الأحد، 29 نوفمبر 2020

الاقتصاد الدائري للكربون في كلمة خادم الحرمين الشريفين

أكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود عاهل المملكة العربية السعودية في الكلمة التي ألقاها في قمة قادة دول مجموعة العشرين على تبني نموذجٍ اقتصادي مستدام يسعى إلى تحقيق الازدهار والتنمية الاقتصادية دون المساس بحقوق وحرمات البيئة، وبالتحديد في قضية مواجهة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض من خلال إدارة الانبعاثات التي أدت إلى بروز هذه القضية على المسرح الدولي منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ولكن دون أن ينجح المجتمع الدولي إلى الوصول إلى الحل الإلزامي المشترك لكافة دول العالم. 

فقد دعا خادم الحرمين الشريفين إلى تبني ما يُطلق عليه بالاقتصاد الدائري للكربون، حيث قال في كلمته: "يشرفني أن أرحب بكم في الفعالية المصاحبة الثانية حول الحفاظ على كوكب الأرض في إطار الاقتصاد الدائري للكربون"، كما أضاف قائلاً: "إن الحفاظ على كوكب الأرض يعتبر ذا أهمية قصوى، وفي ظل زيادة الانبعاثات الناتجة عن النمو الاقتصادي، علينا أن نكون رواداً في تبني منهجيات مستدامة وواقعية ومجدية التكلفة لتحقيق الأهداف المناخية الطموحة. ومن هذا المنطلق، شجعت رئاسة المملكة إطار الاقتصاد الدائري للكربون التي يمكن من خلالها إدارة الانبعاثات بنحو شامل ومتكامل بهدف تخفيف حدة آثار التحديات المناخية، وجعل أنظمة الطاقة أنظف وأكثر استدامة، وتعزيز أمن واستقرار أسواق الطاقة، والوصول إليها. حيث سيتسنى للدول تبني وتعزيز التقنيات التي تتناسب مع المسارات التي تختارها الدول لتحولات الطاقة وذلك من خلال ركائز الاقتصاد الدائري للكربون، حيث تشكل هذه الركائز مجتمعة نهجاً شاملاً ومتكاملاً وواقعياً يتيح الاستفادة من جميع خيارات إدارة الانبعاثات في جميع القطاعات". كذلك أكد العاهل السعودية في خطابه بأن المملكة ستقوم بإطلاق البرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون لترسيخ وتسريع الجهود الحالية لتحقيق الاستدامة بأسلوب شامل، ودعا في الوقت نفسه الدول الأخرى لتنفيذ النهج نفسه قائلاً: "ندعو الدول الأخرى للعمل معنا لتحقيق أهداف هذا البرنامج المتمثلة في التصدي للتغير المناخي مع الاستمرار في تنمية الاقتصاد وزيادة رفاه الإنسان. وفي عام 2012 أطلقنا البرنامج الوطني لكفاءة الطاقة، في جهود تقليل الانبعاثات ضمن مبدأ الاقتصاد الدائري للكربون".

وفي الحقيقة فإن هذا الطرح الجديد لفكرة ونموذج الاقتصاد الدائري يأتي في مرحلة تاريخية دقيقة وخطرة هزَّت اقتصاديات دول العالم أجمع بدون استثناء، الغنية منها والفقيرة، نتيجة لانكشاف وباء كورونا على المشهد الدولي منذ أكثر من عام، وهذا النموذج والمدخل الجديد للتنمية يختلف عن النمط الاقتصادي الاستهلاكي القديم الذي أكل عليه الدهر وشرب وعفا عليه الزمن، وأثبت عدم فاعليته في تحقيق التنمية المستدامة على المستوى الدولي ومستوى دول العالم على حدة، فقد حقق نمواً اقصادياً معوقاً دمر قطاعات أخرى حيوية يعتمد عليها الاقتصاد نفسه، وهو القطاع البيئي والاجتماعي، ولذلك يُطلق على هذا النوع بالاقتصاد "الخطي المستقيم"(linear model)، والذي ينجم عنه عدم استخدام الموارد بشكل رشيد وفاعل ومجدي اقتصادياً، كما يؤدي هذا النمط الاقتصادي إلى سرعة نضوب الموارد والثروات البيئة الحية وغير الحية وتدهورها نوعياً وارتفاع نسبة تلوثها، فهذا النموذج الاقتصادي يهمل الجانب البيئي عند القيام بالأعمال التنموية في جميع القطاعات.

ولذلك اضطر المجتمع البشري إلى طرح رؤية اقتصادية جديدة متوازنة ومعتدلة، تتمتع بأخلاقيات عالية وسامية، وتتحمل مسؤولية مشتركة عن الجميع لهذا الجيل الذي نحن فيه الآن وللأجيال المستقبلية، فنُنمي دون أن نُدمر، ونُعمِّر بدون أن نُفسد، ويعم الخير والعيش الرغيد على الجميع وليس دولاً بعينها، أو فئات قليلة من المجتمع. فكانت ولادة رؤية اقتصادية جديدة للنمو تأخذ في الاعتبار هموم ومتطلبات الدول المتقدمة ورجال الأعمال ورجال السياسة والنفوذ والاقتصاد جنباً إلى جنب مع هموم واحتياجات الدول الفقيرة والنامية والشعوب المستضعفة للنمو، وهذه الفكرة هي "الاقتصاد الدائري" في جميع القطاعات التنموية ، وهي نموذج أكثر استدامة وشمولية، وأشد حفاظاً على الثروات البيئية من الناحيتين النوعية والكمية، ويحقق في الوقت نفسه الحياة الكريمة لكافة فئات وطبقات المجتمع، فجاءت فكرة "الاقتصاد الدائري"( Circular Economy).

وأحد التطبيقات التي يرُكز عليها هذا النمط الاقتصادي هو قضية التغير المناخي الدولية التي دوخت العلماء ورجال السياسة منذ عقود طويلة. فالاقتصاد الدائري الكربوني، أو منخفض الكربون في مجال التغير المناخي يستند إلى أربعة أركان رئيسة. فأما الركن الأول هو خفض وتقليل الانبعاثات المسؤولة عن إحداث ظاهرة التغير المناخي وسخونة الأرض، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينطلق من أية عملية احتراق للوقود الأحفوري في وسائل النقل والمواصلات، وفي محطات توليد الكهرباء، وفي المصانع، ويمكن تحقيق هذا الهدف من خلال تبني مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة مثل الطاقة الشمسية، وطاقة الرياح، وطاقة المياه، والطاقة العضوية، والطاقة النووية، إضافة إلى تحسين وتطوير إنتاجية الطاقة ورفع كفاءتها التشغيلية. كما أن ترشيد وتقنين استهلاك الطاقة بشكلٍ عام يؤدي إلى خفضٍ مشهود في أحجام الغازات المعنية بارتفاع حرارة كوكبنا.

 

والركن الثاني والثالث للاقتصاد الدائري الكربوني فيتمثلان في إعادة استخدام وتدوير الانبعاثات الناجمة عن مصادرها التي لا تعد ولا تحصى، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، وذلك من خلال احتجازه من هذه المصادر وتخزينه، ثم الاستفادة منه كمادة خام لعمليات صناعية جديدة، مثل إنتاج الأمونيا والميثانول واليوريا.

 

وأما الركن الرابع والأخير فيختص بإزالة والتخلص من هذه الانبعاثات المسببة لسخونة الأرض بعد ولوجها إلى الهواء الجوي من خلال امتصاصها من قبل الغابات والأراضي الخضراء في البر والبحر.

 

وجدير بالذكر فإن تطبيقات الاقتصاد الدائري ليست في مجال التغير المناخي فحسب، وإنما في كافة القطاعات التنموية الأخرى التي تفرز ملوثات ومخلفات وتضر بموارد البيئة وثرواتها الحية وغير الحية، فهي تعتمد على إدارة المنتجات من "المهد إلى اللحد"، منذ أن يُنتج في المصانع إلى أن ينتهي به المطاف إلى القبر، ففي كل هذه المراحل من دورة حياة المنتج علينا أن نطبق أداة الاقتصاد الدائري، ونضمن بأن للبيئة رأي وموقف في القرارات التي تُتخذ في التعامل معها، بحيث تكون قرارات مستدامة لنا وللأجيال اللاحقة، فنُوَّرث الأجيال القادمة بيئة سليمة وصحية، وموارد نابضة بالحياة، وقادرة على العطاء والإنتاج.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق