الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

متى يكون الغذاء "عضوياً"؟

لا تستغرب إذا قلتُ لك بأن المنتجات الغذائية التي تأكلها من لحوم، ودواجن، وألبان، ومعلبات غذائية، وخضروات وفواكه طازجة، وغيرها من كل أنواع الطعام، تخضع معظمها لعمليات تجميل عامة، وتضاف إليها مستحضرات الزينة والجمال لجعلها أكثر جاذبية وشهية، وفي أكمل صورة وأحسن منظر، فتبدوا وكأنها طازجة وجديدة قبل أن تدخل الأسواق وتصل إليك.

 

فمنذ عقود طويلة وكل المنتجات الغذائية، إلا ما نَدَرَ وقلَّ منها، تُضاف إليها الكثير من مركبات التجميل والزينة الكيميائية المتنوعة، وكل مركب منها متخصص في مهمة محددة لإضفائها إلى المادة الغذائية لكي تكون أكثر جاذبية ومتعة للمستهلك، وكل مُضاف يوضع في الطعام يهدف إلى تحقيق هدفٍ محدد يدخل في باب الغش وتضليل المستهلك، فمنها تحسين الشكل  أو الهيئة أو المظهر العام، ومنها ما يهدف إلى تغيير الطعم والمذاق  لهذه المادة الغذائية لكي تكون أكثر قبولاً من ناحية الطعم للناس، ومنها المضافات الحافظة التي تطيل من عمر المنتج الغذائي، وتزيد من فترة انتهاء صلاحيته وسلامته، وتطيل أمد تخزينه.

 

وعلاوة على ذلك كله فهناك الحقن التي تُعطى للمواشي والدواجن الحية من هرمونات ومضادات حيوية لجعلها أكثر إنتاجية، وتسريعاً في نموها، وزيادة في نسبة لحومها وحليبها، إضافة إلى شتى أنواع مبيدات الآفات والأعشاب والأسمدة الكيميائية التي تضاف إلى تربة المحاصيل الزراعية لقتل الحشرات من جهة، ورفع جودة وسرعة نمو المحصول من خضروات وفواكه من جهة ثانية.

 

ومن هذه المضافات الغذائية والزراعية والحقن الحيوانية ما هو معروف في محتواه وتركيزه وسلبياته وأضراره على صحة الإنسان والأمراض التي يقع فيها بسببها، ولكن يبقى الكثير من هذه المكونات التي تضاف إلى الغذاء سري ومجهول الهوية والمصدر، ولا يعلم أحد التداعيات الناجمة عنها على الإنسان وتهديداتها العصيبة لسلامة مكونات البيئة الحية وغير الحية، ولا تسمح الشركات العملاقة بالبوح عن كل مكونات المنتجات الغذائية وتأثيراتها على الأمن الصحي للبشر جمعاء، ولا يمكن لأية دولة أن تُجبر هذه الشركات على الإعلان عن كامل محتوى منتجاتها الغذائية، أو أن تفرض عليها نشر القائمة الشاملة للمواد الكيميائية الموجودة فيها وتأثيراتها طويلة المدى على المستهلك.

 

فعلى سبيل المثال هناك مضافات كثيرة لا تتخيلها ولا تتوقعها تُوضع على اللحوم بشكلٍ عام، منها بهدف تحسين وتجميل الهيئة والمظهر الخارجي، ومنها مزينات ومضافات تغيير اللون إلى اللون الأحمر الفاقع لتوحي للمستهلك أنه طازج، وهناك كذلك المُثبتات والمُلينات ومغيرات الطعم والرائحة والنكهة، إضافة إلى المواد الحافظة التي تمنع تحلل ونمو البكتيريا وغيرها من الكائنات الدقيقة المسببة للمرض ليطول عمر تخزينها.

 

فهذه الظاهرة الغذائية الصحية العقيمة التي تعاني منها كل دول العالم منذ عقود طويلة من الزمن، ولم يسلم منها أي شعب مهما كان فقيراً أو غنياً، جعلت الناس يبحثون عن البديل الصحي المستدام، واضطرتهم إلى شراء أية منتجات غذائية تدَّعي بأنها صحية وخالية من هذه المضافات التجميلية التي تشكل خطراً على الصحة العامة، كما أن هذه الشركات العملاقة نفسها التي تضع الملوثات الكيميائية في غذائنا، استغلت هذه الحاجة الماسة والملحة للناس وتوجههم نحو الإنفاق أكثر على الغذاء الصحي الخالي من السموم والمضافات، كما استغلت هذه الشركات الجشعة بحث الملايين من البشر في كل بقاع العالم عن البديل الذي يقي صحتهم من أمراض المضافات والمحسنات الغذائية، فبدأت بالتفكير في منتجات غذائية تتجنب إضافة كل مكونات الزينة والتبرج وتحسين المظهر والطعم، واعتبرت هذه الشركات بأنها فرصة ذهبية لا تعوض للتسويق والتربح وجمع المال، فجاءت فكرة "الغذاء العضوي"، أو "المنتج الغذائي العضوي".

 

ومن خلال بحثي السريع في مصطلح "الغذاء العضوي"، وبالتحديد في وثائق وتقارير وزارة الزراعة الأمريكية، فإنني أُقدم لكم ملخصاً لتعريف هذا المصطلح، والمعايير والاشتراطات التي تجعل من المنتج الغذائي أو المحصول الزراعي عضوياً.

أولاً: المحصول الزراعي من خضروات وفواكه يجب أن يزرع أولاً باستخدام بذور سليمة خالية من الملوثات، إضافة إلى أن تكون البذور غير معدلة جينياً، ولم تخضع لتقنيات الهندسة الوراثية، علاوة على عدم تعرضها للإشعاعات المؤينة.

ثانياً: عدم استخدام حمأة مياه المجاري في زراعة المحاصيل المأكولة والتي تكون عادة مصدراً مُرَكزاً للسموم والعناصر الثقيلة التي تبقت من عملية معالجة مياه المجاري في المدن والمناطق الصناعية، إضافة إلى عدم استعمال الأسمدة الكيميائية والمبيدات بأنواعها المختلفة، كمبيدات الطفيليات والفطريات والحشرات والأعشاب. 

ثالثاً: عدم استعمال المضادات الحيوية عند تربية المواشي والدواجن، إضافة إلى منع حقن هذه الحيوانات التي يأكلها البشر بالهرمونات بمختلف أنواعها.

رابعاً: السماح للمواشي للرعي في البيئات العشبية الطبيعية التي تُسقى بماء المطر  في معظم أوقات السنة من أجل التعرض لأشعة الشمس وتناول العلف الصحي والسليم، وتجنب حبس الحيوانات في مواقع لا تتحرك فيها ولا يمكنها الخروج منها. 

 

فهذه النقاط الأربع تشكل العمود الفقري لأي تعريف، أو مواصفات للغذاء والمنتج "العضوي"، سواء من مصادر نباتية أو حيوانية، وهذه النقاط يجب أن تلتزم بها الشركات المُصنعة للطعام العضوي لكي تحصل على شهادة من وزارة الزراعية الأمريكية ومصادقة رسمية بأن منتجها عضوي، كما أنها يسمح لها بوضع علامة، أو ملصق على المنتج بأنه عضوي ومرخص من قبل وزارة الزراعة.

 

وبالرغم من وجود هذه المواصفات العامة إلا أننا يجب أن لا تأخذنا العاطفة والرغبة الشديدة في اقتناء الغذاء الصحي ونؤمن بكل ما تروجه لنا الشركات العملاقة من دعايات وادعاءات، فيجب علينا أن نتوخى الحذر والحيطة عند الاختيار وعند شراء المنتج الغذائي العضوي، فالغش وتضليل المستهلك ثقافة متجذرة في هذه الشركات الكبيرة التي تدَّعي بأنها تنتج الطعام العضوي، كما أنها تستغل كل ثغرة، وكل منفذ، وكل وسيلة لكي تغريك إلى شراء منتجاتها.

 

ومن جانب آخر فإنه في تقديري، ومن الناحيتين العملية والواقعية فإنه لا يوجد منتجاً عضوياً كاملاً خالياً من الشوائب، مهما فعلنا، ومهما اتخذنا من إجراءات صارمة، فنحن نعيش في بيئة تحيط بها الملوثات من كل جهة، فهذه الملوثات ضربت أطنابها بشدة في كل مكونات البيئة الحية وغير الحية، فهي موجودة في أعماق المياه الجوفية والسطحية، وفي التربة، وفي الهواء الجوي وفي أعالي السماء، وحتى المطر الذي ينزل علينا من السماء يكون مشبعاً بشتى أنواع السموم، والتي بدورها تنتقل إلى التربة، فالنباتات والحيوانات التي نأكلها، وأخيراً تصل إلينا شئنا أم أبينا.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق