الأحد، 1 نوفمبر 2020

معاهدة دولية لا جدوى منها

منذ أن ألقتْ الولايات المتحدة الأمريكية القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناجازاكي في أغسطس 1945، والكثير من المخلصين والمفكرين في دول العالم يعملون على كيفية تجنب وقوع مثل هذه الكارثة الكبرى مرة ثانية، ويسعون جاهدين إلى تحديد سبل وآليات التخلص كلياً من قنابل الدمار الشامل النووية.

 

ومعظم تفكير هؤلاء الناس اتجه نحو آلية المعاهدات والاتفاقيات الدولية لإلزام دول العالم جمعاء على منع إنتاج واستعمال الأسلحة النووية بمختلف أشكالها وأحجامها وأنواعه، حتى تضمن منع تكرار مثل كارثة اليابان.

 

ومن هذه المعاهدات التي وُلدت وترعرعت تحت مظلة الأمم المتحدة هي اتفاقية منع الأسلحة النووية(Prohibition of Nuclear Weapons (TPNW))، حيث اتخذت الجمعية العمومية للأمم المتحدة قراراً في 22 ديسمبر 2016 للبدء في المفاوضات الخاصة بهذه المعاهدة، فعُقد المؤتمر التفاوضي الأول في الفترة من 27 إلى 31 مارس، ثم المؤتمر الثاني في الفترة من 15 يونيو إلى 6 يوليو 2017 في مدينة نيويورك الأمريكية.

 

وأخيراً تمت الموافقة عليها في اجتماع الجمعية العمومية في 7 يوليو 2017. ولكن منذ اليوم الأول للبدء في المفاوضات الدولية حول المعاهدة انكشفت لي مؤشرات قوية وأدلة دامغة تفيد بعدم جدوى هذه المفاوضات، وعدم واقعية هذه المعاهدة، وأنها لن يكتب لها النجاح في تحقيق أهدافها. فعند التصويت عليها وافقت 122 دولة على التوقيع عليها، وكل هذه الدول التي وافقت عليها تُعد عملياً من الدول الضعيفة والفقيرة التي لا حول لها ولا قوة، ولا نفوذ فعلي ومؤثر على المسرح الدولي، وكلها لا تمتلك قنبلة "يدوية" من صُنعها، ناهيك عن قنابل الدمار الشامل الذرية، وقنابل الجيل الثاني من الأسلحة النووية الأشد فتكاً وتنكيلاً، إضافة إلى اعتراض هولندا على المعاهدة، وامتناع سنغافورا عن التصويت. ثم في 24 أكتوبر أعلنت الأمم المتحدة عن مصادقة 50 دولة من الدول التي ليس لها ثقل سياسي على المستوى الدولي على هذه المعاهدة الأممية لمنع الأسلحة النووية، مما يجعلها قانونياً تدخل حيز التنفيذ بعد 90 يوماً، أي في 22 يناير 2021. 

 

 

وأما الدول التي ترسم سياسات العالم، والتي لها القَولْ النهائي الفصل، ولها القدرة على إنجاح أو إفشال أية قضية دولية من خلال مجلس الأمن، والمجالس والمنظمات الأممية الأخرى التي تهيمن على قراراتها، فقد قاطعت كلياً جميع جلسات هذه المعاهدة، وعلى رأسها الدول النووية التقليدية الخمس المعروفة وهي الولايات المتحدة الأمريكية، والصين، وروسيا، وبريطانيا، وفرنسا، كما قاطعت في الوقت نفسه جميع اجتماعات هذه المعاهدة قبل ولادتها دول نووية وغير نووية قوية أخرى كالهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، والكيان الصهيوني، واليابان، وأستراليا.

 

فالهدف الأسمى من هذه المعاهدة تحقيق الأمن والسلام على المستوى الدولي من خلال منع وإزالة الأسلحة النووية والإقرار بأن امتلاك السلاح النووي غير قانوني على المستوى الدولي، كما تنص المعاهدة على أن لا تقوم أبداً أية دولة صادقت عليها في أية ظروف مهما كانت من تطوير، وتجربة، وإنتاج، وتصنيع، أو حيازة، أو امتلاك، أو تخزين الأسلحة النووية، أو أجهزة التفجير النووي الأخرى.

 

فنظرة واقعية وموضوعية إلى الوضع الدولي الذي نعيشه اليوم لا تجعلني أتفاءل من جدوى هذه المعاهدة، وإمكانية تنفيذ بنودها، وتحقيق أهدافها. ويمكن تقديم الملحوظات التالية لدعم هذه النظرة، كما يلي:

أولاً: موقف الدول العظمى صاحبة القرار الدولي كان مقاطعاً كلياً لفكرة المعاهدة قبل ولادتها، وبعد ولادتها والمصادقة عليها في 24 أكتوبر، أكد رئيس أعظم دولة على وجه الأرض، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في خطاب أرسله إلى الأمم المتحدة قال فيه بأن الذين صادقوا على المعاهدة قد ارتكبوا "خطأ استراتيجياً"، كما دعا الخطاب دول العالم إلى إلغاء تصديقها على المعاهدة. فكيف إذن لهذه المعاهدة أن تسير في طريقها نحو التنفيذ، ونحو تحقيق أهدافها إذا كانت الدول التي تسيطر على قرارات كل مجلس، وكل منظمة، وكل وكالة تابعة للأمم المتحدة غير موافقة عليها؟

ثانياً: ما الجدوى الواقعية من معاهدة هدفها تحقيق الأمن والسلام من خلال منع امتلاك السلاح النووي، والدول التي صادقت عليها لا تمتلك آلية وقوة تنفيذها ومحاسبة من يخالف بنودها، فهي دول ليست لها عضوية دائمة في مجلس الأمن الذي له صلاحية وقرار تحقيق الأمن والسلام على المستوى الدولي، بل وهي الدول التي رفضت المعاهدة منذ أول يوم؟

وعلاوة على ذلك فإن الدول المصادقة على المعاهدة لا يملك أحد منها أي سلاح نووي من أي نوع، كما إنها مهما فعلت لن تستطيع امتلاك التقنية النووية الخاصة بتطوير وإنتاج أي نوعٍ من أنواع الأسلحة النووية دون أخذ إذن مسبق من الدول النووية المقاطعة للمعاهدة، أي أن مصادقتها لا تقدم ولا تؤخر في القضية شيئاً.

ثالثاً: الدول النووية الكبرى الخمس تَعْتبر "السلاح النووي" حكراً لها فقط، ويحرم كلياً على باقي دول العالم، وتعتبر التفوق في السلاح النووي خطاً أحمر لا يتخطاه أحد سواهم من الذين ينتمون إلى النادي النووي القديم، ولذلك فالسلاح النووي لن يتخلوا عنه مها كلف الأمر، وسيكون موجوداً عندهم وبأعداد كبيرة مهما صنعت الأمم المتحدة من معاهدات واتفاقيات، فهو رمز القوة والتفوق، وأداة للسيطرة والهيمنة والإذلال للدول الأخرى.

رابعاً: لو افترضنا جدلاً بأن الدول النووية وافقت على منع السلاح النووي وصادقت على المعاهدة، فماذا سيكون مصير الآلاف من جميع أنواع الأسلحة النووية الموجودة عندهم؟ فالأرقام والمعلومات حول أعداد وأنواع الأسلحة النووية عند الدول النووية سرية وغير دقيقة على المستوى العام، ولكن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام في "الكتاب السنوي 2020"، الإصدار قم (51) قدَّم بعض المعلومات الأساسية حول امتلاك دول العالم للسلاح النووي، فحسب هذا الكتاب الدول النووية العشر تمتلك ما مجموعه نحو 13600 سلاح نووي، حيث تمتلك روسيا 6372 سلاحاً نووياً، وأمريكا 5800، والصين 320، وفرنسا 290، وبريطانيا 215، وكندا 195، وباكستان 160، والهند 150، والكيان الصهيوني 90، وكوريا الشمالية 35.

خامساً: بين الحين والآخر نقرأ عن تحديث وتطوير الدول النووية العظمى لأسلحة نووية جديدة خارقة وقوتها التدميرية تفوق كثيراً قوة القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما، ففي الحادي عشر من سبتمبر من العام الجاري كشف الرئيس ترمب عن الأسلحة والأنظمة الجديدة التي استحدثت في بلاده، حيث قال: "أنا صنعتُ سلاحاً نووياً، أنا بنيتُ نظاماً للسلاح لم يصنعه أحد قط في هذا البلد من قبل"! كذلك كشف بوتين عن قيام روسيا بصناعة ما يُطلق عليه "الأسلحة العظيمة"( super weapons)، منها صواريخ بالستية طويلة المدى جداً تعمل بالطاقة النووية ومزودة بأسلحة نووية، وتفوقسرعتهاسرعةالصوت، ومنها طوربيدات طويلة المدى(ultra-long-range). ولذلك فالدول النووية ليست لديها مخزوناً هائلاً من الأسلحة النووية المكدسة عندهم فحسب، وإنما يخوضون سباقاً ماراثونياً دائماً لا ينتهي ضد بعضهم البعض ليُحرز كل واحد منهم المركز الأول والتفوق النوعي في إنتاج وتطوير أسلحة الدمار الشامل الحديثة والمتقدمة والذكية.

 

فهل يعقل أن هذه الدول العظمى التي بيدها أوراق القوة والسلطة المتمثلة في الأسلحة النووية ستَستَمع إلى الدول الضعيفة والمهمشة حول العالم، وتقوم طواعية بمنع التسلح النووي والتخلص من ترسانتها العسكرية النووية؟

طبعاً لا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق