الأربعاء، 4 نوفمبر 2020

تلوث الهواء "حالة طوارئ صحية عامة على المستوى الدولي"

الجميع يتذكر تاريخ الثلاثين من يناير 2020 عندما أعلن مدير عام منظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس(Tedros Adhanom Ghebreyesus) بأن فيروس كورونا الجديد يُعد حالة "طوارئ صحية عامة ذات الاهتمام دولي"( public health emergency of international concern)، ثم لن ينسى أحد أبداً في هذا الجيل والأجيال اللاحقة من بعدنا يوم 11 مارس المشؤوم عندما أعلنت مرة ثانية منظمة الصحة العالمية بأن فيروس كورونا(SARS-CoV-2) المسبب لمرض كوفيد_ 19(COVID-19) يعتبر "وباءً عالمياً"، فهذا التاريخ قد أخذ مكانه اليوم في صدارة كتب التاريخ الصحي وفي صفحاتها الأولى، وحفر بعمق موقعه في قلوب الناس وصدورهم.

 

وفي المقابل سمعنا وقرأنا من قَبْل تصاريح مشابهة لمدير عام منظمة الصحة العالمية متعلقة أيضاً بحالة طوارئ صحية عامة على المستوى الدولي، ولكنها مرَّت على البشر، شعوباً وحكاماً، مُرور الكرام، فلم يلتفت إليها الكثير من الناس، ولم يعطوها تلك الرعاية والأهمية المطلوبة منهم.

 

فقد صرح  المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، حيث قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يسلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة"، إضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية نفسها ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.

 

كما أكد المدير العام في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر منظمة الصحة العالمية الأول حول "تلوث الهواء والصحة" والذي عقد في جنيف في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 2018، قائلاً بأن: "تلوث الهواء يمثل أحد أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العامة".

 

فهذه التصريحات من منظمة الصحة العالمية تؤكد لنا أننا نقف أمام حالة صحية دولية طارئة لا تختلف كثيراً عن الحالة الصحية العامة الطارئة المتمثلة في وباء كورونا، وتدعونا إلى أن نهتم على كافة المستويات القومية والدولية لكبح جماح هذه الحالة الخطيرة المتمثلة في التلوث بشكلٍ عام، وتلوث الهواء بشكلٍ خاص.

فقد أجمعتْ الدراسات والأبحاث العلمية بأن تلوث الهواء يعد قنبلة دمار شامل للإنسان، فهو يؤثر عليه جسدياً وفسيولوجياً، كما يؤثر عليه في الوقت نفسه نفسياً وعقلياً، أي لا يدع التلوث عضواً من أعضاء الإنسان إلا ويصيبه بالسهر والحمى والأمراض المستعصية.

فتلوث الهواء يضرب الإنسان فيعرضه لأمراض حادة قد تؤدي إلى الموت الفوري المباشر، أو تصيبه بأسقام مزمنة، فإما أن تدخله إلى القبر مبكراً، وإما أن يعاني طوال حياته من هذه العلل المستعصية على العلاج فيموت موتاً بطيئاً. أما في الحالة الأولى فهناك الكثير من الكوارث البيئية الصحية التي وقعتْ منذ الأربعينيات من القرن المنصرم ومازالت تنزل علينا حتى يومنا هذا. ففي الفترة من 27 إلى 31 أكتوبر عام 1948 في مدينة دونورا بالقرب من مدينة بتسبرج بولاية بنسلفانيا الأمريكية، حلَّ على المدينة دخان كثيف وضباب أسود قاتم، ومات أكثر من 26 على الفور ومرض أكثر من نصف سكان المدينة. وفي الأسبوع الأخير من ديسمبر عام 1952 وقعتْ في قلب العاصمة البريطانية لندن مجزرة جماعية بسبب تلوث الهواء الجوي فسقط عشرات الآلاف من الناس، فمنهم من قضى نحبه فوراً، وبلغ عددهم نحو أربعة آلاف شخص خلال أسبوع واحد فقط، ومنهم من أُدخل إلى الطوارئ ليتلقى العلاج من السموم التي استنشقها في الهواء الجوي. ومنذ الأربعينيات من القرن المنصرم وحتى يومنا هذا، ومدينة لوس أنجلوس الأمريكية ومدن حضرية أخرى كثيرة تعاني من الضباب الضوئي الكيميائي المشبع بسموم عوادم السيارات والذي ينزل عليها بين الحين والآخر، والعاصمة الصينية يُضرب بها المثل منذ عقود من شدة تلوث الهواء الجوي وتعريض الناس للأمراض الحادة والمستعصية والموت المباشر.

وأما بالنسبة للأمراض المزمنة فهي كثيرة ومختلفة وتصيب الجسد، كما تصيب في الوقت نفسه العقل والنفس وتعرض الإنسان للسقوط في الأمراض العقلية النفسية كالقلق والاكتئاب وحالة الاضطراب ثنائي القطب (bipolar disorder)، إضافة إلى الميل نحو الانتحار بسبب تدهور جودة الهواء. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نُشرت دراسة مختصة بالجوانب النفسية لصحة الإنسان وهي مجلة(Social Psychiatry and Psychiatric Epidemiology) في 24 أكتوبر 2020 تحت عنوان: "التأثيرات على الصحة العقلية بسبب التعرض للهواء الملوث"، حيث أكد البحث على أن تلوث الهواء له انعكاسات تهدد سلامة الصحة العقلية وتؤدي إلى ظهور اضطرابات عقلية على الإنسان الذي يتعرض بشكلٍ مزمن لملوثات الهواء الجوي.

 

واليوم، ومنذ أن نزل وباء كورونا على المجتمع البشري، فقد أصبح تلوث الهواء أشد وطأة وتنكيلاً بالبشر المصابين بفيروس كورونا، أي أن الأعراض التي تظهر على المريض تكون مضاعفة ومركبة بسبب الفيروس أولاً، ثم التعرض في الوقت نفسه لملوثات الهواء الجوي ثانياً، وهناك عدة دراسات أكدت على هذه الحقيقة. 

فعلى سبيل المثال، الدراسة المنشورة في مجلة الأوعية القلبية(Cardiovascular Research)في 26 أكتوبر من العام الجاري تفيد إلى أن تلوث الهواء فاقم من شدة الأعراض التي تظهر على المريض بفيروس كورونا، وأن هذا التلوث قد تسبب بنحو 15% من الوفيات من كورونا على المستوى الدولي، أي أن 15% من الذين قضوا نحبهم بسبب الإصابة بمرض كورنا كان له علاقة أيضاً بالتعرض طويل الأمد للملوثات الموجودة في الهواء. وفي شرق آسيا وصلت النسبة إلى 27% من الوفيات من كورونا ويمكن أن ترجع إلى تدهور الهواء الجوي وتأثيره على الصحة العامة، وفي أوروبا بلغت النسبة 19%، وفي الولايات المتحدة الأمريكية 17%. كما نشرت مجلة "تلوث البيئة" في يونيو 2020 بحثاً تحت عنوان: "هل يمكن اعتبار تلوث الهواء عامل من عوامل الارتفاع الشديد في نسبة الوفيات من فيروس كورونا في شمال إيطاليا؟"، حيث أكدت الدراسة بأن تلوث الهواء يُعد عاملاً مساعداً يزيد من حدة الموت من فيروس كورونا.

 

والآن بعد كل هذه الدراسات التي تجمع على أن تلوث الهواء قد يسبب الموت الفوري للإنسان ويعرضه للإصابة بأمراض مزمنة عقيمة، وبعد كل التصريحات والمواقف الصادرة عن منظمة الصحة العالمية حول تداعيات التلوث العصيبة على الصحة العامة، أتمنى من الحكومات أن تُعطي جزءاً يسيراً من اهتمامها لهذه الحالة الصحية العامة الطارئة الناجمة عن تلوث الهواء.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق