقي تأثيرها خالداً مخلداً في جسدنا وجسد كوكبنا وتتضرر منها الأجيال الحالية والأجيال اللاحقة، وذلك عندما أعلن رئيس الوزراء يوشيدي سوجا(Yoshihide Suga) في 27 أكتوبر عن عزم الحكومة على صرف قرابة 1.23 مليون طن من المخلفات السائلة المنخفضة الإشعاع الناجمة عن محطة فوكوشيما المنكوبة( Fukushima Dai-ichi) في المحيط الهادئ.

 

فهذا القرار الخطير الذي اتخذته الحكومة اليابانية كان له صدى كبيراً وواسعاً على كافة المستويات، القومية، والإقليمية، والدولية، فما أن رأى القرار النور، وخرج إلى الأضواء، وإذا بالانتقادات والاحتجاجات تنصب فوراً على الحكومة اليابانية. فأما على المستوى الوطني، فقد لاقى القرار اعتراضاً شديداً من المعنيين بتجارة الأسماك ومن الكثير من علماء البيئة والمهتمين بالصحة العامة، وأما على المستوى الإقليمي فقد أبدت بعض الدول المجاورة لليابان مثل الصين وكوريا الجنوبية قلقها العميق وتخوفها الشديد من سماح الحكومة اليابانية لإلقاء هذه الأحجام المهولة من المياه الملوثة بالمواد المشعة في المحيط الهادئ، وأما على المستوى الدولي فقد احتجت عدة منظمات بيئية غير حكومية مثل السلام الأخضر على هذا القرار، ونشرت بياناً في 24 أكتوبر تفيد فيه الأخطار الناجمة عن ارتكاب هذه الكبيرة، وبالتحديد من العناصر المشعة الموجودة في بطنها مثل نظير الهيدروجين المشع المعروف بالتريتيم(tritium)، والذي تنبعث منه إشعاعات مؤينة قد تسبب السرطان للإنسان، ومنها نظير عنصر الكربون(14) المشع.

 

فكل هذه المواقف الحازمة أجبرت الحكومة اليابانية على إعادة النظر في القرار وتأجيل صرف المخلفات المشعة، حيث أعلن وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة(Hiroshi Kajiyama) في 29 أكتوبر في مؤتمر صحفي بأن الحكومة ليست لديها خطة زمنية لإدارة هذه المخلفات السائلة المشعة، وقال: "نحن نريد أن نعمل بعناية مع هذه القضية".

 

وفي الحقيقة فإن هذه الأزمة العصيبة التي يعاني منها اليابان منذ أكثر من تسع سنوات عجاف، والمتمثلة في التراكم اليومي للمخلفات السائلة المشعة، كانت بسبب الزلزال بقوة 9.0 دراجات الذي هزَّ الساحل الشمالي الشرقي في 11 مارس 2011، وأدى إلى تكوين مدٍ بحري "تسونامي" بطول 15 متراً، فتعطلت الكهرباء في محطة فوكوشيما للطاقة النووية، وتوقفت أجهزة التبريد الخاصة بتبريد الوقود ومنعه من الانصهار في المفاعلات، مما أدى إلى تسرب الأطنان من المواد المشعة إلى كل مكونات البيئة، فمات نحو 18500 ياباني، وتم تهجير وإخلاء منازل أكثر من 160 ألف. فهذا الكرب العظيم الذي نزل على اليابان تسبب منذ ذلك الوقت في صرف أحجامٍ كبيرة من المياه المشعة مباشرة إلى المحيط الهادئ، ثم بعد منع صرفها إلى البحر، يتم الآن جمعها في ألف خزان عظيم في موقع المحطة، حتى بلغ حجمها الإجمالي اليوم قرابة 1.2 مليون طن من المياه المشعة، وهذه الكميات تزيد يومياً بواقع 170 طناً، بحيث إنه بحلول صيف عام 2022 لن تتمكن اليابان من تخزين أية كميات إضافية، أي أن طاقتها الاستيعابية ستتشبع كلياً بعد زهاء عامٍ واحدٍ فقط، فلا بد إذن من إيجاد حلٍ واقعي وعملي للتخلص منها قبل أن تتحول إلى قنابل اشعاعية مدمرة، لا تلوث اليابان فحسب، وإنما تنتقل عدواها كفيروس كورونا إلى كل شبرٍ من كوكبنا من بشرٍ، وشجرٍ، وحجر، وستبقى فيها سنواتٍ طويلة جداً لا يعلمها إلا الله. فعقل الإنسان وقدرته العلمية تقف عاجزة أمام هذه المعضلة المعقدة، فلم يجد حتى الآن حلاً مستداماً من الناحيتين الصحية والبيئية سوى الطريق الأسهل والأرخص وهو إلقاء هذه المخلفات في البحر!

 

فبعض هذه الملوثات الإشعاعية عمرها طويل جداً، فمنها ما يزيد عن آلاف السنين، أي أنها تبقى طوال هذه الفترة حية لا تموت، وتنبض بالحياة، فتبث سمومها في كافة عناصر البيئة، فعندما تدخل في البيئة المائية، على سبيل المثال، فهي تأخذ عدة مسارات أكدتها وأثبتتها الدراسات الميدانية التي راقبت وتابعت تحركات هذه الملوثات المشعة مع الزمن من خلال تحليل المياه والتربة والكائنات النباتية والحيوانية الصغيرة منها والكبيرة في أعماق مختلفة من سطح الماء. فأما المسار الأول فهو تَنَقُل هذه المخلفات المشعة من خلال التيارات المائية القاعية والسطحية والرياح إلى مواقع بعيدة جداً عن موقعها الأصلي، فعندما صُرفت المياه المشعة من محطة فوكوشيما إلى المحيط الهادئ في الشرق، وصلت بعد فترة قصيرة من الزمن إلى أقصى الغرب وعلى مسافات آلاف الكيلومترات من فوكوشيما، وبالتحديد إلى مياه الولايات المتحدة الأمريكية في الولايات الغربية، حيث تم قياس مستويات غير طبيعية ومرتفعة من الإشعاع في المياه والكائنات البحرية وكان مصدرها مياه الصرف الإشعاعي من فوكوشيما.

 

وأما المسار الثاني فيتمثل في انتقال السموم الإشعاعية إلى الكائنات البحرية العالقة في الماء، سواء أكانت نباتية أو حيوانية التي تعد الحلقة الأولى من السلسلة الغذائية البحرية، فتدخل مع الوقت إلى أجسام الكائنات البحرية الأكبر حجماً، ومنها إلى رأس هرم السلسلة الغذائية وهو الإنسان، مما يؤكد بأنك تتناول وجبة مشعة من السمك وأنت لا تعلم!

 

وأما المسار الثالث الذي تأخذه هذه الملوثات المشعة فهو ترسبها في قاع البحر ومكوثها في التربة خالدة فيها حتى ينتهي إشعاعها، وخلال تلك السنوات الإشعاعية العقيمة فهي تلوث التربة في كل مكان، وتتراكم مع الزمن رويداً رويداً في أجسام الكائنات التي تعيش فيها، ومع الوقت تصل إلى الإنسان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

 

وأزمة المخلفات المشعة لا تتمثل فقط في هذه الكارثة الأخيرة التي مسرح أحداثها في محطة فوكوشيما النووية، وإنما هي قديمة جداً وتصل إلى أكثر من مائة عام، عندما بدأ العلماء في اكتشاف العناصر المشعة والتعرف على أسرارها وتطبيقاتها العملية في حياتنا اليومية في السلم وفي الحرب. ولكن هذه الملوثات المشعة دخلت أول مرة في بيئة كوكبنا على نطاقٍ واسعٍ وكبير مع التجارب النووية العسكرية التي بدأت الدول في تنفيذها، وبالتحديد الانفجارات النووية في بحار العالم، وبخاصة في الجزر الفقيرة والمستضعفة في المحيط الهادئ. فالسبق في التفجيرات النووية البحرية كان للولايات المتحدة الأمريكية عندما أجرت أول تجربة نووية أمريكية في عام 1946 في جزر المارشال في المحيط الهادئ(Pacific Bikini Atoll)، ثم أكثر من 250 تجربة نووية بحرية من مختلف دول العالم منها فرنسا، وبريطانيا، والاتحاد السوفيتي، وألمانيا، وبلجيكا.

 

وهذه البرامج النووية العسكرية والسلمية أفرزت مخلفات مشعة لم يعرف العالم كيفية التخلص منها، وبخاصة في تلك الحقبة الزمنية، فكانت البيئة البحرية هي الضحية الأولى لجرائم الدول الصناعية المتقدمة البيئية والصحية، فقد جاء في عدة تقارير للوكالة الدولية للطاقة الذرية(International Atomic Energy Agency) أنه خلال الفترة 1946 إلى 1993، انتهكت هذه الدول العظمى حرمات بيئتنا البحرية وألقت قرابة 200 ألف طن من البراميل المعدنية الممتلئة بالمخلفات المشعة. وهذه البراميل التي ما هي إلا قنابل دمار شامل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة فتحدث تلوثاً إشعاعياً لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فهي موجودة ومخلدة لا تموت في أعماق بحارنا، وجاثمة في تربتها وقد أكلها الصدأ وتلفت مع الزمن، فتتسرب حتماً منها الملوثات المشعة إلى أن يشاء الله دون أن يعلم عنها أحد، فتصل إلينا ونحن لا نعلم عن وجودها. والكتاب المنشور في أكتوبر 2020 للباحثين جن ميتشل وجون دور (Jon Mitchell and John Dower ) تحت عنوان: "تسميم المحيط الهادئ: تخلص الجيش الأمريكي بسرية للبلوتينيوم المشع والأسلحة الكيميائية والعميل البرتقالي" يقدم أمثلة على إلقاء الدول المتقدمة، وعلى رأسهم أمريكا للمخلفات بشكلٍ عام، والمخلفات النووية المشعة بشكلٍ خاص في المحيط الهادئ.

 

فهذه هي بعض المعلومات والحقائق التي نعلم عنها الآن حول التلوث الإشعاعي بشكلٍ خاص وعن خلوده حياً لا يموت في بيئتنا، وهناك أسرار وخفايا كثيرة أخرى لم تفش عنها الدول الصناعية النووية المتقدمة، وربما الأيام ستكشف هولها وعظمة تأثيرها على كوكبنا واستدامة حياة البشر عليها.

الخميس، 12 نوفمبر 2020

هل انتهت الحرب على المخدرات؟

الآن وبعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ستوفر إحدى الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية جواً آمناً، وتقدم خدمة متميزة ومريحة فريدة من نوعها على مستوى ولايات أمريكا ودول العالم أجمع  لمن يرغب في تتعاطى المخدرات، ولا أعنى هنا المخدرات العادية الخفيفة، وإنما أنواع المخدرات الثقيلة المدمرة للجسد والنفس والروح والمؤدية إلى الهلاك والسقوط في شباك الإدمان والموت المبكر.

ففي هذه الولاية لا تلاحقك الشرطة المعنية بمكافحة المخدرات، ولا تعتقلك الأجهزة الأمنية إذا تعاطيت قليلاً من الهيروين من أجل الترفيه عن نفسك، وفي هذه الولاية لا تُعتبر مجرماً يطاردك رجال القانون إذا حقنت جسدك بالكوكايين للترويح عن نفسك، وفي هذه الولاية أيضاً لا يجرمك أحد إذا كانت لديك كمية بسيطة من أكثر المخدرات إدماناً وتدميراً للبشر، وفساداً للمجتمعات، وتحطيماً للأسر، وتريد أن تستخدمه لأغراض شخصية، مثل الهيروين، والكوكايين، والأمفيتامين بمختلف أنواعه، إضافة إلى بعض أنواع الحبوب المهدئة والمسكنة للآلام والمعروف بأنها تسبب الإدمان.

فولاية أوريجن أثناء الانتخابات الأمريكية في الثالث من نوفمبر صوتت في استفتاءٍ خاص على مستوى الولاية، ولأول مرة في التاريخ الأمريكي خاصة وتاريخ المجتمعات البشرية العامة، على التوقف عن تجريم حيازة واستخدام الهيروين، والكوكايين، وميثأمفيتامين، وأوكسيكودون، وغيرها من المخدرات، وذلك بغرض الاستخدام الشخصي، ولأغراض الترفيه والترويح عن النفس، وبذلك لا يجرم أي إنسان في حوزته كل هذه الأنواع المختلفة من المخدرات المدمنة الشخصية، وفي حالة الإمساك بك، لا تعاقب، ولا تدخل السجن، وكل ما عليك القيام به هو دفع غرامة رمزية بسيطة جداً لا توقف أحد عن استخدامها مرة ثانية، إضافة إلى إجراء تقييم لك حول الإدمان.

فولاية أوريجن في الولايات المتحدة الأمريكية دائماً سباقة في قرارات الهدم وفساد المجتمع، فهذه الولاية أيضاً هي كانت أول ولاية لا تجرم حيازة الحشيش أو الماريوانا في عام 1973، ولا تجرم من يتعاطاه للتسلية والترويح عن نفسه، ولذلك وبهذا القرار فتحت أبواب جهنم على مصراعيه للولايات الأخرى وشجعتها على اتخاذ إجراءات وقرارات مماثلة بالنسبة لتحليل الحشيش، فإما عدم تجريم حيازته كخطوة شيطانية أولى، أو السماح له للاستخدام الفردي والترويح عن النفس، وإما السماح لاستخدامه لأهداف طبية كدواء وعلاج لبعض المرضى. وفي عام 1996 اتخذت ولاية كاليفورنيا قراراً تاريخياً على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية تمثل في استخدام الحشيش للأغراض الطبية وعلاج المرضى، ثم جاءت ولاية كولورادوا ففتحت الباب على مصراعيه في عام 2012  لاستخدام الحشيش للترفيه والترويح عن النفس. ومنذ ذلك الوقت وحتى الاستفتاء الذي أجري في الخامس من نوفمبر أثناء الانتخابات الرئاسية، هناك الآن 35 ولاية سمحت بالحشيش لأغراض طبية، و15 ولاية للترفيه والترويح عن النفس.

وهذا التيار الجارف التوسعي المتسارع لتحليل المخدرات عامة، والحشيش خاصة بدأ يكتسح الولايات المتحدة الأمريكية منذ الستة عقود الماضية، ولن يتوقف أبداً، وسيستمر حتى يبلغ ذروته، بحيث يتم تحليلها في كل الولايات الخمسين، وتغير الحكومة الفيدرالية سياساتها تجاه المخدرات، واستطلاعات الرأي تؤكد نظريتي هذه وتُشجع معظم رجال السياسة والقانون ومتخذي القرار على المضي قدماً وبسرعة في سياسة السماح للمخدرات لأي غرضٍ كان. ففي عام 1969 كانت نسبة الأمريكيين الموافقين على تحليل الحشيش 12% فقط، ثم ارتفعت بشكلٍ ملحوظ في عام 2000 فوصلت إلى 31%، وأخذت هذه النسبة في الزيادة والنمو كل عام، فنصف سكان أمريكا أبدوا موافقتهم في 2013، وأخيراً في عام 2019 ارتفعت إلى 67%.

وفي الحقيقة لا أستطيع تقديم تفسير علمي منطقي لهذا الهوس الأمريكي تجاه السماح للمخدرات، فهناك تناقض بين وفاضح في القرارات والسياسات الأمريكية المتعلقة بالمخدرات، فأمريكا نفسها ممثلة في أعلى سلطة وهي الرئيس أعلنت رسمياً في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في عام 1969 "الحرب على المخدرات"، وأكد الرئيس على استئصال هذه الآفة المدمرة من المجتمع الأمريكي ومعاقبة جميع المتورطين في المخدرات ، وهي نفسها الآن طواعية وبمحض إرادتها ورغبة منها تفك جميع القيود عن استخدام المخدرات تدريجياً، عاماً بعد عام، وولاية تلو الأخرى، وكأنهم في سباق محتوم تجاه السماح للمخدرات والإعلان رسمياً بأن الحرب قد انتهت، وأنه قد حلَّ السلام بين الشعب والمخدرات.

فأمريكا حتى كتابة هذه السطور تعاني الأمرين من تعاطي الشعب الأمريكي على المخدرات من جهة والعقاقير المسكنة للألم والمسببة للإدمان من جهةٍ أخرى، فهي المواد المخدرة والمدمنة غزت كل بيت، واحتلت كل أسرة، فلم تسلم أية أسرة منها، سواء أكانت فقيرة أم غنية، متعلمة ومثقفة أم جاهلة ومتأخرة، وأخذت المخدرات لمدة عقود تنخر في الجسد الأمريكي حتى بلغت الإحصاءات الرسمية عن أعداد الموتى من المخدرات مبلغاً مخيفاً هزَّ المجتمع الأمريكي برمته، وأنذر بوقوع وباءٍ صحي شعبي عام يهدد الأمن الصحي والاجتماعي والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية. فهذا الوضع الكارثي المشهود، اضطر الرئيس الأمريكي السابق ترمب إلى الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية للإدمان على المخدرات في أكتوبر 2017.

فالتناقض إذن أن هناك شعباً يمرض ويموت في سنٍ مبكرة ويعاني جماعياً من انتشار تعاطي المخدرات، وفي الوقت نفسه نجد أن هذا الشعب يُطلق العنان لاستخدام هذه المخدرات!

ففي تقديري أستطيع أن أُقدم بعض التفسيرات لهذه الظاهرة الغريبة، وهي كما يلي:

أولاً: أظن بأن أمريكا فقدت السيطرة كلياً على ظاهرة تفشي المخدرات في المجتمع الأمريكي برمته، ولذلك لم تجد حلاً واقعياً وعملياً سوى إعطاء كافة الشعب الأمريكي الحرية المطلقة الكاملة، وإطلاق سراح المخدرات في المجتمع.

ثانياً: نظراً لتوسع انتشار تعاطي وحيازة وبيع المخدرات على المستوى الاتحادي، فقد ارتفعت أعداد المسجونين في كل معتقلات أمريكا، حتى أن السجون تشبعت وامتلأت واكتظت بالجرائم الخاصة بالمخدرات، فلا تستطيع تحمل المزيد من المسجونين، فكانت الخطوة الأولى لعلاج هذه الأزمة الخانقة هي عدم تجريم كل ما هو متعلق بالمخدرات، أي عدم اعتقال من بيدهم المخدرات وعدم إدخالهم السجون وبالتالي تخفيف العبء والضغط على سجون أمريكا. 

ثالثاً: الكلفة الاقتصادية الباهظة لإدارة الجرائم المتعلقة بالمخدرات، والمتعلقة بالجهاز الأمني، والجهاز القضائي، وغيرهما من المؤسسات والأجهزة الحكومية التي لا تتمكن من التعامل مع الحالات المتزايدة يومياً من جرائم المخدرات، فالحل العملي هو عدم التجريم كخطوة أولى، ثم السماح باستخدامه وحيازته كخطوة ثانية.

رابعاً: الأموال الضخمة التي تجنيها الولايات من الضرائب المفروضة على المخدرات بعد السماح بإنتاجها رسمياً وتسويقها، إضافة إلى خلق الوظائف المتعلقة بالمخدرات.

خامساً: جماعات الضغط من الأفراد والشركات الذين يحصدون المليارات من وراء السماح للمخدرات، فهؤلاء لهم سلطة ونفوذ ووزن في اتخاذ القرارات المتعلقة بتحليل المخدرات.

سادساً: غياب الوازع الديني في الأسرة الواحدة وبين شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكي، وفقدان المبادئ والقيم الدينية والروحانيات الرفيعة، إضافة إلى طغيان الماديات وطلب الشهوة والراحة والسعادة الزائفة والمتعة الآنية المؤقتة من خلال تعاطي المخدرات والإدمان عليها.

 

الاثنين، 9 نوفمبر 2020

وباء المخلفات البلاستيكية

عندما أشاهدُ أمامي الآن تداعيات وباء فيروس كورونا الذي حصد أرواح أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، وأدخل أكثر من 39 مليون في المستشفيات ينتظرون نحبهم، فإنني فعلياً أستصغر أية مشكلة أخرى تنزل علينا، وأتهاون في انعكاساتها على الإنسان والمجتمع.

 

وبالرغم من ذلك فإن هذا الوباء العقيم الذي أخذنا على حين غرة، وفاجأنا بانعكاساته الصحية والاقتصادية والاجتماعية غير المتوقعة، من المفروض أن لا يُشغلنا كلياً عن الهموم والقضايا الأخرى، ومن المفروض أن لا يجعلنا نتجاهل مشكلاتنا الماضية، والمتجددة، والمستقبلية، فهي أيضاً لها انعكاساتها المهددة لتنميتنا وتطورنا وصحة أبداننا.

ومن هذه المشكلات القديمة والمتجددة هي المخلفات البلاستيكية، الكبيرة منها والصغيرة، والتي لا يُرى بعضها بالعين المجردة، ويُطلق عليها الميكروبلاستيك، وهي أصغر من 5 مليمترات، أو النانوبلاستيك.

فالدراسات والأبحاث حول تهديدات هذا النوع من المخلفات البلاستيكية لا تكاد تتوقف منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بل وإن الاهتمام بها وسبر غورها زاد بكثافة عالية في السنوات القليلة الماضية بسبب اكتشاف تأثيرات خطيرة غير متوقعة لهذه المخلفات على الإنسان والحياة الفطرية في البر، والبحر، وفي السماء، ونتيجة لظهورها في مواقع بعيدة في خلايا جسم الإنسان، لم تخطر على بال أحد، ولم يتوقع أي إنسان ذلك، إضافة إلى اكتشافها في أعماق المحيطات المظلمة على بعد أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح البحر، وفي البراري الحارة التي لا يعيش فيها أحد، وفي المناطق الثلجية النائية كالقطبين الشمالي والجنوبي التي لم تصل إليها أيدي وأنشطة البشر، بل وإن المخلفات البلاستيكية الدقيقة أصبحت تنزل علينا من السماء مع ماء المطر والثلج وموجودة الآن في مياه الشرب ومياه الأنهار والمياه الجوفية، استناداً إلى الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في 27 أغسطس 2020 تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في مياه الشرب في بريطانيا".

 

والأدهى من ذلك والأمر أن هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة دخلت في أجسام أطفالنا الرضع مما يهدد استدامة سلامة صحة الجنس البشري في المستقبل، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "غذاء الطبيعة"( Nature Food) في 19 أكتوبر 2020، تحت عنوان: "انطلاق الميكروبلاستيك من تحلل الرضاعات المصنوعة من البولي إيثلين أثناء إعداد طعام الرضيع"، حيث أكدت الدراسة من خلال التحاليل المخبرية تعرض الطفل الرضيع للمخلفات الميكروبلاستيكية من خلال شرب الحليب من الرضاعة المصنوعة من مواد بلاستيكية كالبولي إيثلين، والتي تتسرب من الرضاعة البلاستيكية بفعل الحرارة فتنتقل إلى حليب الطفل الرضيع عند غسل الرضاعات بالماء الحار جداً وأثناء عملية التعقيم.

 

فكل هذه الأبحاث والاكتشافات الحديثة تجعلني أَصفَ المخلفات البلاستيكية بالوباء الصحي، لأنها انتشرت وتوغلت وتجذرت في أعماق كل شبرٍ من الأرض، براً وبحراً وجواً، وكل عضو من أعضاء أجسامنا أطفالاً، وشباباً، وشيوخاً.

ومن أجل التعرف أكثر وعن كثب على حجم غزو المخلفات البلاستيكية لبيئتنا برمتها، أُوجه عنايتكم نحو الدراسة المنشورة في الخامس من أكتوبر 2020 في "حدود علم البحار"(Frontiers in Marine Science).   

فهذه الدراسة الشاملة لبحار كوكب الأرض تُقدِّر بأن هناك قرابة 9.25 إلى 15.87 مليون طن من الجسيمات البلاستيكية بمختلف أحجامها الصغيرة والمجهرية مخفية وبعيدة عن عيون البشر تحت سطح بحارنا وجاثمة في سرية تامة تحت أعماق التربة القاعية التي تصل إلى نحو ثلاثة كيلومترات تحت سطح البحر، كما قدرت الدراسة وجود معدل 1.26 جسيم من المخلفات البلاستيكية لكل جرام من التربة القاعية. وعلاوة على ذلك، فهناك دراسة ميدانية نشرت في مجلة "علوم وتقنية البيئة" في 23 أكتوبر من العام الجاري وأكدت على وجود المخلفات الميكروبلاستيكية في تربة البحار الثلجية النائية والبعيدة جداً عن أي نشاط بشري في القطب الجنوبي وعلى أعماق تصل إلى 3.6 كيلومتر تحت سطح البحر!

وخطورة هذه المخلفات الميكروبلاستيكية أن معظمها لا يري بالعين المجردة، وهي موجودة بعيدة عن أعيننا وأيدينا وقدرتنا على الوصول إليها بسهولة والتخلص منها، فلا نعلم ماذا تفعل هناك في بيئتنا وفي الكائنات الحية البحرية التي تعيش في تلك المواقع الترابية تحت سطح البحر، وكيف تتصرف وهي موجودة هناك؟

وعلاوة على المخلفات البلاستيكية المجهولة في تربة قيعان البحار، فإن هناك المخلفات البلاستيكية التي لا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها، فهي موجودة أمامنا فوق سطح البحر في كل مكان، فهي تسرح وتمرح عالقة في عمود الماء وتنتقل من مكان إلى آخر حسب التيارات المائية القاعية والسطحية، وحسب حركة الرياح، حيث قدَّر العلماء بأن كمية هذه المخلفات التي تنتقل سنوياً إلى البيئات المائية تتراوح بين 4.4 إلى 8.8 مليون طن، وهذه المخلفات مع الوقت كونت مقبرة مائية كبيرة تتجمع عندها في عدة محيطات عظيمة، منها مقبرة القمامة العظيمة في المحيط الهادئ (Great Pacific Garbage Patch)، والتي تزيد مساحتها عن مساحة البحرين بآلاف المرات.

واليوم مع نزول فيروس كورونا على المجتمع البشري منذ أكثر من 11 شهراً حتى الآن، فإن قضية المخلفات البلاستيكية انكشفت جلياً أمام الناس، وظهرت بشكلٍ واضح في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي أمام أعين الجميع من علماء ومن عامة الناس. فهناك المخلفات البلاستيكية الصلبة الناجمة عن الوقاية من هذا المرض التي تُستعمل مرة واحدة فقط ثم يتم التخلص منها كل ساعة أو بشكلٍ يومي، سواء أكانت هذه المخلفات من استخدامات الأطباء والطواقم الطبية التي تعالج هذا المرض في المستشفيات والمراكز الصحية المتخصصة، أو من الأفراد العاديين، مثل الأدوات الشخصية الواقية للإنسان كالكمامات، والأقنعة البلاستيكية التي توضع من فوق الرأس، إضافة إلى القفازات والملابس البلاستيكية التي تقي الجسم كله. فكل هذه الأطنان من مخلفات كورونا لم تجد طريقها إلى المكان المناسب والمخصص لمثل هذا النوع المعدي من المخلفات، ولذلك شاهد الجميع مثل هذه المخلفات مُلقاة في الشوارع العامة، ومرمية في الطرقات، وجاثمة في داخل المجمعات، ومن أمام بوابة المحلات التجارية والبرادات، كما أن الجميع رأى هذه المخلفات ملقاة على الأرض في مواقع أجهزة السحب النقدي الآلي.

 

فقد وثقتْ عدة منظمات بيئية هذه الظاهرة في فيديوهات نُشرت عبر وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي. فعلى سبيل المثال، صوَّرتْ منظمة فرنسية(Opération Mer Propre) تراقب وتتابع هذه الحالة البيئية التي استجدت مع انكشاف كورونا، وأكدت وجود مخلفات كورونا البلاستيكية من قفازات وكمامات والزجاجات البلاستيكية التي تحتوي على المواد المطهرة والمعقمة لليد، وهي تسبح حرة طليقة على سطح البحر، أو تجثم في قاعها على الشواطئ الفرنسية في منطقة انتيب(Antibes) وريفيرا، حيث قال أحد علمائها:" في الوقت القريب سيتكون هناك كمامات في مياه البحر الأبيض المتوسط أكثر من قناديل البحر". كذلك شاهدتُ صوراً لهذه المخلفات في مجموعة جزر سوكو(Soko) النائية غير المأهولة بالسكان في هونج كونج، حسب تقرير المنظمة البيئية محيطات آسيا( OceansAsia) التي أفادت بأن في كل مائة متر من طول الساحل تم إيجاد مائة كمامة حملتها الرياح والتيارات المائية من المناطق الحضرية ومن مواقع دفن المخلفات والبيئات الساحلية إلى هذه الجزر النائية.

 

فكل ما سبق يؤكد لي بأن المخلفات البلاستيكية الصغيرة منها والكبيرة، تُشكل وباءً بيئياً وصحياً يحتاج إلى حلٍ جذري سريع، ليس على مستوى الدولة الواحدة فقط، وإنما على المستوى الدولي من خلال اتفاقية دولية مشتركة تُعنى بكافة الجوانب المتعلقة بها وتلتزم كافة دول العالم بتنفيذها فوراً.