الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

مُلوثات الهواء غزت أجسام الأجنة

 

عندما نسمح بالملوثات من السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء بالإنبعاث إلى الهواء الجوي فإننا بذلك لا نؤذي أنفسنا فقط، ولا نضر بصحتنا فحسب، وإنما نعرض أيضاً حياة أبنائنا وأحفادنا والأجيال اللاحقة لخطر هذه الملوثات والتهديدات الصحية العقيمة التي تنجم عنها.

 

ومن هنا يكمن منبع الخطر، ومصدر التهديد على أجيالنا الحالية إضافة إلى الأجيال اللاحقة المستقبلية، فنحن نُورثهم بيئة غير مستدامة وغير قادرة على العطاء من الناحيتين النوعية والكمية، وفي الوقت نفسه نرتكب جرماً عميقاً في حقهم، ونجني عليهم بسبب تهاوننا وتجاهلنا للتهديدات العصيبة التي تصدر عن التلوث من مصادره التي لا تعد ولا تحصى، فنورثهم إضافة إلى مكوناتٍ بيئية مريضة صحة بشرية فاسدة عبر الأجيال، ونسبب لهم الأمراض المزمنة والمستعصية على العلاج، فيصابون نتيجة لذلك عند ولادتهم بأمراضٍ عقلية، وجسدية، وإعاقات خَلْقية تلاحقهم ويعانون منها طوال سنوات حياتهم.

 

فمسيرة الملوثات وخط سيرها وانتقالها تبدأ أولاً بانبعاث هذه السموم إلى الهواء الجوي، ومنها الانتقال إلى أعضاء جسم الإنسان إما عن طريق الجلد مباشرة، أو عن طريق الغزو والزحف إلى الأنف، حيث خط المواجهة الأول عند الإنسان مع هذه الملوثات. وهناك عامل مهم جداً ورئيس يُحدد مسار الملوثات بعد دخولها من الأنف ومدى قُدرتها على الولوج في أعماق أعضاء الجسم الداخلية، فكلما صغر حجم هذه الملوثات وقل نصف قطرها كلما زادت حظوظها وارتفعت نسبة نجاحها في التوغل أولاً إلى الجزء السفلي من الجهاز التنفسي وتخطي العقبات الأولى في الجزء العلوي والانتقال بالتحديد إلى الحويصلات الهوائية الصغيرة في الرئتين، ثم الوصول إلى الدورة الدموية ومجرى الدم في جسم الإنسان، ومنها الانتقال إلى مثواها الأخير في مقبرة الجسم، وهي خلايا جسم الإنسان في كل الأعضاء مهما كانت صغيرة أو بعيدة وموجودة في مناطق محصنة ونائية. وأخيراً تأتي المرحلة النهائية من خط سير الملوثات في جسم الإنسان وهي البدء في التراكم والتضخم وارتفاع التركيز في الأنسجة والخلايا وإصابتها بمشكلات صحية مزمنة لا تُحمد عواقبها.

 

أما في حالة المرأة الحامل، فإن هذه المعضلة تتعقد كثيراً وتتشابك مع عوامل أخرى، ومسيرة الملوثات تختلف عن الرجل أو المرأة غير الحامل، فالضحية هنا التي تسقط فريسة سهلة للملوثات لن يكون الشخص نفسه فقط الذي تعرض للملوثات في الهواء الجوي فيقع في شباك الأمراض المزمنة، وإنما الضحية الأخرى الثانية ستكون ما تحمله المرأة من جنين أو أجنة في بطنها، وفي هذه الحالة أيضاً فإن تأثيرات التلوث تكون عامة وشاملة وأشد وطأة وتنكيلاً على البشرية جمعاء، ولها علاقة على المدى البعيد باستدامة حياة الإنسان على وجه الأرض.

 

وهناك دراسة نُشرت في المجلة الطبية الدولية المرموقة اللانست، صحة الكوكب(The Lancet Planetary Health) في الأول من أكتوبر 2022، تحت عنوان: "تعرض الأم الحامل لجسيمات الكربون الأسود في الهواء الجوي ووجودها في أعضاء الجنين". وهذه الدراسة تتناول مسيرة حياة نوعٍ واحدٍ فقط من أنواع الملوثات الكثيرة الموجودة في الهواء الجوي والتي لها مصادر متنوعة تنبعث منها، وهو نوع من الدخان الأسود، أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، وتُعرف بجسيمات الكربون الأسود(black carbon) التي يتراوح قطرها ما بين 10 إلى 400 نانوميتر. وهذه الجسيمات الكربونية الصغيرة تحتوي على عنصر الكربون بأشكاله المتعددة، وتنتج عن الاحتراق غير الكامل لمشتقات الوقود الأحفوري في السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، وأثناء التدخين، سواء السجائر التقليدية أو الشيشة، وحرق الفحم عند شواء اللحم، إضافة إلى حرق البخور والعود في المنازل والمساجد وغيرهما، مما يعني بأن الإنسان يتعرض لهذا الدخان الكربوني، سواء أكان داخل المنزل أو في البيئات الخارجية.

 

وقد توصلت هذه الدراسة التي تُعد الأولى من نوعها إلى عدة استنتاجات خطيرة تنذر بوقوع أزمات صحية ليست لنا فحسب، وإنما للأجيال القادمة على حدٍ سواء، ومن هذه الاستنتاجات ما يلي:

أولاً: أثبتت الدراسة بالتحاليل المخبرية بأن الجسيمات الكربونية الصغيرة الحجم تنتقل من الهواء إلى أعماق أعضاء جسم الإنسان، وبالنسبة للمرأة الحامل فإن هذا السم يتخطى كل الحواجز الطبيعية الفطرية في جسم الإنسان، فيتحرك حراً طليقاً داخل جسم المرأة ويمر عبر خيط المشيمة الدقيق الذي يربط حيوياً بين المرأة وجنينها، فيمكث في نهاية المطاف في جسد هذا الجنين الضعيف شديد الحساسية لأي تغيير خارجي.

ثانياً: أكد البحث بأن هذه الجسيمات التي تعبر حبل المشيمة وتدخل إلى الجنين، فإنها خلال أسابيع قليلة تتراكم في أعضاء هذا الجنين، حيث اكتُشف هذا الكربون الأسود في أنسجة كبد الأجنة والرئة والمخ.

ثالثاً: هناك علاقة بين شدة التلوث في الهواء الجوي وتركيز الملوثات في أعضاء الجسم، حيث أكدت الدراسة بأنه كلما تعرضت المرأة الحامل لتراكيز أعلى من الكربون الأسود، انعكس ذلك على زيادة تركيزه في أعضاء الأجنة.

رابعاً: تم اكتشاف الكربون الأسود في عينات كثيرة مرتبطة بالولادة، منها وجوده في أنسجة المشيمة، ودم الحبل السري، ودم الولادة. 

خامساً: أشارت الدراسة إلى أن وجود التلوث في أعضاء الجنين سيؤدي إلى تعقيدات وأزمات أثناء الحمل، وبخاصة بالنسبة لنمو  الجنين، إضافة إلى مشكلات في الولادة وفي صحة الجنين المولود، من حيث الولادة المبكرة، أو عدم اكتمال نمو أعضاء الجنين، أو انخفاض وزن الجنين، أو إصابة الجنين بإعاقات جسدية عضوية مزمنة طوال سنوات الحياة ولا يمكن التكهن بها ومعرفتها.

 

فهذه الدراسة الحالية ومثيلاتها من مئات الدراسات التي أكدت ووثقت غزو الملوثات لجميع أعضاء أجسادنا وتأثيرها الحاد والمزمن على صحة هذه الأعضاء، كقنبلة الدمار الشامل النووية التي تدمر كل شيء أمامها، من المفروض أن تكون دافعاً قوياً لنا في الاهتمام بجودة الهواء الجوي الذي يستنشقه كل إنسان وجعل هذه القضية في المرتبة الأولى من سلم الأولويات، وذلك من خلال أولاً منع مصادر فساد الهواء الجوي، ثم في المرتبة الثانية من الأولويات خفض نسبة الانبعاثات من جميع المصادر، سواء أكانت السيارات، أو محطات توليد الكهرباء، أو المصانع، أو مصادر تلويث البيئات الداخلية كتدخين السجائر والشيشة والسجائر الإلكترونية.

 

وجدير بالذكر فإن مجلس الوزراء الموقر ناقش في الاجتماع المنعقد في 26 ديسمبر 2021 المذكرة المرفوعة من وزير شؤون مجلس الوزراء بشأن تقرير المجلس الأعلى للبيئة حول جودة الهواء في مملكة البحرين لعام 2021، حيث أفادت المذكرة بأن يتم رصد جودة الهواء عبر محطات متخصصة وتحليل بياناتها وفق منهجيات معتمدة من منظمة الصحة العالمية، كما أكدت المذكرة بأن النتائج والتحاليل أظهرت بأن معظم مكونات الهواء في مملكة البحرين ضمن المعدلات الطبيعية.

 

ولكن ومنذ ذلك الوقت لم نشهد أية تطورات في هذا المجال من ناحية الجهود المبذولة ميدانياً في منع وباء التلوث من كل مصدر من مصادره لحماية الهواء ووقاية صحتنا من شره، إضافة إلى الشفافية في نشر المعلومات المتعلقة بجودة الهواء بشكلٍ شهري لكافة المواطنين من خلال وسائل الإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعي الجماعي حتى يتعرف المواطن على نوعية الهواء الذي يدخل في جسمه فيعمل مع الجهات الحكومية والجمعيات الأهلية على تحسين نوعية الهواء ومنع التلوث من منبعه.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق