الاثنين، 9 نوفمبر 2020

وباء المخلفات البلاستيكية

عندما أشاهدُ أمامي الآن تداعيات وباء فيروس كورونا الذي حصد أرواح أكثر من مليون ونصف المليون إنسان، وأدخل أكثر من 39 مليون في المستشفيات ينتظرون نحبهم، فإنني فعلياً أستصغر أية مشكلة أخرى تنزل علينا، وأتهاون في انعكاساتها على الإنسان والمجتمع.

 

وبالرغم من ذلك فإن هذا الوباء العقيم الذي أخذنا على حين غرة، وفاجأنا بانعكاساته الصحية والاقتصادية والاجتماعية غير المتوقعة، من المفروض أن لا يُشغلنا كلياً عن الهموم والقضايا الأخرى، ومن المفروض أن لا يجعلنا نتجاهل مشكلاتنا الماضية، والمتجددة، والمستقبلية، فهي أيضاً لها انعكاساتها المهددة لتنميتنا وتطورنا وصحة أبداننا.

ومن هذه المشكلات القديمة والمتجددة هي المخلفات البلاستيكية، الكبيرة منها والصغيرة، والتي لا يُرى بعضها بالعين المجردة، ويُطلق عليها الميكروبلاستيك، وهي أصغر من 5 مليمترات، أو النانوبلاستيك.

فالدراسات والأبحاث حول تهديدات هذا النوع من المخلفات البلاستيكية لا تكاد تتوقف منذ أكثر من ثلاثين عاماً، بل وإن الاهتمام بها وسبر غورها زاد بكثافة عالية في السنوات القليلة الماضية بسبب اكتشاف تأثيرات خطيرة غير متوقعة لهذه المخلفات على الإنسان والحياة الفطرية في البر، والبحر، وفي السماء، ونتيجة لظهورها في مواقع بعيدة في خلايا جسم الإنسان، لم تخطر على بال أحد، ولم يتوقع أي إنسان ذلك، إضافة إلى اكتشافها في أعماق المحيطات المظلمة على بعد أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح البحر، وفي البراري الحارة التي لا يعيش فيها أحد، وفي المناطق الثلجية النائية كالقطبين الشمالي والجنوبي التي لم تصل إليها أيدي وأنشطة البشر، بل وإن المخلفات البلاستيكية الدقيقة أصبحت تنزل علينا من السماء مع ماء المطر والثلج وموجودة الآن في مياه الشرب ومياه الأنهار والمياه الجوفية، استناداً إلى الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في 27 أغسطس 2020 تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في مياه الشرب في بريطانيا".

 

والأدهى من ذلك والأمر أن هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة دخلت في أجسام أطفالنا الرضع مما يهدد استدامة سلامة صحة الجنس البشري في المستقبل، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "غذاء الطبيعة"( Nature Food) في 19 أكتوبر 2020، تحت عنوان: "انطلاق الميكروبلاستيك من تحلل الرضاعات المصنوعة من البولي إيثلين أثناء إعداد طعام الرضيع"، حيث أكدت الدراسة من خلال التحاليل المخبرية تعرض الطفل الرضيع للمخلفات الميكروبلاستيكية من خلال شرب الحليب من الرضاعة المصنوعة من مواد بلاستيكية كالبولي إيثلين، والتي تتسرب من الرضاعة البلاستيكية بفعل الحرارة فتنتقل إلى حليب الطفل الرضيع عند غسل الرضاعات بالماء الحار جداً وأثناء عملية التعقيم.

 

فكل هذه الأبحاث والاكتشافات الحديثة تجعلني أَصفَ المخلفات البلاستيكية بالوباء الصحي، لأنها انتشرت وتوغلت وتجذرت في أعماق كل شبرٍ من الأرض، براً وبحراً وجواً، وكل عضو من أعضاء أجسامنا أطفالاً، وشباباً، وشيوخاً.

ومن أجل التعرف أكثر وعن كثب على حجم غزو المخلفات البلاستيكية لبيئتنا برمتها، أُوجه عنايتكم نحو الدراسة المنشورة في الخامس من أكتوبر 2020 في "حدود علم البحار"(Frontiers in Marine Science).   

فهذه الدراسة الشاملة لبحار كوكب الأرض تُقدِّر بأن هناك قرابة 9.25 إلى 15.87 مليون طن من الجسيمات البلاستيكية بمختلف أحجامها الصغيرة والمجهرية مخفية وبعيدة عن عيون البشر تحت سطح بحارنا وجاثمة في سرية تامة تحت أعماق التربة القاعية التي تصل إلى نحو ثلاثة كيلومترات تحت سطح البحر، كما قدرت الدراسة وجود معدل 1.26 جسيم من المخلفات البلاستيكية لكل جرام من التربة القاعية. وعلاوة على ذلك، فهناك دراسة ميدانية نشرت في مجلة "علوم وتقنية البيئة" في 23 أكتوبر من العام الجاري وأكدت على وجود المخلفات الميكروبلاستيكية في تربة البحار الثلجية النائية والبعيدة جداً عن أي نشاط بشري في القطب الجنوبي وعلى أعماق تصل إلى 3.6 كيلومتر تحت سطح البحر!

وخطورة هذه المخلفات الميكروبلاستيكية أن معظمها لا يري بالعين المجردة، وهي موجودة بعيدة عن أعيننا وأيدينا وقدرتنا على الوصول إليها بسهولة والتخلص منها، فلا نعلم ماذا تفعل هناك في بيئتنا وفي الكائنات الحية البحرية التي تعيش في تلك المواقع الترابية تحت سطح البحر، وكيف تتصرف وهي موجودة هناك؟

وعلاوة على المخلفات البلاستيكية المجهولة في تربة قيعان البحار، فإن هناك المخلفات البلاستيكية التي لا يمكن تجاهلها، أو غض الطرف عنها، فهي موجودة أمامنا فوق سطح البحر في كل مكان، فهي تسرح وتمرح عالقة في عمود الماء وتنتقل من مكان إلى آخر حسب التيارات المائية القاعية والسطحية، وحسب حركة الرياح، حيث قدَّر العلماء بأن كمية هذه المخلفات التي تنتقل سنوياً إلى البيئات المائية تتراوح بين 4.4 إلى 8.8 مليون طن، وهذه المخلفات مع الوقت كونت مقبرة مائية كبيرة تتجمع عندها في عدة محيطات عظيمة، منها مقبرة القمامة العظيمة في المحيط الهادئ (Great Pacific Garbage Patch)، والتي تزيد مساحتها عن مساحة البحرين بآلاف المرات.

واليوم مع نزول فيروس كورونا على المجتمع البشري منذ أكثر من 11 شهراً حتى الآن، فإن قضية المخلفات البلاستيكية انكشفت جلياً أمام الناس، وظهرت بشكلٍ واضح في وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي أمام أعين الجميع من علماء ومن عامة الناس. فهناك المخلفات البلاستيكية الصلبة الناجمة عن الوقاية من هذا المرض التي تُستعمل مرة واحدة فقط ثم يتم التخلص منها كل ساعة أو بشكلٍ يومي، سواء أكانت هذه المخلفات من استخدامات الأطباء والطواقم الطبية التي تعالج هذا المرض في المستشفيات والمراكز الصحية المتخصصة، أو من الأفراد العاديين، مثل الأدوات الشخصية الواقية للإنسان كالكمامات، والأقنعة البلاستيكية التي توضع من فوق الرأس، إضافة إلى القفازات والملابس البلاستيكية التي تقي الجسم كله. فكل هذه الأطنان من مخلفات كورونا لم تجد طريقها إلى المكان المناسب والمخصص لمثل هذا النوع المعدي من المخلفات، ولذلك شاهد الجميع مثل هذه المخلفات مُلقاة في الشوارع العامة، ومرمية في الطرقات، وجاثمة في داخل المجمعات، ومن أمام بوابة المحلات التجارية والبرادات، كما أن الجميع رأى هذه المخلفات ملقاة على الأرض في مواقع أجهزة السحب النقدي الآلي.

 

فقد وثقتْ عدة منظمات بيئية هذه الظاهرة في فيديوهات نُشرت عبر وسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي. فعلى سبيل المثال، صوَّرتْ منظمة فرنسية(Opération Mer Propre) تراقب وتتابع هذه الحالة البيئية التي استجدت مع انكشاف كورونا، وأكدت وجود مخلفات كورونا البلاستيكية من قفازات وكمامات والزجاجات البلاستيكية التي تحتوي على المواد المطهرة والمعقمة لليد، وهي تسبح حرة طليقة على سطح البحر، أو تجثم في قاعها على الشواطئ الفرنسية في منطقة انتيب(Antibes) وريفيرا، حيث قال أحد علمائها:" في الوقت القريب سيتكون هناك كمامات في مياه البحر الأبيض المتوسط أكثر من قناديل البحر". كذلك شاهدتُ صوراً لهذه المخلفات في مجموعة جزر سوكو(Soko) النائية غير المأهولة بالسكان في هونج كونج، حسب تقرير المنظمة البيئية محيطات آسيا( OceansAsia) التي أفادت بأن في كل مائة متر من طول الساحل تم إيجاد مائة كمامة حملتها الرياح والتيارات المائية من المناطق الحضرية ومن مواقع دفن المخلفات والبيئات الساحلية إلى هذه الجزر النائية.

 

فكل ما سبق يؤكد لي بأن المخلفات البلاستيكية الصغيرة منها والكبيرة، تُشكل وباءً بيئياً وصحياً يحتاج إلى حلٍ جذري سريع، ليس على مستوى الدولة الواحدة فقط، وإنما على المستوى الدولي من خلال اتفاقية دولية مشتركة تُعنى بكافة الجوانب المتعلقة بها وتلتزم كافة دول العالم بتنفيذها فوراً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق