الثلاثاء، 31 أكتوبر 2023

سنغافورا ستُنفق 100 بليون لحماية مرافقها من ارتفاع مستوى سطح البحر، فكم سنُنفق؟


سنغافورا لا تختلف عن مملكة البحرين كثيراً، فهي جزيرة صغيرة وتُصنَّف عالمياً من ضمن الدول الجزرية، فلا تزيد مساحتها عن 729 كيلومتراً مربعاً، أي أصغر من مساحة البحرين، وتقع معظمها على مستوى سطح البحر، وأعلى قمة تبلغ 177 متراً فوق سطح البحر.

 

ولذلك فإن هذه الجزيرة تعاني من جهة من شحٍ شديد في الأراضي لا تتناسب ولا تتماشى مع طموحاتها التنموية المتزايدة المشهودة على المستوى الدولي، ومن جهة أخرى تقع تحت وطأة الارتفاع الكبير في عدد السكان الذي وصل إلى زهاء 6 ملايين نسمة، وبذلك تُعد هذه الجزيرة الصغيرة من أعلى دول العالم كثافة سكانية، حيث تبلغ الكثافة السكانية نحو 8.3 نسمة لكل كيلومتر مربع.

 

ومن أجل مواجهة تحديات الفقر الحاد في الأراضي مقارنة بالأنشطة التنموية المطردة، وتلبيةً للاحتياجات السكنية المتزايدة، فإن سنغافورا اتجهتْ إلى البحر لزيادة مساحة اليابسة والامتداد والتوسع في المساحة الجغرافية للجزيرة الضيقة. وتُشير التقديرات المنشورة في "البلومبيرج" في 10 أكتوبر 2023 أنها أضافت مساحات كبيرة نسبياً إلى أرضها، وتعتزم النمو أكثر في مساحة اليابسة، فتضيف قرابة 4% إلى مساحتها الحالية بحلول 2030.

 

وقد أقامت هذه الجزيرة معظم مرافقها التنموية المكلفة من ناطحات السحاب وغيرها، إضافة إلى الكثير من معالمها التاريخية والرمزية التي تعتز بها وتفتخر بوجودها على هذه المناطق المدفونة، أو على الأراضي الطبيعية المنخفضة أصلاً.

 

وفي البداية لم تكن هناك أية مشكلة تُذكر من إنشاء كل هذه المرافق على الأراضي الساحلية المنخفضة، ولم يخطر على بالهم قط بأنهم سيضطرون إلى دفع مبالغ باهظة تزيد عن كلفة إنشائها من أجل حماية كل هذه المكتسبات التنموية لعقود طويلة من الزمن، وبهدف استدامة الحفاظ عليها وعطائها لهذا الجيل والأجيال اللاحقة.

 

فقضية التغير المناخي لم تخطر على بال أحد قبل أكثر من خمسين عاماً، ولم يتوقع أحد بأنها ستصبح أكثر القضايا تعقيداً وأشدها صعوبة في العلاج، فهي ليست قضية ذات أبعادٍ بيئية فحسب حتى يتجاهلها كالعادة أصحاب السلطة والنفوذ، وإنما تحولت إلى الآن إلى غول عظيم يهدد استدامة الكرة الأرضية برمتها، حيث أصبحت لها تداعيات مركبة، منها صحية واجتماعية واقتصادية، ومنها سياسية وأمنية ومرتبطة بأمن الطاقة على المستوى الدولي.

 

فمن الحقائق العلمية المشهودة الآن هي أن للتغير المناخي تداعيات كثيرة في قطاعات مختلفة، منها سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، ومنها ارتفاع حرارة مياه البحار وازدياد حمضيتها، ومنها ارتفاع مستوى سطح البحار ووقوع الفيضانات الشديدة غير الطبيعية التي لم يرها الإنسان ولم يسجلها في تاريخه من ناحية قوتها وشدتها، ومن ناحية اتساع رقعة تأثيرها الجغرافي.  

 

ولذلك مع الارتفاع المطرد سنوياً في مستوى سطح البحار في جميع أرجاء كوكبنا، أصبحت جميع المرافق التنموية المنخفضة والواقعة على مستوى بسيط فوق سطح البحر مهددة بالتدمير الشامل والزوال التام نتيجة للأعاصير العقيمة، والفيضانات العصيبة التي تضرب السواحل، إضافة إلى الارتفاع غير المسبوق في تيارات وأمواج المد البحري.

 

فهذه الحالة غير المتوقعة ألزمت سنغافورا خاصة والدول الجزرية عامة إلى التخطيط لحماية مكتسباتها التنموية التي شيدتها خلال مائة عام، حيث أعلنت بأن المرافق التي تحتاج إلى الحماية من مخاطر التغير المناخي وتهديدات ارتفاع مستوى سطح كلفت الدولة والقطاع الخاص أكثر من 50 بليون دولار. وقال رئيس الوزراء السنغافوري حول هذه التهديدات الحالية والمستقبلية: "هذه أمور تعتبر حياة أو موت بالنسبة لنا، وكل شيء يجب أن يصب في حماية وجود جزيرتنا". كما أكد قائلاً بأننا نحتاج إلى صرف وانفاق ما لا يقل عن 100 بليون دولار خلال المائة سنة القادمة لحماية المنشآت من ارتفاع مستوى سطح البحر، وحالياً خصصت الدولة 5 بلايين دولار في صندوق خاص لحماية السواحل من الفيضانات، كما أسست معهداً مختصاً لمواجهة هذا التحدي الحالي، والتهديد القادم لا محالة، تحت مسمى "معهد حماية السواحل والقدرة على مواجهة الفيضانات"(Coastal Protection and Flood Resilience Institute). ومن الحلول التي تُستخدم حالياً هي بناء الجدران الخرسانية لحماية السواحل، وبناء السدود التي تحتوي على مضخات كبيرة لسحب المياه، والاستفادة من الخبرات الهولندية في هذا المجال مثل استصلاح بعض الأراضي البحرية، إضافة إلى الجمع بين الحلول الصناعية مع الحلول الطبيعية من خلال تعزير وتطوير الاستفادة من الحواجز والموانع البحرية الطبيعية كأشجار القرم، والحشائش، والشعاب المرجانية التي تعمل على تكسير الأمواج وخفض شدتها ومنع تعرية السواحل.

 

وهذه الحالة السنغافورية تنطبق على البحرين إلى حدٍ بعيد للتشابه الكبير بين الجزيرتين، وما يحدث لسنغافورا سيحدث لنا عاجلاً أم آجلاً. فقد حذَّر التقرير المنشور من المجلس الأعلى للبيئة في يوليو 2020 تحت عنوان: "البلاغ الوطني الثالث لمملكة البحرين لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للتغير المناخي"، من واقعية وخطورة هذه الحالة السنغافورية على البحرين، حيث جاء في الملخص التنفيذي للتقرير: "يُعد ارتفاع مستوى سطح البحر أحد الآثار الرئيسة والأكيدة لتغير المناخ. وكما هو الحال في جميع الدول الجزرية الصغيرة النامية، يُشكل ارتفاع مستوى سطح البحر في البحرين خطراً على سواحل الجزر الست الرئيسة، والتي يتمركز عليها معظم سكان المملكة، وتتواجد بها البنى التحتية، وحالياً تتركز في المناطق الساحلية التي يقل ارتفاعها عن 5 أمتار عن مستويات سطح البحر كثافة سكانية عالية." كما صرح مسؤول في المجلس الأعلى للبيئة في 17 أغسطس 2023 بأن: "البحرين معرضة للمخاطر البيئية وإن التهديد الرئيس هو تهديد صامت، وهو ارتفاع مستوى سطح البحر".

فمن الواضح إذن أن التهديدات المناخية واقعية ومشهودة وبالتحديد على المكتسبات التنموية الساحلية، ولذلك تُنفق سنغافورا وباقي دول العالم المليارات من الدولارات لحماية هذه المرافق الساحلية التي أنفقت على بنائها أيضاً المليارات من الدولارات. فما هي خططنا وبرامجنا التنفيذية في البحرين لحماية سواحلنا ومرافقها؟ وما هي سياساتنا بالنسبة لتجنب بناء مرافق أخرى ساحلية؟ وما هو المبلغ المخصص للقيام بهذه الخطط؟

 

 

الخميس، 26 أكتوبر 2023

دواء لا يُشفي سَقَما!


دواء استخدمه الملايين من الناس في كل أنحاء العالم لعقودٍ طويلة من الزمن وصلت إلى قرابة خمسين عاماً، وكان هؤلاء الملايين الذين تناولوا هذا الدواء يعيشون تحت وهم وأمل أن هذا الدواء سيشفيهم من سقمهم وعلتهم، أو في الأقل يخفف عنهم الآلام التي يعانون منها، ويخلصهم من الأعراض التي تصيبهم وتبقى معهم فترة طويلة من الزمن.

وقد تبين الآن، وبعد أكثر من خمسة عقود طويلة بأن هذا الدواء في الواقع لا يُغني ولا يسمن من جوع، فهو لا يعالج أحداً، ولا يشفي أحداً من مرضه الذي يعاني منه سنوات طويلة، فهو لا ينفع المريض، ولكن في الوقت نفسه قد يضره بسبب الآثار الجانبية التي يتعرض لها.

 وهذا الدواء الذي أَنْفق على شرائه الملايين من الناس، فأهدروا أموالهم وذهبت هباءً منثوراً، كلفهم جميعاً قرابة 1.8 بليون دولار في عام 2022 فقط، وهي مبيعات شركة الأدوية والعقاقير، فهو يحتوي على مركب كيميائي، هو "فينيليفرين" (phenylephrine) والذي يعتبر المادة الفاعلة والنشطة في الدواء، والتي من المفروض أن تكون سبباً في العلاج وتخفيف حدة أعراض المرض. هذا المركب تمت إضافته إلى نحو 261 نوعاً من الأدوية، ومجموعة من هذه الأدوية كانت مخصصة حسب ادعاءات الشركات المنتجة والمصنعة لها، لعلاج وإزالة احتقان وانسداد الأنف، والحساسية، والمشكلات التي تنجم من التهاب الجيوب الأنفية، وكانت تُباع بدون استشارة، أو وصفة طبية في الصيدليات، والأسواق عامة، والبرادات، ومحلات بيع الأغذية، والمطارات، تحت عدة مسميات تجارية منها: (Flonase)، و (DayQuil)، و (Sudafed PE)، و (NyQuil)، و ( Vicks Sinex).

وهذه المجموعة من الأدوية تخضع الآن تحت المناقشة والنقد، وكانت تؤخذ من قبل المريض عن طريق الفم لإزالة الاحتقان في الأنف الناجم عن البرد، أو الحساسية، أو الجيوب الأنفية وارتفاع الحرارة، وتمت اجازتها رسمياً بتوصية من قبل فريق الاستشاريين والخبراء الذين يعملون تحت مظلة "إدارة الغذاء والدواء" في الولايات المتحدة الأمريكية ومن قبل الإدارة نفسها في عام 1976، وكان تصنيفها بأنها "فاعلة ونشطة وآمنة" للاستخدام من قبل الانسان.

والآن وبعد مضي هذه السنوات الطويلة يأتي فريق آخر يُطلق عليه "اللجنة الاستشارية للأدوية التي لا تحتاج إلى وصفة طبية"(Non-prescription Drug Advisory Committee) ليُقدم رأياً مخالفاً كلياً للجنة السابقة، حيث عقدت هذه اللجنة المكونة من 16 خبيراً اجتماعها في يومي 11 و 12 سبتمبر 2023، وتوصلت إلى استنتاج جماعي من كل الأعضاء بدون استثناء بأن المادة الكيميائية "فينيليفرين" التي أضيفت إلى الأدوية لإزالة الاحتقان في الأنف هي فعلياً لا تنفع المريض البتة، ولا تعالج حالات احتقان وانسداد الأنف، بل على العكس فإن تناول هذا الدواء يضر بالمريض بسبب الآثار الجانبية التي تتلخص في سرعة دقات القلب وعدم انتظامها، والشعور بالدوار والغثيان، وزيادة ضغط الدم، والصداع، وفقدان الشهية، والشعور بالتعب. ونتيجة لهذه الاستنتاجات حول الدواء فقد رفعت اللجنة الاستشارية توصيتها إلى "إدارة الغذاء والدواء" لرفع هذه المجموعة من الأدوية من كافة المرافق التي تباع فيها حفاظاً على صحة المواطنين، ومنعاً لضياع أموالهم على أدوية لا تنفع وتضر بالإنسان.

 

وقد جاءت هذه التوصية الجماعية غير الشعبية وغير المقبولة بالنسبة لمصانع الأدوية والعقاقير والشركات المسوقة لها، بعد مخاضٍ عسير وطويل وشاق استمر سنوات طويلة، وبُذلت فيها الكثير من الجهود والدراسات العلمية. فعلى سبيل المثال، في عام 2007 قام باحثون بإجراء دراسات على هذه المادة الكيميائية الموجودة في أدوية إزالة الاحتقان في الأنف، وأثبتت بأنها غير فاعلة وغير مجدية علاجياً، فرفعت عريضة تطلب من إدارة الغذاء والدواء إزالة هذه الأدوية من الأسواق، ثم في عام 2015 أجريت أبحاث أخرى مماثلة وأكدت النتيجة نفسها، كما قامت بتسليم إدارة الغذاء والدواء عريضة لسرعة اتخاذ قرار جريء ومعقد يزيل هذه الأدوية من كافة مراكز البيع.

 

والآن ستبدأ المعركة الكبرى، أو أم المعارك، والتي ستكون شديدة وقوية بين إدارة الغذاء والدواء من جهة، وبين شركات الأدوية ومن يرتزق عليها من جهة أخرى، وستكون مقاومة هذه الشركات شرسة وعنيفة ولن ترفع العلم الأبيض مستسلمة لأي قرار يأمرها بإزالة هذه الأدوية من الأسواق والتوقف عن بيعها، مما يعني خسارة المليارات من الدولارات التي يكسبونها من بيع هذه الأدوية. فهذه الشركات ستستخدم كل جنودها المجهولين وغير المجهولين للاستماتة في الدفاع عن هذه الأدوية وفاعليتها ودورها في علاج أعراض احتقان وانسداد الأنف، والأمراض الأخرى الشائعة، وستُحارب بضراوة وبكل ما أوتيت من قوة، ونفوذ، واتصالات ومجموعات الضغط لإيقاف أي قرار لا يصب في مصلحتها الاقتصادية.

 

فعلى سبيل المثال، تحركت بسرعة " جمعية منتجات الرعاية الصحية الاستهلاكية" (The Consumer Healthcare Products Association)، وهي مجموعة تُمثل مصنعي الأدوية، فقامت بالاعتراض رسمياً على توصية لجنة الاستشاريين، وأكدت بأن التجارب السابقة التي أجريت على هذه المادة الكيميائية أثبتت فاعلية المادة، وأكدت على أنها آمنة لاستخدام الإنسان.

 

وفي الحقيقة فإن هذا المشهد الأمريكي الغريب الذي أراه أمامي يجعلني أخرج بعدة استنتاجات مفيدة يجب أن نتعلم منها ونتعظ بها، كما يلي:

 

أولاً: القرارات التي تتخذها إدارة الغذاء والدواء بالنسبة للسماح بتسويق الدواء تمر بعدة مراحل ومستويات، فهناك مستوى فرق ولجان الاستشاريين والخبراء والذي تكون توصياتهم عادة مبنية على الدراسات والأسس العلمية، وهناك القرار النهائي الصادر من الإدارة. وهذا القرار يكون إدارياً وتوافقياً يراعي مصالح كافة الجهات المعنية، فيأخذ في الاعتبار الجوانب السياسية والاقتصادية، حيث يتأثر قرارها بجماعات الضغط ورجال النفوذ ومراكز القوة. ولذلك قد يتناقض القرار بالسماح لأي دواء من وقت إلى آخر، كما حدث بالنسبة لدواء إزالة الاحتقان في الأنف. ومثل هذا القرار لا ينعكس على شعب الولايات المتحدة فحسب وإنما على معظم شعوب دول العالم، لأنها تعتمد كثيراً على قرارات الوكالات الأمريكية المختلفة، سواء في مجال الأدوية والعقاقير أو في مجال المواصفات والمعايير البيئية وغيرها.

 

ثانياً: على الجهات المعنية في دولنا تبني سياسة "المراجعة والتقييم المستمرين" في كافة القطاعات الصحية والبيئية وغيرهما من خلال متابعة الدراسات والتقارير المنشورة كلٌ في مجاله، ومواكبة كل التطورات الحديثة في جميع القطاعات، فلا نعتمد على أمريكا، أو غيرها من الدول والمنظمات الأممية لكي تُصَدِّر لنا القرار المسيس في الكثير من الحالات، فالتغيرات العلمية سريعة، ويجب أن نكون على علمٍ بها حتى نتخذ القرار السيادي بشأنها، والمناسب لظروفنا وخصوصيتنا.     

 

الثلاثاء، 3 أكتوبر 2023

سياسات الدول البيئية غير مستقرة

 

السياسات البيئية التي تتخذها الدول على المستوى القومي أو على المستوى الدولي غير ثابتة، وغير مستقرة، فهي بين مدٍ وجزر، وقوة وضعف، وتتذبذب بين الصعود والنزول، وهي تتبدل وتتغير عبر السنوات مع تغير رؤساء الدول ورؤساء حكومات الدول، وقد تنقلب السياسات البيئية في بعض الأوقات رأساً على عقب وتتغير جذرياً في الاتجاه المعاكس، فهي تعتمد في ثباتها واستقرارها واتجاهاتها على استقرار الجوانب الاقتصادية والسياسية، إضافة إلى القناعات الفردية والحزبية على مستوى الدولة نفسها، أو على مستوى دول العالم أجمع.

 

 

ولذلك أي تدهور في حالة الاقتصاد، وأي ركود يعاني منه الاقتصاد العام، ينجم عنه في الوقت نفسه تدهور وركود وقلة اهتمام ورغبة في تنفيذ سياسة حماية البيئة ومكوناتها الطبيعية الحية وغير الحية، فيتراجع الهم البيئي إلى الخلف، ويدخل الشأن البيئي العام في حالةٍ من الجمود، أو الرجوع إلى الوراء خطوات طويلة، فلا تجد السياسات البيئية أولوية في جدول أعمال الدول والعالم برمته من ناحية التنفيذ والتفعيل. 

 

ولذلك أُشبه التغير وعدم الثبات والاستقرار في السياسات البيئية على كافة المستويات، كالتقلبات التي تحدث على أسعار النفط منذ أن أسْتُخرج من باطن الأرض في القرن المنصرم حتى يومنا هذا، ففي بعض الأيام ترتفع فتُسجل رقماً قياسياً لا مثيل له طوال السنوات في الارتفاع، ويوماً آخر تنزل إلى مستويات دنيا زهيدة فتسجل رقماً قياسياً في الانخفاض في سعره وقيمته.

 

والأمثلة على هذه التغيرات وعدم الثبات والاستقرار في الاستراتيجيات والسياسات البيئية كثيرة ومتعددة، منها على مستوى الدولة الواحدة، ومنها على مستوى منظمات الأمم المتحدة المعنية بالبيئة وقضاياها وهمومها المختلفة الكثيرة.

 

 

ومن أكثر الأمثلة وضوحاً على كافة المستويات هي سياسات الدول والأمم المتحدة تجاه قضية العصر، وهي قضية التغير المناخي، والتراجع الكبير، والترنح يميناً وشمالاً الذي يحدث في تطبيق الدول والأمم المتحدة للسياسات العملية والبرامج التنفيذية التي تكافح تداعيات التغير المناخي منذ أن ولج رسمياً إلى جدول الأعمال الدولي من باب قمة الأرض التي عُقدت في البرازيل عام 1992 وحتى يومنا هذا.

 

فالاتحاد الأوروبي أقر في 5 أغسطس 2021 برنامجاً طموحاً وسياسة طويلة المدى تهدف إلى خفض انبعاثات هذه الكتلة من الدول من الملوثات المُتهمة بالتغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض واصابتها بداء السخونة المرتفعة، وذلك من خلال التحول من السيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري، وبالتحديد الجازولين والديزل، والتي تنبعث منها ملوثات ارتفاع حرارة الأرض، إلى السيارات الكهربائية التي لا تنبعث منها كلياً أية ملوثات، ثم صوَّت البرلمان الأوروبي على تحويل هذه السياسة إلى قانون اتحادي في 14 فبراير 2023. ولذلك فالسياسة البيئية المعتمدة في الاتحاد الأوروبي هي دفن سيارات الجازولين والديزل ونقلها إلى مثواه الأخير بدءاً من عام 2035، أي أن الاتحاد الأوروبي سيمنع بيع أية سيارة تشتغل بالوقود الأحفوري، وتحقق بذلك "صفر انبعاث الملوثات" من السيارات. ولكن بريطانيا في عام 2020، تبنت سياسة مماثلة، ولكن اختلفت مع الاتحاد الأوروبي في تاريخ تحقيق الهدف، حيث تبنت عام 2030، أي قبل الاتحاد الأوروبي بخمس سنوات لمنع بيع سيارات الجازولين والديزل.

 

ولكن هذه السياسة البيئية الخضراء لم تصمد طويلاً، ولم تتمكن من الوقوف قوية وثابتة أمام رياح التغيرات السياسية والاقتصادية، فقد جاء رئيس وزراء جديد لبريطانيا هو "ريشي سوناك"، فأخلف وعده، ولم يلتزم بالسياسات البيئية السابقة للحكومة البريطانية المتمثلة في خفض انبعاثات غازات الدفيئة المسؤولة عن التغير المناخي. فقد أعلن في 20 سبتمبر 2023 عن تغيير وتأجيل تاريخ تنفيذ السياسة المناخية من ناحية منع بيع وحظر سيارات الوقود الأحفوري من عام 2030 إلى عام 2035، كما هو الحال في معظم دول الاتحاد الأوروبي، باستثناء ألمانيا. وقال رئيس الوزراء البريطاني بأننا نُحقق أهدافنا البيئية بمدخل جديد "وطريقة متناسبة وعملية وواقعية". كما غيَّر في الوقت نفسه من عبء السياسات البيئية الأخرى المتمثلة في منح مائة رخصة لاستخراج النفط والغاز من بحر الشمال، إضافة إلى التنقيب عن الفحم في أعماق الأرض، وقال بأن بريطانيا ستحتاج إلى الوقود الأحفوري في المستقبل. وفي الوقت نفسه اتخذ سياسات "أكثر شعبية" منها أنه غيَّر موعد التخلص النهائي من غلايات الغاز في المنازل وغيرها التي تعمل بالغاز أو الفحم واستبدالها بالكهرباء لخفض الانبعاث. وأفاد رئيس الوزراء بأن أحد أهداف تغيير هذه السياسات المناخية البيئية هو هدف اقتصادي يتمثل في خفض تكاليف الأعباء المعيشية على المواطنين من خلال خفض فاتورة الكهرباء، ولم يقل بأن هناك أيضاً هدفاً سياسياً انتخابياً يتمثل في كسب حب ورضا المواطن البريطاني، وبالتالي جذب ونيل صوته عند الانتخابات النيابية والبلدية، وفوز حزبه المحافظ في حكم بريطانيا.  

 

أما على مستوى المجتمع الدولي ممثلاً في المعاهدات البيئية، فحاله لا يختلف عن سياسات الدول منفردة مع البيئة، فالسياسات البيئية أيضاً للأم المتحدة تتقلب مع الرياح الاقتصادية السائدة، وأسعار الوقود الأحفوري مقارنة بأسعار أنواع الطاقات النظيفة والمتجددة. فعلى سبيل المثال، اجتمعت دول العالم في باريس عام 2015، وخرجت بتفاهمات التزمت بها طوعياً معظم دول العالم على الورق، منها قيام كل دولة لوحدها في وضع حدودٍ وأهداف قومية لانبعاثات ملوثات المناخ والتخلص بسرعة من استخدام الوقود الأحفوري، إضافة إلى التزام الدول مجتمعة بمنع سخونة الأرض أكثر من درجتين مئويتين، علماً بأن كوكبنا ارتفعت حرارته حتى اليوم 1.2 درجة مئوية مقارنة بحرارته قبل الثورة الصناعية.

 

واستناداً إلى تقرير الأمم المتحدة الصادر في 8 سبتمبر 2023 المتعلق بأول عملية تقييم دولية لتفاهمات باريس 2015 بشأن تغير المناخ(global stocktake) فإن معظم دول العالم لم تتعهد بوعودها التي قطعت على نفسها في باريس 2015، ولم تلتزم بسياساتها البيئية الخاصة بالحدود التي وضعتها لخفض الانبعاث، كما أن دول العالم مجتمعة أخفقت في المشي في الطريق الذي يؤدي إلى منع ارتفاع سخونة الأرض أقل من المعدل، ومما يمنع نزول الكوارث على البشر وعلى كوكبنا. فدول العالم الصناعية الكبرى لا تنوي الالتزام بوضع جدول زمني مُحدد ونهائي للتوقف والتخلص كلياً عن استخدام الوقود الأحفوري الذي يُعد المصدر الرئيس للتغير المناخي، حسب ما جاء في إعلان الدول الصناعية السبع الكبرى(جي 7)في اليابان في 16 أبريل 2023، إضافة إلى إعلان قمة الدول العشرين(جي 20) التي اجتمعت في دلهي بالهند في 9 سبتمبر 2023.  

 

فالواقع على المستويين القومي والمجتمع الدولي لا يبشر بخير، ولا لمستقبل زاهر للبيئة، وسيكون معوقاً لاستدامة حياة كريمة نوعياً وكمياً للأحياء الفطرية النباتية والحيوانية. فسياسات حماية البيئة ورعاية مصالحها الاستراتيجية، مهما ادعت الدول، لا تحظى فعلياً بالأولوية في جدول أعمال الحكومات، وستبقى دائماً غير مستقرة ومكانها في مؤخرة الأولويات.