الأحد، 30 أكتوبر 2022

مؤشرات وتوقعات حول مصير اجتماع شرم الشيخ للتغير المناخي

 

نجاح أو فشل أي اجتماع للأمم المتحدة حول التغير المناخي يعتمد في تقديري على موقف الدول الأطراف في اتفاقية التغير المناخي والتزامهم وتعهدهم بتنفيذ قضيتين رئيستين. وهذا التقدير مبني على متابعاتي لاجتماعات التغير المناخي السنوية المستمرة منذ أن دَشنتْ دول العالم قضية التغير المناخي في جدول أعمال الاجتماعات الدولية الأممية الخاصة بها، بدءاً بقمة الأرض في عام 1992 في ريو دي جانيرو التي وَضعتْ النواة الأولى لاتفاقية إطارية أممية حول التغير المناخي حتى الاجتماع رقم (26) في نوفمبر 2021 في مدينة جلاسجو الأسكتلندية.

أما القضية الأولى فهي في مجال أمن الطاقة على المستوى الدولي، حيث من أهم وسائل مواجهة قضية التغير المناخي هي القضاء على سبب تكوين هذه الظاهرة الدولية العصيبة من مصادرها. ومن المعروف منذ عقود بأن السبب الرئيس لنشؤ ووقوع التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض وزيادة سخونتها هو انطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون الذي يتولد وينبعث أساساً من حرق كافة أنواع الوقود الأحفوري من نفط، وفحم، وغاز طبيعي في جميع مصادره التي لا تعد ولا تحصى، سواء أكانت السيارات والطائرات، أو محطات إنتاج الكهرباء، أو المصانع. وهذا يؤكد بأن نجاح الإنسان في خفض سخونة الأرض والتخلص من ظاهرة التغير المناخي يعتمد أساساً وبدرجة كبيرة على جهوده المشتركة على المستوى الدولي في التخلص من استخدام الوقود الأحفوري.

ولذلك إذا التزمت الدول في الاجتماعات الخاصة بمناقشة التغير المناخي، وتعهدت أثناء المفاوضات بخفض استخدام جميع أنواع الوقود الأحفوري، ثم نفذت ميدانياً هذه التعهدات بالتحول التدريجي من الوقود الملوث للهواء والمسبب للتغير المناخي إلى أنواع الوقود النظيفة والمتجددة، فعندئذٍ نستطيع أن نحكم بأن الاجتماع قد نجح وحقق البعض من أهدافه.

فمن بين 26 اجتماعاً للتغير المناخي حتى الآن، أستطيع أن أقول بأن من بين الاجتماعات الأكثر نجاحاً وفاعلية على الأرض كان الذي عُقد في مدينة كيوتو اليابانية عام 1996، والذي تمخض عنه بروتوكول كيوتو الذي يلزم دول العالم الصناعي المتقدم على خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات الأخرى المسؤولة عن ارتفاع حرارة الأرض، ثم بدرجة أقل كان اجتماع باريس لعام 2015. وبالرغم من هذا النجاح "المؤقت" للاجتماعين إلا أنهما فشلا على المدى البعيد لأسباب سياسية واقتصادية في تحقيق الأهداف الرئيسة، وهو الوصول إلى معاهدة دولية مشتركة وملزمة للجميع لخفض انبعاث غازات الدفيئة والتحول من الوقود الأحفوري إلى الوقود المتجدد غير الملوث للهواء الجوي.

واليوم نشهد نكسة دولية جديدة في مجال الطاقة ونوعية الوقود المستخدم، فقد تبخرت كل التعهدات السابقة وذهبت مع الريح، حيث رجعتْ دول العالم مرة ثانية إلى تعاطي الفحم والنفط والغاز الطبيعي، فإدمان العالم على هذا الوقود مازال مستمراً، وبخاصة بعد فبراير 2022 عند غزو روسيا لأوكرانيا، وخلط جميع أوراق الطاقة والوقود على المستوى الدولي، وخلق حالة وأزمة حادة متمثلة في شُحٍ شديد لمصادر الطاقة بجميع أنواعها، وبالتحديد في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية.

وقد أفادت "الوكالة الدولية للطاقة"( International Energy Agency) في التقرير المنشور في 27 أكتوبر 2022 تحت عنوان: "توقعات الطاقة الدولية"( World Energy Outlook) بأن الطلب على المدى القريب على الوقود الأحفوري من المتوقع أن يزيد ويرتفع ويصل إلى أعلى مستوى خلال الـ 15 عاماً القادمة، وهذا يعني بأن كوكبنا سيسير ببطء نحو طريق ارتفاع حرارته قرابة 2.5 درجة مئوية بحلول نهاية القرن.

وهذه المعلومات والتقديرات من الوكالة الدولية للطاقة تؤكدها الحقائق والوقائع الميدانية المشهودة على الأرض، وتثبت رجوع أوروبا إلى زواجها الدائم مع الفحم. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في 27 أكتوبر 2022 أَزالتْ ألمانيا وهدمت جميع أبراج ومعدات توليد الكهرباء بالرياح البالغ عددها 20 برجاً في مدينة كولون تمهيداً لإعداد واستصلاح الموقع للتنجيم عن الفحم واستخراجه لتوليد الطاقة الكهربائية، حيث يُنتج هذا المنجم نحو 190 مليون طن من فحم اللجنيت البني الشديد التلويث للبيئة.

فلا شك بأن هذه الأزمة الحالية العقيمة المتعلقة بندرة الوقود لإنتاج الكهرباء خاصة، ورجوع أوروبا وغيرها إلى الفحم والنفط ستنعكس مباشرة على مواقف وتوجهات الدول في أي اجتماع حول التغير المناخي، وستلقي بظلال ثقيلة ومظلمة عليه، مما يثير لدي الريبة وعدم التفاؤل في نجاح الاجتماع رقم (27) في شرم الشيخ في نوفمبر 2022، وبالتحديد بالنسبة للقضية الأولى التي ذكرتُها في مطلع المقال حول مواقف الدول وتعهداتها في نبذ الوقود الأحفوري، والتخلص من استخدامه على المدى القريب.

وأما القضية الثانية التي تُحدد مصير أي اجتماع حول التغير المناخي بين النجاح أو الفشل، فهي الجانب الاقتصادي، أو الجانب المالي المتعلق بمساهمة ودعم الدول الثرية والغنية المتقدمة للدول النامية والفقيرة في التكيف مع تداعيات التغير المناخي وتشجيعها على الاستثمار في مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، إضافة إلى خفض انبعاثاتها من الملوثات المسببة للتغير المناخي. ومن أجل ذلك تم تأسيس صندوق المناخ الأخضر(Green Climate Fund) في عام 2010 لتتحمل الدول الصناعية مسؤولياتها الأخلاقية التاريخية لتسببها في وقوع التغير المناخي ومساعدة الدول الفقيرة لمواجهة هذا التحدي. وقد تعهدت الدول الصناعية في عدة اجتماعات بدفع مبالغ مالية للصندوق، منها اجتماع باريس للتغير المناخي في عام 2015، حيث تعهد الأغنياء من الدول المتقدمة بدفع 100 بليون دولار سنوياً بحلول عام 2020، ولكن لم يتحقق من هذا الالتزام إلا الشيء اليسير والقليل، وفي كل اجتماع تتعهد الدول ولكن لا تلتزم بالدفع، واجتماع شرم الشيخ لن يكون مختلفاً.

فاليوم ونحن نواجه أزمة الحرب والانفاق العسكري الكبير، لن تتمكن حتماً الدول الغنية من الوفاء بالتزاماتها أثناء اجتماع شرم الشيخ، مما أيضاً يثير لدي الشكوك وعدم التفاؤل في نجاح هذا الاجتماع.

ولذلك أرى بأن هذ الاجتماع غير محظوظ، فقد جاء في التوقيت الخطأ وغير المناسب، فدول العالم المعنية تغيرت أولوياتها هذه الأيام ومنغمسة ومشغولة في قضية وجودية غير التغير المناخي، فهمها ينصب أولاً في توفير الطاقة، من أي مصدر، ولو كان الوقود الأحفوري، وثانياً الانفاق على الحرب لتحقيق النصر، وليس على مساعدة الدول الفقيرة لمواجهة التغير المناخي.

 

الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

مُلوثات الهواء غزت أجسام الأجنة

 

عندما نسمح بالملوثات من السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء بالإنبعاث إلى الهواء الجوي فإننا بذلك لا نؤذي أنفسنا فقط، ولا نضر بصحتنا فحسب، وإنما نعرض أيضاً حياة أبنائنا وأحفادنا والأجيال اللاحقة لخطر هذه الملوثات والتهديدات الصحية العقيمة التي تنجم عنها.

 

ومن هنا يكمن منبع الخطر، ومصدر التهديد على أجيالنا الحالية إضافة إلى الأجيال اللاحقة المستقبلية، فنحن نُورثهم بيئة غير مستدامة وغير قادرة على العطاء من الناحيتين النوعية والكمية، وفي الوقت نفسه نرتكب جرماً عميقاً في حقهم، ونجني عليهم بسبب تهاوننا وتجاهلنا للتهديدات العصيبة التي تصدر عن التلوث من مصادره التي لا تعد ولا تحصى، فنورثهم إضافة إلى مكوناتٍ بيئية مريضة صحة بشرية فاسدة عبر الأجيال، ونسبب لهم الأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج، فيصابون نتيجة لذلك عند ولادتهم بأمراضٍ عقلية، وجسدية، وإعاقات خَلْقية تلاحقهم ويعانون منها طوال سنوات حياتهم.

 

فمسيرة الملوثات وخط سيرها وانتقالها تبدأ أولاً بانبعاث هذه السموم إلى الهواء الجوي، ومنها الانتقال إلى أعضاء جسم الإنسان إما عن طريق الجلد مباشرة، أو عن طريق الغزو والزحف إلى الأنف، حيث خط المواجهة الأول عند الإنسان مع هذه الملوثات. وهناك عامل مهم جداً ورئيس يُحدد مسار الملوثات بعد دخولها من الأنف ومدى قُدرتها على الولوج في أعماق أعضاء الجسم الداخلية، فكلما صغر حجم هذه الملوثات وقل نصف قطرها كلما زادت حظوظها وارتفعت نسبة نجاحها في التوغل أولاً إلى الجزء السفلي من الجهاز التنفسي وتخطي العقبات الأولى في الجزء العلوي والانتقال بالتحديد إلى الحويصلات الهوائية الصغيرة في الرئتين، ثم الوصول إلى الدورة الدموية ومجرى الدم في جسم الإنسان، ومنها الانتقال إلى مثواها الأخير في مقبرة الجسم، وهي خلايا جسم الإنسان في كل الأعضاء مهما كانت صغيرة أو بعيدة وموجودة في مناطق محصنة ونائية. وأخيراً تأتي المرحلة النهائية من خط سير الملوثات في جسم الإنسان وهي البدء في التراكم والتضخم وارتفاع التركيز في الأنسجة والخلايا وإصابتها بمشكلات صحية مزمنة لا تُحمد عواقبها.

 

أما في حالة المرأة الحامل، فإن هذه المعضلة تتعقد كثيراً وتتشابك مع عوامل أخرى، ومسيرة الملوثات تختلف عن الرجل أو المرأة غير الحامل، فالضحية هنا التي تسقط فريسة سهلة للملوثات لن يكون الشخص نفسه فقط الذي تعرض للملوثات في الهواء الجوي فيقع في شباك الأمراض المزمنة، وإنما الضحية الأخرى الثانية ستكون ما تحمله المرأة من جنين أو أجنة في بطنها، وفي هذه الحالة أيضاً فإن تأثيرات التلوث تكون عامة وشاملة وأشد وطأة وتنكيلاً على البشرية جمعاء، ولها علاقة على المدى البعيد باستدامة حياة الإنسان على وجه الأرض.

 

وهناك دراسة نُشرت في المجلة الطبية الدولية المرموقة اللانست، صحة الكوكب(The Lancet Planetary Health) في الأول من أكتوبر 2022، تحت عنوان: "تعرض الأم الحامل لجسيمات الكربون الأسود في الهواء الجوي ووجودها في أعضاء الجنين". وهذه الدراسة تتناول مسيرة حياة نوعٍ واحدٍ فقط من أنواع الملوثات الكثيرة الموجودة في الهواء الجوي والتي لها مصادر متنوعة تنبعث منها، وهو نوع من الدخان الأسود، أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، وتُعرف بجسيمات الكربون الأسود(black carbon) التي يتراوح قطرها ما بين 10 إلى 400 نانوميتر. وهذه الجسيمات الكربونية الصغيرة تحتوي على عنصر الكربون بأشكاله المتعددة، وتنتج عن الاحتراق غير الكامل لمشتقات الوقود الأحفوري في السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، وأثناء التدخين، سواء السجائر التقليدية أو الشيشة، وحرق الفحم عند شواء اللحم، إضافة إلى حرق البخور والعود في المنازل والمساجد وغيرهما، مما يعني بأن الإنسان يتعرض لهذا الدخان الكربوني، سواء أكان داخل المنزل أو في البيئات الخارجية.

 

وقد توصلت هذه الدراسة التي تُعد الأولى من نوعها إلى عدة استنتاجات خطيرة تنذر بوقوع أزمات صحية ليست لنا فحسب، وإنما للأجيال القادمة على حدٍ سواء، ومن هذه الاستنتاجات ما يلي:

أولاً: أثبتت الدراسة بالتحاليل المخبرية بأن الجسيمات الكربونية الصغيرة الحجم تنتقل من الهواء إلى أعماق أعضاء جسم الإنسان، وبالنسبة للمرأة الحامل فإن هذا السم يتخطى كل الحواجز الطبيعية الفطرية في جسم الإنسان، فيتحرك حراً طليقاً داخل جسم المرأة ويمر عبر خيط المشيمة الدقيق الذي يربط حيوياً بين المرأة وجنينها، فيمكث في نهاية المطاف في جسد هذا الجنين الضعيف شديد الحساسية لأي تغيير خارجي.

ثانياً: أكد البحث بأن هذه الجسيمات التي تعبر حبل المشيمة وتدخل إلى الجنين، فإنها خلال أسابيع قليلة تتراكم في أعضاء هذا الجنين، حيث اكتُشف هذا الكربون الأسود في أنسجة كبد الأجنة والرئة والمخ.

ثالثاً: هناك علاقة بين شدة التلوث في الهواء الجوي وتركيز الملوثات في أعضاء الجسم، حيث أكدت الدراسة بأنه كلما تعرضت المرأة الحامل لتراكيز أعلى من الكربون الأسود، انعكس ذلك على زيادة تركيزه في أعضاء الأجنة.

رابعاً: تم اكتشاف الكربون الأسود في عينات كثيرة مرتبطة بالولادة، منها وجوده في أنسجة المشيمة، ودم الحبل السري، ودم الولادة. 

خامساً: أشارت الدراسة إلى أن وجود التلوث في أعضاء الجنين سيؤدي إلى تعقيدات وأزمات أثناء الحمل، وبخاصة بالنسبة لنمو  الجنين، إضافة إلى مشكلات في الولادة وفي صحة الجنين المولود، من حيث الولادة المبكرة، أو عدم اكتمال نمو أعضاء الجنين، أو انخفاض وزن الجنين، أو إصابة الجنين بإعاقات جسدية عضوية مزمنة طوال سنوات الحياة ولا يمكن التكهن بها ومعرفتها.

 

فهذه الدراسة الحالية ومثيلاتها من مئات الدراسات التي أكدت ووثقت غزو الملوثات لجميع أعضاء أجسادنا وتأثيرها الحاد والمزمن على صحة هذه الأعضاء، كقنبلة الدمار الشامل النووية التي تدمر كل شيء أمامها، من المفروض أن تكون دافعاً قوياً لنا في الاهتمام بجودة الهواء الجوي الذي يستنشقه كل إنسان وجعل هذه القضية في المرتبة الأولى من سلم الأولويات، وذلك من خلال أولاً منع مصادر فساد الهواء الجوي، ثم في المرتبة الثانية من الأولويات خفض نسبة الانبعاثات من جميع المصادر، سواء أكانت السيارات، أو محطات توليد الكهرباء، أو المصانع، أو مصادر تلويث البيئات الداخلية كتدخين السجائر والشيشة والسجائر الإلكترونية.

 

وجدير بالذكر فإن مجلس الوزراء الموقر ناقش في الاجتماع المنعقد في 26 ديسمبر 2021 المذكرة المرفوعة من وزير شؤون مجلس الوزراء بشأن تقرير المجلس الأعلى للبيئة حول جودة الهواء في مملكة البحرين لعام 2021، حيث أفادت المذكرة بأن يتم رصد جودة الهواء عبر محطات متخصصة وتحليل بياناتها وفق منهجيات معتمدة من منظمة الصحة العالمية، كما أكدت المذكرة بأن النتائج والتحاليل أظهرت بأن معظم مكونات الهواء في مملكة البحرين ضمن المعدلات الطبيعية.

 

ولكن ومنذ ذلك الوقت لم نشهد أية تطورات في هذا المجال من ناحية الجهود المبذولة ميدانياً في منع وباء التلوث من كل مصدر من مصادره لحماية الهواء ووقاية صحتنا من شره، إضافة إلى الشفافية في نشر المعلومات المتعلقة بجودة الهواء بشكلٍ شهري لكافة المواطنين من خلال وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي حتى يتعرف المواطن على نوعية الهواء الذي يدخل في جسمه فيعمل مع الجهات الحكومية والجمعيات الأهلية على تحسين نوعية الهواء ومنع التلوث من منبعه.

 

الخميس، 20 أكتوبر 2022

عصر انقراض الأحياء

 

في كل ساعة من كل يوم تنقرض كائنات حية نباتية أو حيوانية من على سطح الأرض، سواء أكان هذا الكائن الحي كبير الحجم، أو مجهرياً صغيرة الحجم لا يرى بالعين المجردة.

 

وفقدان الإنسان لهذه الكائنات الفطرية الحية تعني خسارة من نوعٍ ما لنا جميعاً، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ولكن في بعض الأحيان لا نعرف مدى تأثير هذا الانقراض على الإنسان أو على النظام البيئي، فلم يكتشف الإنسان أسرار هذا المخلوق وأسباب وجوده معنا على سطح كوكبنا.

 

فقد يكون هذا الكائن الذي اختفي من على الأرض مصدراً للغذاء للبشرية أو لكائنٍ حي آخر يعتمد في استدامة حياته على هذا الحيوان أو النبات، فاختفاؤه أو انخفاض عدده سيؤثر مباشرة على مسيرة حياته، كما ينعكس بشكلٍ غبر مباشر وعلى المدى البعيد أو القريب على الإنسان نفسه، أو قد يكون هذا المخلوق النباتي أو الحيواني الذي ولى ولن يعد مصدراً للدواء لعلاج الأمراض والأوبئة الحالية أو المستقبلية المزمنة والتي لم يتعرف الإنسان بعد على نشاطه البيولوجي كمصدر للعلاج لهذه الأمراض.

 

وفي الوقت نفسه فإن هناك شعوباً بأكملها تعيش كلياً على هذه الكائنات الحية، وتعتمد في حياتها اليومية عليها، إذ لا حياة كريمة وهانئة بدونها، فلهذه الأحياء بُعداً اقتصادياً وسياحياً واجتماعياً وثقافياً ورمزياً، إضافة إلى الأبعاد الأخرى المتعلقة بالغذاء، والكساء والملبس، والمسكن.

 

وقد أكد على حقيقة هذا التهديد الوجودي للكائنات الحية وفقدان التنوع الحيوي الحيواني بصفةٍ خاصة، التقرير المنشور من الصندوق العالمي للطبيعة(World Wide Fund for Nature) في أكتوبر 2022 تحت عنوان: "تقرير الكوكب الحي لعام 2022(Living Planet Report 2022)، حيث شارك في إعداده 89 عالماً من مختلف دول العالم.

وقد توصل التقرير إلى عدة استنتاجات عامة مهمة على الصعيد الدولي، منها ما يلي:

أولاً: أفاد التقرير بأنه منذ عام 1970 وخلال الخمسين عاماً الماضية خسرت الأرض قرابة 70% من الحياة الفطرية البرية الحيوانية في البر والبحر والجو، حيث شمل التقرير دراسة 5230 نوعاً من الكائنات الحيوانية، من ثدييات وطيور وزواحف وأسماك، حسب مؤشر الكوكب الحي(WWF Living Planet Index).

ثانياً:  هذه النسبة المتعلقة باختفاء الكائنات الحية الحيوانية تختلف في شدتها من منطقة إلى أخرى، ففي إمريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي كانت النسبة هي الأعلى، حيث بلغت الخسائر 94% نتيجة لإزالة الغابات في منطقة الغابات المطيرة، وبخاصة غابات الأمازون، وفي المرتبة الثانية جاءت أفريقيا بنسبة 66%، ثم آسيا والباسيفيك 55%، وأمريكا الشمالية 20%، وأخيراً أوروبا وآسيا الوسطى بنسبة 18%.

ثالثاً: أفاد التقرير بأن كائنات المياه العذبة انخفضت بنسبة 83% منذ عام 1970.

رابعاً: هناك عدة أسباب تقف وراء هذا الموت الجماعي للكائنات الحيوانية خاصة، والكائنات الحية والتنوع الحيوي عامة، من أهمها التدهور العصيب الذي لحق بالبيئات الفطرية الطبيعية في البر والبحر والجو من الناحيتين النوعية والكمية. فإزالة الغابات التي تحمل في بطنها الملايين من الكائنات النباتية والحيوانية تتم إزالتها بشكلٍ ممنهج في كل دول العالم من أجل ثرواتها ومواردها من الخشب ومن أجل توفير المساحة لزراعة المحاصيل للأكل والطاقة. كذلك حرائق الغابات المتزايدة في مساحتها وتكرارها تقضي على التنوع الحيوي بشكل مباشر وخطير وتهدد استدامة عطائها.

ومن جانب آخر هناك الصيد الجائر واستنزاف الثروات البحرية، إضافة إلى مخلفات الصيد من شباك وأدوات ومعدات الصيد التي تهدد حياة الثروة البحرية. فقد نُشرت دراسة في مجلة "تطورات العلم"(Science Advances) في 14 أكتوبر 2022 تحت عنوان: "تقديرات دولية حول فقدان أدوات الصيد في المحيط كل سنة"، حيث قدَّمت الدراسة تقديراً لأدوات وشباك الصيد التي ضاعت، أو فُقدت في المحيطات على المستوى الدولي، منها أكثر من 810 آلاف كيلومتر مربع من خمسة أنواع من الشباك المستخدمة في الصيد، إضافة إلى 25 مليون من الأدوات الأخرى بشكلٍ سنوي، ولا شك بأن لكل هذه المخلفات تداعيات عقيمة تهدد أمن وسلامة الموارد البحرية الحية، وتؤدي مع الوقت إلى انخفاض أعدادها ثم انقراضها.

كذلك من أسباب تدهور التنوع الحيوي وانقراض الأحياء هو تلوث مياه البحار بالمخلفات الصناعية، ومياه المجاري، ومياه الصرف الزراعي، إضافة إلى تداعيات التغير المناخي المتعلقة بسخونة الأرض وارتفاع حرارة المياه وتأثيراتها المباشرة على الأحياء التي تعيش فيها. وعلاوة على ذلك هناك التلوث الأحيائي وغزو الكائنات الأجنبية الدخيلة إلى المسطحات المائية وتأثيراتها المباشرة على أعداد الكائنات الفطرية الأصيلة التي تعيش في تلك البيئات المائية.

 

فهذا التدهور في أعداد الكائنات الحية بشقيها النباتي والحيواني يعد ظاهرة دولية يمكن مشاهدتها في كل دول العالم. ففي البحرين، على سبيل المثال، لا شك بأننا فقدنا الكثير من التنوع الأحيائي، فانقرض بعض الكائنات الحية النباتية والحيوانية من على أرض البحرين. وأستطيع هنا أن أُقدم تقييماً نوعياً وليس كمياً لهذه الظاهرة، فالدراسات عندنا حول نوعية وأعداد الأحياء في بيئة البحرين شحيحة جداً وغير شاملة. فلو رجعنا إلى الوراء قليلاً وبالتحديد إلى النظام البيئي الفريد من نوعه للعيون الطبيعية في البر والبحر، ففي بيئة العيون الطبيعية عاشت أنواع من الأسماك التي انقرضت كلياً مع جفاف العيون، كذلك في هذه البيئة اختفت البرمائيات التي كانت تعيش بالقرب منها مثل الضفادع وسلاحف المياه العذبة، إضافة إلى النباتات التي كانت تعيش فيها، ومنها غابات النخيل التي انخفضت أعدادها بنسبة ملحوظة للجميع وانخفضت معها أعداد الطيور، وبخاصة الطائر المغرد الوحيد في البحرين وهو البلبل. وعلاوة على ذلك فبيئة السواحل البحرية تعرضت لعمليات الحفر والدفان في مناطق واسعة، ولا يعلم أحد كم من كائنات حية حيوانية ونباتية فقدتها البحرين واختفت إلى الأبد وبدون رجعة من البيئة البحرية، كما انخفضت في الوقت نفسه أعداد الأسماك كمياً ونوعياً. ومن البيئات البحرية ننطلق إلى المناطق الصحراوية التي تغيرت هويتها إما للتنمية العمرانية، وإما لعمليات التنقيب عن النفط والغاز، والتي بدورها أثرت سلباً على الأعشاب البرية والحيوانات والطيور التي تعيش عليها وتحت ظلها.   

وفي الولايات المتحدة الأمريكية نُشر تقرير في 12 أكتوبر 2022 تحت عنوان "حالة الطيور 2022"، وهذا التقرير قدَّر عدد الطيور التي فقدتها الولايات المتحدة الأمريكية وكندا منذ عام 1970 بقرابة 3 بلايين، إضافة إلى أن هناك 70 نوعاً من الطيور يواجهون خطر الانقراض ومهددون بالاختفاء من على سطح الأرض وسماء كوكبنا، حيث انخفضت أعدادها بنحو 50%.

فالتقارير التي تثبت انقراض الأحياء بدرجة مقلقة وعلى نطاقٍ واسع في كل بقاع الأرض في البر والبحر والجو تتجدد يوماً وبعد يوم، وكلها تشير إلى أننا نقف في المستقبل القريب المنظور أمام تهديد وقوع الانقراض السادس للأحياء من على سطح كوكبنا، فهل من مُجيب لنداءات هذه التقارير؟

 

الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

متى يكون الغذاء "عضوياً"؟

لا تستغرب إذا قلتُ لك بأن المنتجات الغذائية التي تأكلها من لحوم، ودواجن، وألبان، ومعلبات غذائية، وخضروات وفواكه طازجة، وغيرها من كل أنواع الطعام، تخضع معظمها لعمليات تجميل عامة، وتضاف إليها مستحضرات الزينة والجمال لجعلها أكثر جاذبية وشهية، وفي أكمل صورة وأحسن منظر، فتبدوا وكأنها طازجة وجديدة قبل أن تدخل الأسواق وتصل إليك.

 

فمنذ عقود طويلة وكل المنتجات الغذائية، إلا ما نَدَرَ وقلَّ منها، تُضاف إليها الكثير من مركبات التجميل والزينة الكيميائية المتنوعة، وكل مركب منها متخصص في مهمة محددة لإضفائها إلى المادة الغذائية لكي تكون أكثر جاذبية ومتعة للمستهلك، وكل مُضاف يوضع في الطعام يهدف إلى تحقيق هدفٍ محدد يدخل في باب الغش وتضليل المستهلك، فمنها تحسين الشكل  أو الهيئة أو المظهر العام، ومنها ما يهدف إلى تغيير الطعم والمذاق  لهذه المادة الغذائية لكي تكون أكثر قبولاً من ناحية الطعم للناس، ومنها المضافات الحافظة التي تطيل من عمر المنتج الغذائي، وتزيد من فترة انتهاء صلاحيته وسلامته، وتطيل أمد تخزينه.

 

وعلاوة على ذلك كله فهناك الحقن التي تُعطى للمواشي والدواجن الحية من هرمونات ومضادات حيوية لجعلها أكثر إنتاجية، وتسريعاً في نموها، وزيادة في نسبة لحومها وحليبها، إضافة إلى شتى أنواع مبيدات الآفات والأعشاب والأسمدة الكيميائية التي تضاف إلى تربة المحاصيل الزراعية لقتل الحشرات من جهة، ورفع جودة وسرعة نمو المحصول من خضروات وفواكه من جهة ثانية.

 

ومن هذه المضافات الغذائية والزراعية والحقن الحيوانية ما هو معروف في محتواه وتركيزه وسلبياته وأضراره على صحة الإنسان والأمراض التي يقع فيها بسببها، ولكن يبقى الكثير من هذه المكونات التي تضاف إلى الغذاء سري ومجهول الهوية والمصدر، ولا يعلم أحد التداعيات الناجمة عنها على الإنسان وتهديداتها العصيبة لسلامة مكونات البيئة الحية وغير الحية، ولا تسمح الشركات العملاقة بالبوح عن كل مكونات المنتجات الغذائية وتأثيراتها على الأمن الصحي للبشر جمعاء، ولا يمكن لأية دولة أن تُجبر هذه الشركات على الإعلان عن كامل محتوى منتجاتها الغذائية، أو أن تفرض عليها نشر القائمة الشاملة للمواد الكيميائية الموجودة فيها وتأثيراتها طويلة المدى على المستهلك.

 

فعلى سبيل المثال هناك مضافات كثيرة لا تتخيلها ولا تتوقعها تُوضع على اللحوم بشكلٍ عام، منها بهدف تحسين وتجميل الهيئة والمظهر الخارجي، ومنها مزينات ومضافات تغيير اللون إلى اللون الأحمر الفاقع لتوحي للمستهلك أنه طازج، وهناك كذلك المُثبتات والمُلينات ومغيرات الطعم والرائحة والنكهة، إضافة إلى المواد الحافظة التي تمنع تحلل ونمو البكتيريا وغيرها من الكائنات الدقيقة المسببة للمرض ليطول عمر تخزينها.

 

فهذه الظاهرة الغذائية الصحية العقيمة التي تعاني منها كل دول العالم منذ عقود طويلة من الزمن، ولم يسلم منها أي شعب مهما كان فقيراً أو غنياً، جعلت الناس يبحثون عن البديل الصحي المستدام، واضطرتهم إلى شراء أية منتجات غذائية تدَّعي بأنها صحية وخالية من هذه المضافات التجميلية التي تشكل خطراً على الصحة العامة، كما أن هذه الشركات العملاقة نفسها التي تضع الملوثات الكيميائية في غذائنا، استغلت هذه الحاجة الماسة والملحة للناس وتوجههم نحو الإنفاق أكثر على الغذاء الصحي الخالي من السموم والمضافات، كما استغلت هذه الشركات الجشعة بحث الملايين من البشر في كل بقاع العالم عن البديل الذي يقي صحتهم من أمراض المضافات والمحسنات الغذائية، فبدأت بالتفكير في منتجات غذائية تتجنب إضافة كل مكونات الزينة والتبرج وتحسين المظهر والطعم، واعتبرت هذه الشركات بأنها فرصة ذهبية لا تعوض للتسويق والتربح وجمع المال، فجاءت فكرة "الغذاء العضوي"، أو "المنتج الغذائي العضوي".

 

ومن خلال بحثي السريع في مصطلح "الغذاء العضوي"، وبالتحديد في وثائق وتقارير وزارة الزراعة الأمريكية، فإنني أُقدم لكم ملخصاً لتعريف هذا المصطلح، والمعايير والاشتراطات التي تجعل من المنتج الغذائي أو المحصول الزراعي عضوياً.

أولاً: المحصول الزراعي من خضروات وفواكه يجب أن يزرع أولاً باستخدام بذور سليمة خالية من الملوثات، إضافة إلى أن تكون البذور غير معدلة جينياً، ولم تخضع لتقنيات الهندسة الوراثية، علاوة على عدم تعرضها للإشعاعات المؤينة.

ثانياً: عدم استخدام حمأة مياه المجاري في زراعة المحاصيل المأكولة والتي تكون عادة مصدراً مُرَكزاً للسموم والعناصر الثقيلة التي تبقت من عملية معالجة مياه المجاري في المدن والمناطق الصناعية، إضافة إلى عدم استعمال الأسمدة الكيميائية والمبيدات بأنواعها المختلفة، كمبيدات الطفيليات والفطريات والحشرات والأعشاب. 

ثالثاً: عدم استعمال المضادات الحيوية عند تربية المواشي والدواجن، إضافة إلى منع حقن هذه الحيوانات التي يأكلها البشر بالهرمونات بمختلف أنواعها.

رابعاً: السماح للمواشي للرعي في البيئات العشبية الطبيعية التي تُسقى بماء المطر  في معظم أوقات السنة من أجل التعرض لأشعة الشمس وتناول العلف الصحي والسليم، وتجنب حبس الحيوانات في مواقع لا تتحرك فيها ولا يمكنها الخروج منها. 

 

فهذه النقاط الأربع تشكل العمود الفقري لأي تعريف، أو مواصفات للغذاء والمنتج "العضوي"، سواء من مصادر نباتية أو حيوانية، وهذه النقاط يجب أن تلتزم بها الشركات المُصنعة للطعام العضوي لكي تحصل على شهادة من وزارة الزراعية الأمريكية ومصادقة رسمية بأن منتجها عضوي، كما أنها يسمح لها بوضع علامة، أو ملصق على المنتج بأنه عضوي ومرخص من قبل وزارة الزراعة.

 

وبالرغم من وجود هذه المواصفات العامة إلا أننا يجب أن لا تأخذنا العاطفة والرغبة الشديدة في اقتناء الغذاء الصحي ونؤمن بكل ما تروجه لنا الشركات العملاقة من دعايات وادعاءات، فيجب علينا أن نتوخى الحذر والحيطة عند الاختيار وعند شراء المنتج الغذائي العضوي، فالغش وتضليل المستهلك ثقافة متجذرة في هذه الشركات الكبيرة التي تدَّعي بأنها تنتج الطعام العضوي، كما أنها تستغل كل ثغرة، وكل منفذ، وكل وسيلة لكي تغريك إلى شراء منتجاتها.

 

ومن جانب آخر فإنه في تقديري، ومن الناحيتين العملية والواقعية فإنه لا يوجد منتجاً عضوياً كاملاً خالياً من الشوائب، مهما فعلنا، ومهما اتخذنا من إجراءات صارمة، فنحن نعيش في بيئة تحيط بها الملوثات من كل جهة، فهذه الملوثات ضربت أطنابها بشدة في كل مكونات البيئة الحية وغير الحية، فهي موجودة في أعماق المياه الجوفية والسطحية، وفي التربة، وفي الهواء الجوي وفي أعالي السماء، وحتى المطر الذي ينزل علينا من السماء يكون مشبعاً بشتى أنواع السموم، والتي بدورها تنتقل إلى التربة، فالنباتات والحيوانات التي نأكلها، وأخيراً تصل إلينا شئنا أم أبينا.

 

الأحد، 9 أكتوبر 2022

أمريكا تُعيد تعريف الغذاء "الصحي"؟

المواصفات والمعايير التي تضعها الدول في كافة القطاعات سواء أكانت بيئية، أو صحية، أو غذائية ليست جامدة لا تتحرك، وليست ثابتة لا تتغير، وليست أبدية ومخلدة تبقى أبد الدهر، وإنما هي اجتهادات وقتية ومؤقتة تَحكُمها الأدلة العلمية، وتحددها الظروف الاقتصادية والتقنية في تلك الفترة الزمنية، ولذلك فالمواصفات عملية ديناميكية قابلة للتغيير والتبديل، ومعرضة لعملية التحديث والتجديد في أي وقت إذا توافرت معلومات جديدة وحديثة، فيجب مراجعتها وإعادة صياغة التعريفات والمعلومات المتعلقة بها لكي تواكب هذه المواصفات استنتاجات الأبحاث الميدانية المستمرة، وتلاحق المستجدات العلمية، وتتماشى مع المبتكرات التقنية والأجهزة الحديثة.

 

ففي القطاع البيئي على سبيل المثال حدَثتْ تطورات وتغيرات على بعض المواصفات الخاصة بجودة الهواء الجوي لسبب رئيس هو أن كل مواصفة تُوضع تُعارضها بعد سنوات الأدلة العلمية والأبحاث الطبية التي تؤكد بأن هذه المواصفة غير صالحة ولا تحقق الهدف من وضعها وهي حماية صحة الإنسان.

 

 فغاز الأوزون يُعد من الملوثات الثانوية، أي لا توجد مصادر تنبعث منها غاز الأوزون مباشرة، وإنما يتكون نتيجة تفاعل بعض الملوثات التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء مثل ثاني أكسيد النيتروجين والغازات العضوية المتطايرة، حيث تتفاعل هذه الغازات مع بعض عند وجود الشمس، فتُكوِّن خليطاً معقداً ومدمراً من الملوثات التي تهدد صحة الإنسان والنبات والحيوان والمواد. ولذلك عندما أَصدرتْ الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1970 قانون الهواء النظيف، وضعتْ مواصفة جودة الهواء للملوثات "المؤكسدة الكيميائية الضوئية الكلية"، وبمتوسط تركيز لا يتعدى 80 جزءاً في البليون في الساعة الواحدة، ثم في عام 1979 تم تغيير المواصفة لتكون خاصة بغاز الأوزون، وبتركيز 120 جزءاً في البليون، كما تم تغيير وخفض هذه المواصفة للمرة الثالثة في عام 1997 ليكون التركيز في مدة 8 ساعات لا يتجاوز 80 جزءاً في البليون. وبعد ذلك أجمعت الدراسات أن غاز الأوزون يؤثر على صحة الإنسان بمستويات أقل من هذه المواصفة، مما اضطرت الجهات المعنية في عام 2008 إلى إجراء تغييرٍ رابع على هذه المواصفة، فأصبحت 75 جزءاً في البليون خلال 8 ساعات. وتواصلت الأبحاث العلمية في مجال الانعكاسات الصحية والبيئية الضارة لغاز الأوزون على البشر والشجر والحجر، وأكدت أيضاً من جديد على أن المواصفة التي وُضعتْ في عام 2008 تُعد غير صالحة وغير مجدية ولا تفي بهدف حماية صحة الناس، فقامت وكالة حماية البيئة الأمريكية في عام 2015 للمرة الخامسة بالتغيير، فانخفض معدل التركيز إلى 70 جزءاً في البليون في فترة 8 ساعات. ومازالت المحاولات مستمرة من قبل الأطباء وعلماء البيئة ورجال القانون لإجراء تغييرٍ سادس على هذه المواصفة، حيث إن آخر الدراسات والأبحاث أشارت من جديد بأن المواصفة السابقة أصبحت بالية وقديمة وغير صالحة للاستعمال، فالمقترح الجديد هو أن تُخفض إلى 60 جزءاً من غاز الأوزون في البليون جزء من الهواء الجوي.

 

وفي قطاع التغذية تقع اليوم تغييرات مشابهة لما حدث لغاز الأوزون، حيث أصدرتْ إدارة الغذاء والدواء الأمريكية التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية إعلاناً في 28 سبتمبر 2022 تحت عنوان:"مُقترح اشتراطات علامات الغذاء: دعاوى محتوى المواد الغذائية، تعريف مصطلح "صحي". وهذا الإعلان الحالي يُعد مراجعة أولية شاملة، وإعادة تعريف وتحديث لمصطلح المنتج الغذائي "الصحي" الذي وضعته الإدارة في عام 1994، حيث كان التركيز في ذلك الزمن على نسبة الدهون الموجودة في الطعام.

 

وهذا الإعلان يتزامن مع المؤتمر الذي عُقد في البيت الأبيض تحت عنوان: "مؤتمر البيت الأبيض حول الجوع، التغذية والصحة" في 28 سبتمبر 2022، والذي يهدف إلى القضاء على الجوع، وتحسين التغذية والنشاط البدني، إضافة إلى خفض الأمراض المتعلقة بالغذاء، كما يهدف المؤتمر إلى تدشين استراتيجية قومية حول القضاء على الجوع، ورفع مستوى ونسبة التغذية الصحية والنشاط البدني بحلول عام 2030.

 

وفي تقديري هناك سببان رئيسان للتركيز الآن على الغذاء "الصحي"، وإعادة النظر في التعريف والمواصفة القديمة، وهما أولاً بأن المواصفة السابقة للمُنتج الغذائي "الصحي" لا تفي بالغرض، ولا تستقيم مع نتائج البحوث الغذائية الموثقة، فالمواطن الأمريكي، كما هو الحال بالنسبة للناس في معظم الدول الغنية والثرية، وفي مقدمتها دول الخليج، يعاني من أنماطٍ غير صحية، وسلوكيات وعادات غذائية غير سليمة ولا تقي من الأمراض المزمنة. وثانياً فإن المواطن الأمريكي والكثير من البشر في دول العالم يقعون تحت وطأة الأسقام التي لها علاقة بسوء استهلاك نوعية الغذاء من جهة، والإفراط في استهلاكه من جهة أخرى، ولذلك في هذه الدول، وبخاصة الأطفال والشباب منهم يقاسون من تفاقم الإصابة بالأمراضٍ التي لها علاقة بالغذاء نوعياً وكمياً، حتى إن هذه العلل تحولت إلى أوبئة عامة يسقط فيها الأطفال والشباب خاصة، مثل البدانة والسمنة والوزن الزائد، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب. 

 

ولذلك وحسب التعريف الجديد للمُنتج الغذائي "الصحي"، يجب أن يحتوي على حدٍ أدنى من بعض المكونات الضرورية لوقاية صحة الإنسان ونموه، وبالتحديد الخضروات، والفواكه، والألبان أو البروتينات، إضافة إلى تحديد كمية محتويات الدهون المشبعة، والصوديم، والسكر المضاف غير الطبيعي في هذا المُنتج. فعلى سبيل المثال، رقائق الذرة والحبوب(كُورن فلاكس، أو السيريل) يجب أن لا تحتوي على أكثر من جرام واحد من الدهون المشبعة، و 230 ميليجراماً من الصوديم، و 2.5 جرام من السكر المضاف. فإذا التزم المُصنع لهذه المادة الغذائية بهذه المحتويات، فيُسمح له عندئذٍ  إطلاق كلمة "صحي" على العلبة، أو وضع ملصق وعلامة رمزية تفيد بأنه منتج "صحي".

 

وتماشياً مع هذه التطورات الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية حول المُنتج الغذائي الصحي، علينا أولاً تغيير سلوكيات وعادات المواطنين الغذائية من حيث نوعية وكمية الغذاء الذي يتناوله المواطن يومياً من أجل وقايته وحمايته من التعرض للأمراض المزمنة المتعلقة بالغذاء، وثانياً أن نلحق بركب توفير الغذاء الصحي للمواطنين حسب التعريفات والمواصفات الجديدة، وأن نعمل على تقنين ومراقبة دخول أي منتجٍ غذائي في البحرين بحيث يتوافق مع هذه المعايير الغذائية الصحية، والأمر الثالث والأخير هو أن نُتابع دائماً آخر المستجدات والتطورات العالمية العلمية والتقنية في جميع القطاعات، سواء أكانت المتعلقة بالغذاء الصحي، أو معالجة الأمراض والوقاية منها، أو حماية البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية. 

 

الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

مناطق ميتة في مياه الخليج؟

مناطق صحراوية قاحلة لا حياة فيها ولا روح لها تم اكتشافها في مياه الخليج العربي، وبالتحديد في المواقع العميقة في وسط الخليج، حيث قُدرت مساحتها بآلاف الكيلومترات المربعة.

 

وهذه المناطق الجرداء المقفرة التي تُغطي مساحات شاسعة من الخليج تتصف بأنها خالية من الأكسجين الذائب في الماء، أو أنها منخفضة تركيز الأكسجين، بحيث إن الكائنات الحية لا تستطيع أن تعيش في هذه الأجواء الخانقة التي لا تُعين ولا تساعد على الحياة. فانخفاض تركيز الأكسجين الذائب في الماء كانخفاض تركيز الأكسجين في الهواء الجوي، وبخاصة عندما يصْعَد الإنسان ويعرج في السماء، أو يتسلق الجبال الشاهقة، والذي يؤدي إلى ضيق صدر واختناق الإنسان والكائنات الحية الأخرى ثم موتها.

فقد نَشر المركز العربي للمناخ والعلوم البيئية(Arabian Center for Climate and Environmental Sciences)في جامعة نيويورك بإمارة أبوظبي بحثاً في السابع من سبتمبر 2022 في مجلة(Frontiers in Marine Science) تحت عنوان: "اتساع وتفاقم انخفاض تركيز الأكسجين في الخليج العربي وأسبابه في الفترة من 1982 إلى 2010". فقد كشفت هذه الدراسة النقاب عن هذه الظاهرة البحرية المهددة لاستدامة حياة الكائنات البحرية، والمتمثلة في المناطق منخفضة تركيز الأكسجين الذائب في الماء، حيث خلصت إلى عدة استنتاجات، منها ما يلي:

أولاً: هناك مواقع في مياه الخليج العربي تعاني من انخفاضٍ شديد في مستوى وتركيز الأكسجين الذائب في الماء، وثانياً تفاقم هذه المشكلة مع الوقت وازدياد مساحة هذه المناطق مع الزمن خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث أفادت الدراسة بأن تركيز الأكسجين ينخفض بنسبة 1% كل عشر سنوات، كما أن زيادة المساحة الجرداء المقفرة تُقدر من عشرين ألف كيلومتر مربع في عام 1980 إلى ثلاثين ألف في عام 2000، أي أن المنطقة الميتة تتوسع وتزيد بنسبة 3818 كيلومتراً مربعاً كل 10 سنوات، وثالثاً وجود مواقع في قاع الخليج خالية تماماً من الأكسجين في بعض المواسم، وبالتحديد في الصيف ومطلع فصل الخريف، فتُصاب بحالة مرضية بحرية يُطلق عليها "الهيبوكسيا"(hypoxia)، وهذه المناطق تتركز في وسط الخليج في المياه العميقة.

وهذه الدراسة التي أُجريت على مياه الخليج العربي تُضيف مثالاً حياً آخر على واقعية هذا المرض الذي تتعرض له بحار، وبحيرات، وأنهار العالم أجمع من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، فنادراً ما تشاهد أو تسمع عن مسطحٍ مائي قد نجا من السقوط في هذا المرض البحري. فقد بدأ العلماء الميدانين بتقصي ومراقبة هذه المناطق الميتة منذ مطلع القرن المنصرم، فعلى سبيل المثال، سجل العلماء قرابة 49 صحراء بحرية قاحلة، ثم ازدادت هذه المقابر إلى 149 في عام 2004، وإلى 200 في 2015، واستمرت هذه الزيادة في عام 2018 حيث بلغت 405، وأخيراً تُقدر هذه المقابر بأكثر من 500 مقبرة جماعية بحرية.

وهناك سببان لظهور هذه المناطق البحرية الميتة وارتفاع أعدادها سنوياً وبشكلٍ مطرد. أما السبب الأول فيرجع إلى أسباب تقليدية قديمة معروفة منذ أكثر من قرن. فعلى سبيل المثال، هناك مياه المجاري المعالجة أو غير المعالجة التي تصرف في المناطق الساحلية بأحجام كبيرة جداً حتى يومنا هذا، حيث تخرج مظاهرات واحتجاجات في بريطانيا بسبب صرف مياه المجاري الخام إلى البحر. كذلك هناك مياه الصرف الزراعي المحملة بالمغذيات والتي تجد مصيرها في نهاية المطاف إلى المسطحات المائية، إضافة إلى مياه المسالخ. كذلك تُصرف في المسطحات المائية مياه المصانع، وبالتحديد المياه الحارة الناجمة عن العمليات الصناعية، وبخاصة عمليات تحلية مياه البحر. فكل هذه المصادر تحمل في بطنها مواد مغذية عضوية وأخرى عناصر غذائية مثل الفوسفور والنيتروجين، والتي تعمل كسماد ومواد تزيد من خصوبة النباتات وتحدث انفجاراً شديداً وعلى نطاق واسع في نمو الكائنات النباتية المجهرية(الفيتو بلانكتون) والنباتات الأخرى الموجودة في البحر بدرجة طفرية كبيرة وعلى مساحات واسعة لا يمكن التحكم فيها، وتؤدي إلى ظهور المد الأخضر، أو الأحمر، أو البني. وهذه الغابات الكثيفة من النباتات البحرية تمنع نفاذ الضوء إلى أعماق البحر فتموت هذه النباتات وتترسب إلى القاع فتقوم البكتيريا الهوائية واللاهوائية بتحليل هذه النباتات واستهلاك الأكسجين الموجود في الماء حتى ينفد كلياً فتتحول المنطقة إلى صحراء ومقبرة لكل من يعيش فيها، وفي بعض الحالات الحادة تتحول إلى مستنقع آسن تنبعث عنها الملوثات الكريهة الرائحة. كذلك من المصادر التي من صُنع أيدينا هي عمليات حفر ودفن البحر، إضافة إلى عمليات التنقيب عن واستخراج النفط والغاز الطبيعي.

وأما السبب الثاني المستجد منذ نحو عقدين من الزمن فهو التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، والتي بدورها ترفع درجة حرارة البحر، وتعمل على خفض نسبة الأكسجين الذائب في الماء.

فكل هذه الأسباب التي من صنع أيدينا، إضافة إلى حرارة مياه البحر الطبيعية في أشهر الصيف وبداية موسم الخريف تعمل معاً بشكلٍ مجموعي وتراكمي على انكشاف هذه الظاهرة القديمة المتجددة، والتي أخذت في التفاقم في السنوات القليلة الماضية، وتحولت إلى وباء عام يصيب المسطحات المائية وينتشر في شتى أرجاء العالم.

ولذلك اجتمع العلماء من دول العالم ليرفعوا حالة الإنذار القصوى حول الأمراض والأسقام المزمنة التي باتت تصيب البحار والمحيطات، وأصبحت لها تداعيات كثيرة تؤثر بشكلٍ مباشر على المخزون السمكي، وتهدد الأمن الغذائي لدول العالم ومصدر رزق الملايين من البشر الذين يعيشون على خيرات البحر الحية بجميع أنواعها وأحجامها. ومن هذه الاجتماعات التي تطرقت بشكلٍ مباشر إلى أزمة نقص الأكسجين وشحه في مياه البحار هو "مؤتمر إزالة الأكسجين من المحيطات" (Ocean Deoxygenation)، والذي عُقد في الفترة من الثاني إلى السابع من سبتمبر 2018 في مدينة كيل(Kiel) الألمانية. وفي هذا الاجتماع الذي شارك فيه 300 من أخصائي علماء البحار في العالم من 30 دولة، نشروا "إعلان كيل"، حيث تكون الإعلان من 8 نقاط رئيسة تحدد معالم هذا الوباء الدولي، وكيفية علاجه، ثم سبل وإجراءات التخلص منه كلياً.

ونحن في الخليج علينا أن ننتبه كثيراً إلى هذا الوباء الذي وصل إلينا وبدأ يتفشى في معظم أعضاء وشرايين جسم الخليج العربي، فالظروف الطبيعية الفطرية لمياه الخليج والضغوط الطبيعية الموجودة فيها من ضحالة العمق، والمساحة الضيقة وشبه المغلقة، وارتفاع حرارة المياه والملوحة، إضافة إلى الانخفاض الطبيعي في الأكسجين الذائب في الماء، كل ذلك من المفروض أن يجعلنا أكثر حذراً ويقظة بهذه الأزمة، ومن المفروض أن نخفض أو نمنع كلياً من المصادر التي تحت أيدينا وتهدد سلامة بحرنا والحياة الفطرية فيها، حتى نؤمن الغذاء الفطري الذاتي لشعوب المنطقة.