الخميس، 12 نوفمبر 2020

هل انتهت الحرب على المخدرات؟

الآن وبعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ستوفر إحدى الولايات في الولايات المتحدة الأمريكية جواً آمناً، وتقدم خدمة متميزة ومريحة فريدة من نوعها على مستوى ولايات أمريكا ودول العالم أجمع  لمن يرغب في تتعاطى المخدرات، ولا أعنى هنا المخدرات العادية الخفيفة، وإنما أنواع المخدرات الثقيلة المدمرة للجسد والنفس والروح والمؤدية إلى الهلاك والسقوط في شباك الإدمان والموت المبكر.

ففي هذه الولاية لا تلاحقك الشرطة المعنية بمكافحة المخدرات، ولا تعتقلك الأجهزة الأمنية إذا تعاطيت قليلاً من الهيروين من أجل الترفيه عن نفسك، وفي هذه الولاية لا تُعتبر مجرماً يطاردك رجال القانون إذا حقنت جسدك بالكوكايين للترويح عن نفسك، وفي هذه الولاية أيضاً لا يجرمك أحد إذا كانت لديك كمية بسيطة من أكثر المخدرات إدماناً وتدميراً للبشر، وفساداً للمجتمعات، وتحطيماً للأسر، وتريد أن تستخدمه لأغراض شخصية، مثل الهيروين، والكوكايين، والأمفيتامين بمختلف أنواعه، إضافة إلى بعض أنواع الحبوب المهدئة والمسكنة للآلام والمعروف بأنها تسبب الإدمان.

فولاية أوريجن أثناء الانتخابات الأمريكية في الثالث من نوفمبر صوتت في استفتاءٍ خاص على مستوى الولاية، ولأول مرة في التاريخ الأمريكي خاصة وتاريخ المجتمعات البشرية العامة، على التوقف عن تجريم حيازة واستخدام الهيروين، والكوكايين، وميثأمفيتامين، وأوكسيكودون، وغيرها من المخدرات، وذلك بغرض الاستخدام الشخصي، ولأغراض الترفيه والترويح عن النفس، وبذلك لا يجرم أي إنسان في حوزته كل هذه الأنواع المختلفة من المخدرات المدمنة الشخصية، وفي حالة الإمساك بك، لا تعاقب، ولا تدخل السجن، وكل ما عليك القيام به هو دفع غرامة رمزية بسيطة جداً لا توقف أحد عن استخدامها مرة ثانية، إضافة إلى إجراء تقييم لك حول الإدمان.

فولاية أوريجن في الولايات المتحدة الأمريكية دائماً سباقة في قرارات الهدم وفساد المجتمع، فهذه الولاية أيضاً هي كانت أول ولاية لا تجرم حيازة الحشيش أو الماريوانا في عام 1973، ولا تجرم من يتعاطاه للتسلية والترويح عن نفسه، ولذلك وبهذا القرار فتحت أبواب جهنم على مصراعيه للولايات الأخرى وشجعتها على اتخاذ إجراءات وقرارات مماثلة بالنسبة لتحليل الحشيش، فإما عدم تجريم حيازته كخطوة شيطانية أولى، أو السماح له للاستخدام الفردي والترويح عن النفس، وإما السماح لاستخدامه لأهداف طبية كدواء وعلاج لبعض المرضى. وفي عام 1996 اتخذت ولاية كاليفورنيا قراراً تاريخياً على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية تمثل في استخدام الحشيش للأغراض الطبية وعلاج المرضى، ثم جاءت ولاية كولورادوا ففتحت الباب على مصراعيه في عام 2012  لاستخدام الحشيش للترفيه والترويح عن النفس. ومنذ ذلك الوقت وحتى الاستفتاء الذي أجري في الخامس من نوفمبر أثناء الانتخابات الرئاسية، هناك الآن 35 ولاية سمحت بالحشيش لأغراض طبية، و15 ولاية للترفيه والترويح عن النفس.

وهذا التيار الجارف التوسعي المتسارع لتحليل المخدرات عامة، والحشيش خاصة بدأ يكتسح الولايات المتحدة الأمريكية منذ الستة عقود الماضية، ولن يتوقف أبداً، وسيستمر حتى يبلغ ذروته، بحيث يتم تحليلها في كل الولايات الخمسين، وتغير الحكومة الفيدرالية سياساتها تجاه المخدرات، واستطلاعات الرأي تؤكد نظريتي هذه وتُشجع معظم رجال السياسة والقانون ومتخذي القرار على المضي قدماً وبسرعة في سياسة السماح للمخدرات لأي غرضٍ كان. ففي عام 1969 كانت نسبة الأمريكيين الموافقين على تحليل الحشيش 12% فقط، ثم ارتفعت بشكلٍ ملحوظ في عام 2000 فوصلت إلى 31%، وأخذت هذه النسبة في الزيادة والنمو كل عام، فنصف سكان أمريكا أبدوا موافقتهم في 2013، وأخيراً في عام 2019 ارتفعت إلى 67%.

وفي الحقيقة لا أستطيع تقديم تفسير علمي منطقي لهذا الهوس الأمريكي تجاه السماح للمخدرات، فهناك تناقض بين وفاضح في القرارات والسياسات الأمريكية المتعلقة بالمخدرات، فأمريكا نفسها ممثلة في أعلى سلطة وهي الرئيس أعلنت رسمياً في عهد الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون في عام 1969 "الحرب على المخدرات"، وأكد الرئيس على استئصال هذه الآفة المدمرة من المجتمع الأمريكي ومعاقبة جميع المتورطين في المخدرات ، وهي نفسها الآن طواعية وبمحض إرادتها ورغبة منها تفك جميع القيود عن استخدام المخدرات تدريجياً، عاماً بعد عام، وولاية تلو الأخرى، وكأنهم في سباق محتوم تجاه السماح للمخدرات والإعلان رسمياً بأن الحرب قد انتهت، وأنه قد حلَّ السلام بين الشعب والمخدرات.

فأمريكا حتى كتابة هذه السطور تعاني الأمرين من تعاطي الشعب الأمريكي على المخدرات من جهة والعقاقير المسكنة للألم والمسببة للإدمان من جهةٍ أخرى، فهي المواد المخدرة والمدمنة غزت كل بيت، واحتلت كل أسرة، فلم تسلم أية أسرة منها، سواء أكانت فقيرة أم غنية، متعلمة ومثقفة أم جاهلة ومتأخرة، وأخذت المخدرات لمدة عقود تنخر في الجسد الأمريكي حتى بلغت الإحصاءات الرسمية عن أعداد الموتى من المخدرات مبلغاً مخيفاً هزَّ المجتمع الأمريكي برمته، وأنذر بوقوع وباءٍ صحي شعبي عام يهدد الأمن الصحي والاجتماعي والاقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية. فهذا الوضع الكارثي المشهود، اضطر الرئيس الأمريكي السابق ترمب إلى الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية للإدمان على المخدرات في أكتوبر 2017.

فالتناقض إذن أن هناك شعباً يمرض ويموت في سنٍ مبكرة ويعاني جماعياً من انتشار تعاطي المخدرات، وفي الوقت نفسه نجد أن هذا الشعب يُطلق العنان لاستخدام هذه المخدرات!

ففي تقديري أستطيع أن أُقدم بعض التفسيرات لهذه الظاهرة الغريبة، وهي كما يلي:

أولاً: أظن بأن أمريكا فقدت السيطرة كلياً على ظاهرة تفشي المخدرات في المجتمع الأمريكي برمته، ولذلك لم تجد حلاً واقعياً وعملياً سوى إعطاء كافة الشعب الأمريكي الحرية المطلقة الكاملة، وإطلاق سراح المخدرات في المجتمع.

ثانياً: نظراً لتوسع انتشار تعاطي وحيازة وبيع المخدرات على المستوى الاتحادي، فقد ارتفعت أعداد المسجونين في كل معتقلات أمريكا، حتى أن السجون تشبعت وامتلأت واكتظت بالجرائم الخاصة بالمخدرات، فلا تستطيع تحمل المزيد من المسجونين، فكانت الخطوة الأولى لعلاج هذه الأزمة الخانقة هي عدم تجريم كل ما هو متعلق بالمخدرات، أي عدم اعتقال من بيدهم المخدرات وعدم إدخالهم السجون وبالتالي تخفيف العبء والضغط على سجون أمريكا. 

ثالثاً: الكلفة الاقتصادية الباهظة لإدارة الجرائم المتعلقة بالمخدرات، والمتعلقة بالجهاز الأمني، والجهاز القضائي، وغيرهما من المؤسسات والأجهزة الحكومية التي لا تتمكن من التعامل مع الحالات المتزايدة يومياً من جرائم المخدرات، فالحل العملي هو عدم التجريم كخطوة أولى، ثم السماح باستخدامه وحيازته كخطوة ثانية.

رابعاً: الأموال الضخمة التي تجنيها الولايات من الضرائب المفروضة على المخدرات بعد السماح بإنتاجها رسمياً وتسويقها، إضافة إلى خلق الوظائف المتعلقة بالمخدرات.

خامساً: جماعات الضغط من الأفراد والشركات الذين يحصدون المليارات من وراء السماح للمخدرات، فهؤلاء لهم سلطة ونفوذ ووزن في اتخاذ القرارات المتعلقة بتحليل المخدرات.

سادساً: غياب الوازع الديني في الأسرة الواحدة وبين شريحة كبيرة من المجتمع الأمريكي، وفقدان المبادئ والقيم الدينية والروحانيات الرفيعة، إضافة إلى طغيان الماديات وطلب الشهوة والراحة والسعادة الزائفة والمتعة الآنية المؤقتة من خلال تعاطي المخدرات والإدمان عليها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق