الاثنين، 31 يناير 2022

أدوات غير مستدامة لمواجهة التغير المناخي

قامت حكومة ولاية ساباه(Sabah)في ماليزيا بعقد صفقة تجارية بيئية مع بعض الشركات الأجنبية في التاسع من نوفمبر 2021 تمهيداً للمشاركة في الاجتماع رقم (26) للتغير المناخي الذي عُقد في مدينة جلاسجو الأسكتلندية في بريطانيا في نوفمبر من العام المنصرم. وهذه الاتفاقية التي تُعرف باتفاقية "حماية الطبيعة" كانت موضع اهتمامي منذ ذلك الوقت، من حيث أهدافها، ونتائجها، ومن المستفيد الرئيس منها ومن مخرجاتها، إضافة إلى علاقة هذه الصفقة بمكافحة الدول والشركات الكبرى متعددة الجنسيات لتداعيات التغير المناخي وخفض انبعاث الملوثات المسببة لهذه المشكلة الدولية العقيمة، وبالتحديد بالنسبة لانبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، ثم الميثان وأكسيد النيتروز.

 

وهذه الصفقة تعتبر من الأدوات والآليات التي ابتدعتها الدول الصناعية المتقدمة الكبرى، وبخاصة الدول الغربية التي تقع عادة تحت سيطرة الشركات العملاقة، وتهيمن هذه الشركات المتنفذة على قراراتها وسياساتها العامة، وبالتحديد بالنسبة لهذه الصفقة على سياساتها المتعلقة بمجال مواجهة انعكاسات التغير المناخي وطرق خفض انبعاث الغازات المتهمة برفع درجة حرارة كوكبنا.

 

فهذه الاتفاقية مع الطبيعة التي وقعتها الولاية الماليزية التي تقع فيها واحدة من أكبر وأعظم الغابات والأدغال المطيرة في العالم والمعروفة بغابات بورنيو(Borneo)، تهدف باختصار وببساطة شديدة إلى السماح للشركات والمصانع المتعددة الجنسيات في الاستمرار في تلويث مصانعها ومحطاتها لتوليد الكهرباء والطاقة لبيئتنا المشتركة، والاستمرار والمواصلة في إطلاق الملوثات المسؤولة عن حدوث التغير المناخي، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون، ثم التعويض عن هذا التلوث المتعمد والرسمي بتقديم مبلغ زهيد من المال إلى الدول التي بها بيئات طبيعية خضراء، سواء أكانت بيئة الغابات، أو بيئة المستنقعات الملحية والرطبة وبيئة أشجار وغابات المانجروف في البحار، أو ما إلى ذلك من الأنظمة البيئية التي لها القدرة الذاتية الكامنة على امتصاص وتخزين ملوثات هذه الشركات من الهواء الجوي، وأَطلقُوا على هذه العملية، أو الأداة والآلية بتعويض انبعاث الكربون(Carbon offsetting).

 

وفي حالة ماليزيا فالاتفاقية تنص على أن تقوم الحكومة المحلية لأكثر من مائة عام إلى منع كل ما يضر بالنظام البيئي العام في هذه الغابات ويؤثر على حيويتها وإنتاجيتها، فتقوم ماليزيا بحماية الغابات من جميع الأنشطة التنموية المهددة للأمن البيئي لهذه الأدغال، مثل منع مشاريع قطع الغابات والبحث عن المعادن، أو مشاريع زراعة المحاصيل سواء للأكل أو إنتاج الوقود الحيوي، إضافة إلى استصلاح وإعادة تأهيل بعض المناطق المتأثرة من الغابات بالأنشطة التنموية السابقة. 

 

 وهذه الأداة الآن موجودة ومعتمدة في سوق الاتجار بالكربون بين الدول والشركات العالمية في كل دول العالم، بحيث إن أية شركة عالمية تريد أن تستمر وتواصل عملياتها وأعمالها الصناعية كالعادة، ودون إجراء أي تغيير أو تبديل في عملياتها وأعمالها الروتينية اليومية، أو أن تقوم بوضع أجهزة مكلفة لإزالة غاز ثاني أكسيد الكربون قبل أن يدخل إلى الهواء فيلوث البيئة، فستقوم هذه الشركات التي تريد تلويث بيئتنا بإجراءٍ قانوني وشرعي معترف به دولياً، ومبارك فيه من قبل منظمات الأمم المتحدة المختصة والمسؤولة عن حماية بيئتنا، مثل عقد صفقة مشابهة لصفقة الحكومة الماليزية. وتكون في نهاية المطاف هذه الشركات الملوثة للبيئة هي الرابحة من جميع النواحي، فهي تكون قد ضربت عدة عصافير في وقت واحد. أما أولاً فهي أمام دولهم والمجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة المعنية قد أدت واجباتها المطلوبة بصفةٍ شرعية وقانونية تجاه المتطلبات البيئية المحلية والدولية، كما هي ثانياً وفت بتعهداتها والتزاماتها المعنية بخفض انبعاث الملوثات المؤثرة على مناخ كوكبنا بجعل طرفٍ ثان يقوم بامتصاص هذه الملوثات، وقد يكون هذا الطرف في البلد نفسه أو بلاد أخرى، وثالثاً وفرَّت الكثير من المال ولم تتأثر أرباحها السنوية ومكاسبها المالية، فبدلاً من أن تضع أجهزة ومعدات غالية جداً تُرهق كاهل ميزانياتها وتقلل من أربحها السنوية وتعرقل عملياتها الإنتاجية، قامت بتحويل مبلغٍ مالي بسيط بالنسبة لهم إلى دول أخرى للقيام بدور التخلص من ملوثاتها التي أطلقتها إلى الهواء.

 

ولذلك في تقديري فمثل هذه الوسائل والأدوات الدولية تخدم في المقام الأول المصالح الاقتصادية للشركات المتطورة والعملاقة التي عادة ما تقع في الدول الغنية المتقدمة والمتنفذة على المستوى الدولي، والتي تمتلك القرار النهائي في اجتماعات منظمات الأمم المتحدة، فهي التي تدير سفينة هذه المنظمات، فتسيرها حسب أهوائها ومصالحها، سواء أكانت منظمات أمنية، كمجلس الأمن، أو اقتصادية، أو بيئية، أو حقوقية.

 

فمثل هذه الأدوات لها بعض السلبيات التي يجب التنبيه إليها، فهي في تقديري غير مستدامة، وهذه السلبيات أُلخصها في النقاط التالية:

أولاً: الأدوات والآليات بشكلٍ عام التي تضعها منظمات وهيئات ومجالس الأمم المتحدة ليست مبنية ولا تهدف إلى حماية مصالح كوكبنا والحفاظ على الثروات البيئية الطبيعية المشتركة للإنسانية، أو حماية ورعاية مصالح وصحة الشعوب الفقيرة والمستضعفة، وإنما هي تسعى أولاً إلى تحقيق مصالحها ومآربها ومصالح شركاتها ومصانعها، وضمان استمرارية الأعمال التنموية فيها دون وجود حجر عثرة يقف أمامها مهما كان هذا الشيء.

ثانياً: بالنسبة للأدوات الخاصة بمكافحة التغير المناخي، وبالتحديد المتعلقة بسوق الكربون والانبعاث، والتعويض الكربوني، فكان من الأولى والأجدى لمصير كوكبنا وحماية مواردها وخفض حرارتها أن تعمل الدول على إبداع آليات تلزم الشركات العملاقة الغربية والشرقية في الدول الصناعية الثرية على منع، أو خفض انبعاثاتها من غازات الدفيئة، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون بنسبة محددة سنوياً، بدلاً من السماح لها قانونياً وتحت إشراف الأمم المتحدة على تلويث البيئة ونقل المهمة إلى جهة أخرى لا يعلم أحد بشكلٍ دقيق مدى فاعليتها في القيام بمهمة امتصاص الملوثات والتخلص منها.

ثالثاً: مثل هذه الأدوات الأممية لا تُشجع الدول والشركات العظمى ولا تحفزهم على منع وخفض الانبعاث من المصدر، أي من المصنع نفسه، حيث يكتفون بدفعٍ مبلغ مالي رمزي ومواصلة تلويث البيئة إلى أجلٍ غير مسمى، كما أن هذه الآليات لا تشجع العالم الانتقال من المصادر غير المتجددة للطاقة وتشغيل المصانع والملوثة للبيئة إلى المصادر الأخرى النظيفة، وغير الناضبة.

رابعاً: اعتماد آلية "الحماية الطبيعية" من ملوثات البيئة تعتبر آلية غير مستدامة، فامتصاص البيئات الطبيعية للملوثات المناخية لا يستطيع مواكبة هذه الملايين من الأطنان التي تخرج إلى الهواء من شتى أنواع الملوثات التي تنبع من كل شبرٍ في كوكبنا، كما أنها ستتعرض لحالة من التشبع ربما لا تتمكن مع الوقت من امتصاص وتخزين المزيد من الملوثات التي تنبعث في كل ثانية مدى الحياة ومنذ مئات السنين. وعلاوة على ذلك فإن هذه البيئات الطبيعية المعروضة في السوق لامتصاص الملوثات في الهواء قد تنتهي مع الوقت، فكيف ستقوم هذه الشركات العملاقة بالتعويض عن إفساد بيئتنا بالملوثات التي تطلقها؟

 

وختاماً فإن هذه الآليات والأدوات وُضعت من قبل الدول الصناعية المتقدمة الغنية، فهي بالتالي تخدم هذه الدول وأذرعها الاقتصادية من مصانع وشركات عملاقة وتُقدم لها المخارج والمبررات القانونية الدولية لاستمرار عملها دون توقف، ولم توضع حماية لبيئتنا، أو رعاية لمصالح ثرواتنا البيئية الفطرية المشتركة.

الخميس، 27 يناير 2022

التلوث قديماً وحديثاً


لقد تمكن الإنسان نوعاً ما من السيطرة على بعض الملوثات التقليدية القديمة التي تعامل معها وعانى من وجودها في البيئة منذ أكثر من 150 عاماً، فقد نجح بدرجةٍ محدودة إلى ترويضها والتعرف عليها وعلى كيفية تصرفها عند دخولها في مكونات البيئة وأضرارها على صحة الإنسان والحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ووضع خططاً وبرامج للتحكم فيها وإدارتها على كافة المستويات، بحيث تهدف هذه البرامج التنفيذية إلى الخفض من حجم ونسبة وُلوجها وانبعاثها إلى عناصر بيئتنا من ماءٍ وهواء وتربة.

فالكثير من هذه الملوثات القديمة انكشفت منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية، ومنذ أن استخدم الإنسان عملية حرق الوقود الأحفوري من الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي في وسائل المواصلات المختلفة وفي إنتاج الطاقة الكهربائية وفي تشغيل المصانع، كما إن عمليات التنجيم الواسعة النطاق التي كان يقوم بها الإنسان بحثاً عن العناصر الثقيلة التقليدية المعروفة كانت أيضاً مصدراً لإفساد البيئة وتدهور جودتها، وسبباً في نزول العديد من الكوارث الصحية البيئية التاريخية على المجتمعات البشرية.

ففي تلك المرحلة الأولى من عمر الثورة الصناعية انتشرت في البيئة ملوثات قديمة وتقليدية معروفة الآن لدي الإنسان، مثل أكاسيد الكبريت، وأكاسيد النيتروجين، والدخان أو الجسيمات الدقيقة، وأول أكسيد الكربون، وغاز الأوزون الذي ينتج من تفاعل أكاسيد النيتروجين مع المركبات العضوية، إضافة إلى مخلفات البحث في باطن الأرض عن المعادن، مثل الرصاص، والكادميوم، والخارصين، والزئبق، والكروميوم. وجميع هذه الملوثات القديمة خضعت منذ عقود لجهود التقنين في السماح لدخولها إلى مكونات بيئتنا، وذلك باستخدام العديد من الأدوات والوسائل، منها استخدام المواصفات والمعايير التي تحد من انبعاثها وتحدد تركيزها في مخلفات المصانع الغازية والسائلة والصلبة التي تصرف إلى البيئة، إضافة إلى المعايير الخاصة بتحديد نسبتها في مكونات البيئة، أو من خلال تقنين وجودها عن طريق آلية التشريعات القومية التي تضعها الدول للتحكم فيها، أو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تُدير بعض هذه الملوثات على مستوى كوكبنا، فتُحمل كل دولة من دول العالم مسؤولية التعامل السليم والآمن معها حسب هذه الأنظمة الدولية.

ثم مع استمرار الثورات الصناعية وارتفاع وتيرة إنتاج المواد الاستهلاكية وزيادة أعداد المصانع التي تنتج شتى أنواع المنتجات التي نستخدمها كل يوم، انكشفت ملوثات جديدة كانت غريبة على الإنسان، من حيث هويتها وتركيز وجودها في البيئة، وأسلوب تصرفها عندما تدخل في مكونات البيئة، وكيفية تفاعلها مع المواد والملوثات الكثيرة الأخرى التي توجد معها في البيئة نفسها، إضافة إلى مصيرها الأخير بعد سنوات من دخولها إلى البيئة وتأثيراتها الصحية عندما يتعرض لها الإنسان وتدخل في أعضاء جسمه.

وهناك أمثلة كثيرة أستطيع أن أضربها لكم حول هذه الملوثات الحديثة التي بدأت تقلق بال الإنسان من جديد، وقد تسبب له مشكلات بيئية وصحية غامضة وغريبة لم يعرف الإنسان بعد كافة خفاياها وأسرارها وأبعادها على صحة الإنسان وبيئته. ومن هذه الأمثلة التي غطتها وسائل الإعلام الأمريكية مؤخراً واهتمت بها كثيراً لتهديدها للصحة العامة في منطقة جغرافية واسعة، فنُشرت عدة تحقيقات عنه هو ملوث مسرطن وسام، وهو سائل عديم اللون وقابل للاشتعال وسريع الذوبان في الماء، ويُطلق عليه علمياً بالديكسان(1,4-Dioxane). وكان سبب اهتمام وسائل الإعلام بهذا المركب هو وصوله إلى مياه الشرب للملايين من الأمريكيين في نحو 30 ولاية شملت كافة المناطق الجغرافية، بدءاً بالولايات الشمالية الشرقية كولاية نيويورك ونيو جيرسي وميشيجن، ثم الجنوبية مثل تكساس ونورث كارولاينا، وولايات غربية مثل كاليفورنيا، حيث كتبت مجلة "البوليتيكو" تحقيقاً شاملاً في 23 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "كيف وصلت مادة سامة إلى مياه الشرب التي يستعملها 13 مليون إنسان؟". وهذا التحقيق ركز على وجود تراكيز مرتفعة جداً من هذا المسرطن في نهر(Delaware) الذي يستخدمه الملايين للشرب في ولاية نيويورك وبنسلفانيا وغيرهما، والذي من المفروض أن تكون مياهه عذبة ونقية وحامية لصحة الإنسان، مما يعني بأن هذه الملايين من البشر يشربون في كل يوم مياهاً سامة تُعرض حياتهم وحياة فلذات أكبادهم للخطر والسقوط في الإصابة بالسرطان، حسب تصنيف "برنامج الولايات المتحدة القومي للسموم" لهذه المادة والمنشور في النشرة الإخبارية الصادرة من جمعية الكيميائيين الأمريكية "أخبار الهندسة والمواد الكيميائية"(Chemical & Engineering New) في يناير من العام الجاري.

فكيف إذن وصلت هذه المادة المسرطنة إلى مياه الشرب في منازل الناس، وربما في المدارس والجامعات والحدائق والمتنزهات؟

وللإجابة عن هذا السؤال علينا بالتحقيق في مسيرة حياة هذا الملوث الخطير ومكان ولادته وتنقلاته، فهو ينتج عادة من ضمن الشوائب غير المرغوب فيها عند صناعة المواد الاستهلاكية في المصانع، مثل صناعة المنتجات البلاستيكية، أو مواد التنظيف الشخصي والصناعي بمختلف أنواعها، وهذه المادة تدخل مع مياه الصرف التي تُطلقها هذه المصانع إلى محطات معالجة مياه المجاري، والتي بعد عملية المعالجة تتخلص من مياهها الملوثة بهذا المسرطن في المسطحات المائية، أو في بعض الحالات في المياه الجوفية، وأخيراً تصل إلى الإنسان في عقر داره من هذه المصادر الملوثة.

فهذا المثال الواقعي البسيط في ظاهره لا يُعد بالنسبة لي حالة جديدة، أو ظاهرة حديثة فريدة من نوعها وقعت في القرن الحادي والعشرين، ولكنها في الواقع ظاهرة قديمة سطرنا تفاصيلها وأحداثها من قبل في مقالاتنا وكُتبنا، ووقعت مشاهدها وأحداثها قبل مئات السنين في الكثير من دول العالم، ولكن الجديد اليوم في هذه الحالة هو هوية ونوع هذه الملوثات التي اختلفت عن الملوثات القديمة التقليدية المعروفة لدي الإنسان.

فالتلوث واحد لا يختلف، والكوارث العقيمة التي تنزل على الإنسان بسبب هذا التلوث أيضاً لا تختلف، ولكن الاختلاف يكمن في نوعية الملوثات ونوعية الأمراض التي تصيب الإنسان عند التعرض لها، فكلما تعرَّف الإنسان على أحد الملوثات، نزلت عليه ملوثات جديدة أخرى أشد وطأة وتنكيلاً بصحته وسلامة بيئته.

فهذا يعني بالنسبة لي ضرورة عدم تجاهل التلوث في أي مكانٍ أو زمان، ومهما كان مصدره أو نوعه، وعدم غض الطرف عنه حتى ولو كان صغيراً في حجمه، وأهمية كبح جماحه ووأده من جذوره في مهده قبل أن ينتقل إلى أعماق بيئتنا ويستفحل ويتفاقم ضرره، وتتعقد تداعياته، وتتشابك مردوداته، فلا أمان للتلوث بكل أشكاله وأنواعه، ولا توجد أية دولة بمنأى عن ضرره وتأثيراته العصيبة مهما كانت متقدمة ومتطورة علمياً وتقنياً.

 

الاثنين، 24 يناير 2022

خطورة تسييس العلم والعلماء

من أخطر الممارسات التي من الممكن أن تقوم بها الحكومات هو إقحام نفسها في العلم، والتدخل في المحتوي العلمي للأبحاث والتقارير التي تنتج من العلماء، أو من الجامعات ومراكز الأبحاث، إضافة إلى العمل على تسييس آراء العلماء واستنتاجاتهم المتعلقة بالقضايا العلمية المختلفة، وتحريفها وتغييرها لتتناسب وتتماشى مع موقف الحكومة وسياساتها، أو التوجهات الحزبية لهذه الحكومة، أو أهواء ومصالح الشخص الحاكم نفسه. 

 

ومن أخطر صور وأوجه هذا التدخل هي أولاً شراء ضمائر بعض العلماء ليكونوا بشكلٍ غير رسمي المتحدث العلمي باسم الحكومة والمدافع عن سياساتها وتوجهاتها، وتقديم الموقف العلمي الموصوف بأنه الرأي "الموضوعي والمستقل" بطريقةٍ تتوافق وتتماشى مع موقف الحكومة، وثانياً يكون الاقحام والتوغل في شؤون العلم من خلال التلاعب في صياغة التقرير والبحث العلمي، أو تغيير لغة التقرير لتكون موافقة مع السياسة الحكومية، إضافة إلى تخفيف أو تشديد لغة التقرير والاستنتاجات التي تتمخض عنها لتتناسب مع المواقف العامة للحكومة، وأخيراً يكون التدخل في إخفاء التقارير والمعلومات العلمية والبحثية التي تجريها الأجهزة الحكومية ومنع نشرها، والتي قد تكون نتائجها لا تتوافق مع مواقف وسياسات الحكومة.

 

وهذه الظاهرة الخطيرة متجذرة في الكثير من حكومات دول العالم، ومن بينها أقوى دولة في العالم وأكثرها رقياً وتقدماً وتطوراً في الكثير من المجالات وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وحدة هذه الظاهرة ودرجة وضوحها أمام الناس اختلفت من حكومة أمريكية إلى أخرى، وربما من أشد الحكومات الأمريكية تدخلاً في الشأن العلمي وفي محتوى التقارير العلمية، أو إهمالاً وتجاهلاً للرأي العلمي، وتضيقاً على العلماء الذين اختلفت مواقفهم وآراؤهم مع سياسة الحكومة تمثلت في الرئيس الأمريكي السابق ترمب.

 

ولذلك نُشرت الكثير من الخطابات والرسائل العامة من علماء أمريكا للشكوى من هذه الظاهرة الخطيرة، ودعوة المجتمع الأمريكي والمسؤولين إلى التنبه لها ومحاربتها، حتى يكون العلم، وتكون نتائج العلماء وآراؤهم خالصة نقية من شوائب السياسة المتغيرة كل يوم، ونزيهة ومستقلة من أية تأثيرات خارجية، إضافة إلى منع زعزعة احترام الناس وفقد ثقتهم بالعلماء ونتائج الدراسات العلمية. وقد نشرتْ مجلة "الطبيعة"(Nature) المرموقة في 11 يناير من العام الجاري مقالاً حول هذه الظاهرة تحت عنوان: "كيف يمكن حماية العلم في الولايات المتحدة من تدخل السياسة بعد ترمب؟".

 

واستجابة لهذه الدعوات من علماء أمريكا، قام بايدن في الأسبوع الأول من دخوله إلى البيت الأبيض بإصدار مذكرة رئاسية في 27 يناير 2021 تحت عنوان: "إعادة الثقة في الحكومة من خلال النزاهة العلمية والسياسات المبنية على الدليل"، حيث أمرتْ المذكرة بتشكيل فريق عمل مكون من خمسين خبيراً يمثلون 29 وكالة حكومية اتحادية للنظر في هذه الظاهرة، وتقديم التوصيات حولها. وبيَّن بايدن بأن الهدف الرئيس من هذه اللجنة التي أُطلقَ عليها "لجنة النزاهة العلمية" بالمجلس القومي للعلم والتقنية هو "إعادة الثقة في الحكومة من خلال النزاهة العلمية والسياسات المبنية على الدليل العلمي"، حيث أكد بايدن بأن النزاهة العلمية من أهم الدعائم والأركان الأساسية لإدارته.

 

وقد قامت هذه اللجنة بتقديم الملخص التنفيذي للتقرير والصادر من مكتب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، مكتب البيت الأبيض لسياسات العلم والتقنية(White House Office of Science and Technology Policy) في 11 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "حماية نزاهة المعلومات العلمية الحكومية".

 

وجاء في الملخص التنفيذي للتقرير بأن حماية النزاهة العلمية في أجهزة الحكومة هامة جداً للأمة الأمريكية، وهذا يعني المحافظة على هذه النزاهة وحمايتها في جميع مراحلها، بدءاً بتصميم موضوع البحث العلمي وخطة البحث، ثم اتباع الأسلوب والمنهج العلمي المعتمد والموثوق في تنفيذه، ثم الوصول إلى عرض وصياغة النتائج والاستنتاجات، وأخيراً استخلاص السياسات العامة من هذه الاستنتاجات العلمية. كما أكد الملخص التنفيذي بأن مصطلح العلم يعني ويشتمل على جميع المجالات والتخصصات، سواء أكانت العلوم التطبيقية من كيمياء وأحياء وفيزياء وبيئة وغيرها، أو العلوم الهندسية، أو الطبية، أو علم الاقتصاد والاجتماع والاحصاء. وربما أُضيف على هذا التعريف علماً وتخصصاً آخر، وهو قد يكون حالياً غير واضح في الدول الديمقراطية العلمانية الغربية خاصة، ولكنه مشهود وحاضر ومتجذر في بعض الدول العربية الإسلامية وهو علم الشريعة أو علوم الدين الإسلامي، وكثيراً ما يُسيس هذا العلم والعلماء خدمة للحكام والحكومات وتحليلاً لما حرمه الله، وتحريماً لما أحله الله لكي يتوافق مع سياسات وتوجهات هذه الدول. 

 

وقد جاء في مقدمة التقرير حول حماية نزاهة العلم بأن الديمقراطية تعتمد على المعلومات الموثوقة، والدراسات والأبحاث العلمية والتقنية المستقلة والموضوعية مهمة جداً للصحة العامة للأمريكيين وسلامتهم وازدهارهم، كما أن للشعب الأمريكي الحق في أن يتوقع من الحكومة معلومات وأدلة علمية دقيقة وسياسات مبينة عليها، وهذا يحتاج إلى نزاهة  علمية مبنية على الأبحاث العلمية التي لا تؤثر عليها السياسة، كما أن مخالفة مبادئ النزاهة العلمية تُفقد الثقة بالعلم والحكومة معاً، وتؤدي في بعض الأحيان إلى رفض الشعوب لمواقف الحكومات وقراراتهم، بل وفي بعض الحالات التمرد عليها ومقاومتها بجميع الوسائل السلمية والعنيفة، كما هو الحال الآن بالنسبة لرفض فئة من بعض الشعوب الغربية في الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وروسيا لأخذ اللقاح ضد فيروس كورونا.

 

ولذلك لا بد من أن تتبنى الحكومات موقف الحياد والموضوعية وعدم التدخل في الاستنتاجات التي تتمخض عن الأبحاث العلمية والدراسات الميدانية في جميع التخصصات، سواء أكانت علوم الدنيا أو علوم الدين، وتجنب تطويع والضغط على العلم والعلماء لإصدار الفتاوى العلمية التي تتفق مع سياساتها، وفي الوقت نفسه أدعو العلماء إلى تبني المنهج العلمي الموضوعي والمستقل عند إجراء الأبحاث العلمية وعدم الجري وراء إرضاء سياسات وتوجهات الحكومات حفاظاً على سمعتهم وثقة الناس بالبحث العلمي.

 

الخميس، 20 يناير 2022

تحذير لسكان لندن من الخروج من منازلهم!


أول ما يتبادر إلى ذِهنك وأنت تقرأ المقال هو أن هذا التحذير الصادر من الجهات المعنية في الحكومة البريطانية حول دعوة الناس إلى عدم الخروج من منازلهم وحجرهم في أماكن سكنهم جاء بسبب تفشي فيروس كورونا لمدة سنتين حتى الآن، وبالتحديد هذه الأيام من متحور فيروس كورونا الأصلي وهو أوميكرون.

 

فهذا التحذير والحجر الحكومي للناس ليس بغريب على مدن بريطانيا وعلى كافة مدن العالم منذ أن ولج هذا الفيروس العصيب في نهاية ديسمبر عام 2019 إلى البيئة البشرية، ثم إلى أعضاء جسم الإنسان مباشرة، حتى أن ضحايا هذا الفيروس في زيادة مستمرة مطردة في كل مدن العالم دون توقف لحظة واحدة لكي يعيد المجتمع الإنساني أنفاسه ويعطيه مجالاً للتفكير والدراسة، فمنهم من قضوا نحبهم ونقلوا إلى مثواهم الأخرى تحت الثرى، وبلغ عددهم قرابة 5.6 مليون، ومنهم من أصابهم المرض وقاربوا على 327 مليون.

 

ولكن التحذير اللندني الذي نُشر في وسائل الإعلام البريطانية في يوم الجمعة 14 يناير لم يكن هذه المرة كالعادة نتيجة لانتشار فيروس كورونا بجميع تحوراته، ولكن كان نتيجة لسوء الأحوال البيئية، وتدهورٍ شديد لنوعية الهواء التي يتعرض لها الناس ويستنشقونها في كل ثانية. ولذلك جاء تحذير لسكان لندن من الخروج من منازلهم في ذلك اليوم حماية لصحتهم، وتوجيههم إلى تجنب ممارسة الرياضة والأنشطة في البيئات الخارجية وعدم سياقة السيارة كلما أمكن ذلك حفاظاً على سلامة أجسادهم ومنعاً لدخول الملوثات السامة والخطرة إلى أعضاء أجسامهم، وبخاصة الجهاز التنفسي العلوي والسفلي. وهذا التنبيه صدر بصفةٍ خاصة لكبار السن والأطفال، ولكل من يعاني من مشكلات صحية في الجهاز التنفسي كالربو، والحساسية، وأمراض القلب، فهذه الفئة من الناس تكون عادة أكثر معاناة من أي تغيرٍ، ولو طفيف، لحجم وتركيز الملوثات في الهواء الجوي.

 

 وجدير بالذكر أن المتهم في هذه الحالة الصحية التي نزلت على لندن لم يكن فقط تلوث الهواء المنبعث من السيارات، ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، فهذه المصادر موجودة دائماً ولم تتوقف قط، والملوثات تنبعث منها ليلاً ونهاراً في كل ثانية، ولكن المتهم الآخر الذي زاد الطين بله هو تدهور الطقس في ذلك اليوم بالتحديد، فالرياح كانت ساكنة جداً، وحركة التيارات الهوائية بطيئة، أو شبه منعدمة في بعض الساعات، كما أن ظاهرة الانقلاب الحراري كانت أيضاً من أسباب هذا الحالة الشديدة التي نزلت على لندن. ففي مثل هذه الأجواء المناخية الخاصة، فإن الملوثات التي تنطلق إلى الهواء من جميع المصادر لا تتشتت ولا تنتشر في السماء الواسعة، ولا يخف تركيزها مع الوقت، وإنما تساعد هذه الأجواء المناخية على تراكمها، وزيادة تركيزها ساعة بعد ساعة، فتتكون طبقة من السحب القاتلة المشبعة بالملوثات السامة في طبقات الجو السفلى، فيتعرض لها الناس بتراكيز مرتفعة جداً تؤدي بهم في بعض الأوقات إلى الموت، أو غرف الطوارئ في المستشفيات، وتزيد عندهم الكحة، والسعال، وآلام في الحنجرة والعينين، وحكة شديدة في الجلد.

 

ومثل هذه الحالات البيئية الصحية التي شهدناها في لندن ليست جديدة، وليست أيضاً حالات فريدة تنزل على لندن فقط، وإنما هي قديمة قِدم الثورة الصناعية التي قام بها الإنسان، وهي في الوقت نفسه ظاهرة عامة تعاني منها الكثير من المدن الحضرية في شتى أنحاء العالم، وبخاصة في المدن التي تكثر فيها السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء، وتعاني في الوقت نفسه من الظاهرة المناخية الخاصة التي ذكرتها.

 

فعلى سبيل المثال، أجمعتْ وسائل الإعلام الهندية، ومنها صحيفة "هندوستان تايمس"(Hindustan Times) المنشورة في 14 يناير من العام الجاري، أي في اليوم نفسه الذي وقعت فيه حادثة لندن، عن نزول الحالة البيئية الصحية نفسها التي نزلت على لندن، حيث أكدت الجهات الحكومية المختصة عن استمرار تدهور جودة الهواء في سماء المدن الهندية، وبالتحديد العاصمة دلهي، بدءاً من 12 يناير حتى 16 يناير، حيث بلغ المؤشر الخاص بجودة الهواء 312، وهذا المستوى المرتفع يؤكد بأن الهواء في المدينة متدهور، أو سيء جداً. ومثل هذه الحالة تتكرر كثيراً في مدينة دلهي ومدن هندية أخرى، حيث نقلت وسائل الإعلام الصادرة في مدينة دلهي مثل صحيفة "الهند اليوم"(India Today) في السادس من نوفمبر 2021 أخباراً تحت عنوان: "هواء دلهي الخانق يبقى في المستوى الخطر"، وعنوان آخر: "نوعية الهواء في دلهي ضمن المستوى الخطر". وفي مثل هذه الحالات التي ترتفع فيها معدلات تلوث الهواء، تتعرقل حركة الناس، وتمنع الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، وتصيب عامة الناس بأعراض الربو والحساسية في الجهاز التنفسي، وقد أفادت التقارير بأن مؤشر جودة الهواء في دلهي في تلك الأيام بلغ مستوى "الخطر"، حيث وصل إلى مستويات قياسية عالية فاقت الرقم 600، كما نقلت صحيف هندستان تايمس  في السابع من نوفمبر عن تقارير طبية بأن عدد المرضى الذين يشتكون من أعراض مرضية في الجهاز التنفسي كضيق التنفس، والكحة، والعطاس وغيرها زادت بنسبة 20% عن الأيام العادية. كذلك في المدن الصينية أصبحت هذه الحالات مألوفة من كثر وقوعها، فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة يوميات الصين(China Daily)في العدد الصادر في الخامس من نوفمبر 2021 خبراً تحت عنوان: "تعليق الأنشطة المدرسية الخارجية بسبب تدهور نوعية الهواء"، حيث جاء فيه بأن هيئة التعليم في العاصمة الصينية أصدرت تحذيرات شديدة وتعليمات صارمة طارئة تُوجه فيها كل المدارس والمعاهد التدريبية إلى وقف جميع الأنشطة التي تقام في خارج البيئات المغلقة، أي خارج مباني المدارس والمعاهد.

 

ولذلك في تقديري فإن استمرار وقوع مثل هذه الكوارث البيئية الصحية منذ أكثر من مائة عام، وتفشي هذه الظاهرة بدرجةٍ مطردة في الكثير من مدن العالم وزيادة انتشارها وظهور بؤر جديدة سنة بعد سنة ، يؤكد لي بأن الإنسان قد فشل فشلاً ذريعاً في محاربة تلوث الهواء ومواجهة أضراره، بل وإنه خسر الحرب ضد تلوث الهواء.

 

Bottom of Form

 

وأتمنى أن تحظى قضية تلوث الهواء على الاهتمام على المستوى القومي، والإقليمي، والدولي الذي يتناسب مع حجم ضرره على البشرية، كاهتمامنا غير المسبوق بمرض فيروس كورونا(SARS-CoV-2). فهذا الفيروس العقيم يسبب مرضاً واحداً فقط هو كوفيد_19، في حين أن تلوث الهواء يسبب المئات من الأمراض المختلفة والمستعصية كالسرطان وأمراض القلب والرئة، والتي يُجمع العلماء والأطباء على علاقتها بتلوث الهواء مباشرة.

فهل من مجيب؟

الخميس، 13 يناير 2022

أولوية قضية جودة الهواء


ناقش مجلس الوزراء في الاجتماع المنعقد في 26 ديسمبر 2021 المذكرة المرفوعة من وزير شؤون مجلس الوزراء بشأن تقرير المجلس الأعلى للبيئة حول جودة الهواء في مملكة البحرين لعام 2021، حيث أفادت المذكرة بأن يتم رصد جودة الهواء عبر محطات متخصصة وتحليل بياناتها وفق منهجيات معتمدة من منظمة الصحة العالمية، كما أكدت المذكرة بأن النتائج والتحاليل أظهرت بأن معظم مكونات الهواء في مملكة البحرين ضمن المعدلات الطبيعية.

 

وفي الحقيقة فإنني أشكر أولاً مجلس الوزراء على طرح ومناقشة هذه القضية الخطيرة في اجتماعه الأسبوعي، وفي الوقت نفسه أتمنى أن يزيد ويتواصل الاهتمام والرعاية بهذه القضية لكي يرقى ويتناسب مع مستوى وحجم هذه القضية الهامة جداً والتي لها علاقة مباشرة ليست بصحة البيئة وسلامة أحد مكوناتها فحسب، وهي الهواء الجوي، وإنما بصحة الإنسان في المقام الأول، فكل ما يحدث في الهواء الجوي من تغييرات على هويته وطبيعته نوعياً وكمياً، ينعكس بصورة مباشرة على الهواء الذي يستنشقه الإنسان في كل ثانية، وبالتالي على الأمن الصحي لعامة المواطنين.

 

فقضية جودة الهواء هي مرتبطة أساساً بالأمراض التي يتعرض لها الإنسان، فهي قضية حياة سعيدة وصحية وسليمة بعيدة عن الأمراض والأسقام، أو قضية حياة بائسة مشبعة بالعلل الحادة والزمنة والمستعصية على العلاج، فهي في نهاية المطاف قضية حياة، أو موت مبكر في غير وقته.

 

ولست أنا من يدِّعي بذلك، ولكن الدراسات العلمية المتواترة، والأبحاث الميدانية من الجامعات، ومراكز الأبحاث، ومن المنظمات البيئية والصحية، وعلى رأسها منظمة صحة العالمية، هي كلها التي توافقني الرأي، وتجمع على أهمية قضية جودة الهواء وإعطائها الأولوية، كقضية صحة أو مرض، وقضية حياة أو موت.

 

والدراسات والتقارير التي تثبت تهديد الملوثات لصحة الإنسان، وانعكاس سوء نوعية الهواء التي يستنشقها الفرد على صحته، لا تُعد ولا تحصى، وآخرها الدراستان الدوليتان الشاملتان والمنشورتان في المجلة الطبية الدولية المرموقة اللانست، صحة الكوكب(The Lancet Planetary Health) في العدد الصادر في الخامس من يناير من العام الجاري.

 

أما الدراسة الأولى فنُشرت تحت عنوان: "النمط المكاني الحضري الدولي للجسيمات الدقيقة وعلاقتها بالعبء الصحي: تقديرات من بنك معلومات دولية". فهذه الدراسة تهدف إلى التعرف على أنماط التغيرات المكانية لتركيز الدخان، أو يُطلق عليه علمياً بالجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، والتي قطرها يساوي 2.5 ميكرومتر أو أقل من ذلك، وعلاقة تركيز الدخان في الهواء الجوي بأعداد الوفيات في مدن العالم على مستوى كوكبنا برمته. وقد شملت هذه الدراسة الجامعة البحث في هذه العلاقة في 13160 مدينة خلال عامي 2019 و 2000. وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات هامة تؤكد تهديد هذه الجسيمات الدقيقة لصحة الناس في كل مدن العلاقة، كما تثبت العلاقة بين ارتفاع تركيز هذه الجسيمات في الهواء الجوي بالموت المبكر للإنسان في هذه المدن. ومن هذه الاستنتاجات أن هناك قرابة 2.5 مليار إنسان، أي 86% من سكان الأرض يعيشون في مدن حضرية، وهؤلاء البشر يُشكلون نحو 55% من سكان كوكبنا، وجميعهم يعيشون في بيئاتٍ هواؤها ملوث بالدخان، وبهذه الجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم، ويزيد هذا التركيز كثيراً عن المعايير الاسترشادية لمنظمة الصحة العالمية الخاصة بالجسيمات الدقيقة في الهواء والتي كانت 10 ميكروجرامات في المتر المكعب من الهواء كمعدل سنوي حسب مواصفات عام 2005، ثم تم خفضها إلى 5 بسبب عدم حماية المواصفة السابقة لصحة البشر. وهذه الهواء الملوث بالدخان في المدن تسبب في زيادة ملحوظة وكبيرة في أعداد الموتى بلغت 1.8 مليون وفاة في عام 2019، حيث تعتبر الآن هذه الجسيمات في الهواء من أشد المخاطر تهديداً للصحة العامة وتنكيلاً بالأمن الصحي للبشر أجمعين، وهذه النتيجة تفيد بأن 1.8 مليون إنسان قضوا نحبهم في سنٍ مبكرة، ونُقلوا إلى مثواهم الأخير نتيجة لتلوث الهواء الجوي بالدخان، مما يعني أن عدد الوفيات لكل مائة ألف ساكن للكرة الأرضية بسبب استنشاق الدخان الموجود في هواء المدن يتراوح بين 45 إلى 77 وفاة في سنٍ مبكرة في مختلف مدن العالم التي خضعت لهذه الدراسة الشاملة.

 

والدراسة الثانية سبرت غور تأثير ملوثٍ آخر موجود في الهواء الجوي أينما تذهب على سطح كوكبنا، وهو غاز ثاني أكسيد النيتروجين الذي ينبعث من مصادر يصعب إحصاؤها، فكل عملية احتراق للوقود الأحفوري في كل سيارة، وفي كل مصنع، وفي قطار، وفي كل طائرة، تنطلق منها هذا الغاز. وهذا الغاز القديم الذي يعرفه الإنسان منذ مئات السنين ضرره على جسم الإنسان مزدوج، فهو مُهدد خطر لأعضاء كل إنسان في حد ذاته، وهو في الوقت نفسه يتفاعل في الهواء الجوي مع ملوثات أخرى فيُنتج ملوثات أشد وطأة على الجسم البشري، كما يُكوِّن ظاهرة يشاهدها كل إنسان يعيش على سطح الأرض في المدن الحضرية، وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي. وهذه الظاهرة القاتلة عندما تنكشف في هواء المدن تصيح أجراس الإنذار وتصرخ وسائل الإعلام محذرة الناس من الخروج من منازلهم وممارسة الأنشطة في البيئات الخارجية.

 

وهذه الدراسة الثانية جاءت تحت عنوان: "الأنماط طويلة المدى لتركيز ثاني أكسيد النيتروجين في المدن الحضرية وعلاقتها بحالات الربو عند الأطفال"، حيث هدفت الدراسة إلى تقدير تركيز ثاني أكسيد النيتروجين على مستوى كوكبنا في 13189 مدينة من عام 2000 إلى 2019، وبيان علاقة نسبة هذا الغاز في الهواء بحالات الربو عند أطفال العالم. وقد توصلت الدراسة إلى أن هناك قرابة 1.85 مليون حالة ربو جديدة تظهر عند الأطفال في كل دول العالم مرتبطة بتركيز ثاني أكسيد النيتروجين في 2019، ومعظم هذه الحالات التي بلغت 1.22 مليون حالة كانت في المدن الحضرية، وهذه تمثل قرابة 176 حالة ربو لكل مائة ألف من فلذات أكبادنا في كل أنحاء كوكبنا.

 

فبعد هاتين الدراستين، وأبحاث وتقارير أخرى كثيرة لا أظن بأننا بحاجة إلى أدلة جديدة أخرى لإثبات أن جودة الهواء عامل أساس لحماية أمننا الصحي وتجنب الأسقام والموت المبكر، ولذلك أَطلقتُ سابقاً على تلوث الهواء بأنه قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته، فلا يدع عضواً إلا ويهاجمه، ولا يدع خلية إلا ويفسدها ويؤثر عليها. وعلى أداء وظيفتها.

 

أفلا ترون بأن قضية مثل هذه تستحق أن تكون في مقدمة سلم أولوياتنا واهتمامنا؟

الأحد، 9 يناير 2022

بيان لا قيمة له من الدول الخمس الكبرى

صدر بيان مشترك في الثالث من يناير من العام الجاري من خمس دولة كبرى نووية هي الصين، وفرنسا، وروسيا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية، واطلعتُ على نسخة من هذا الإعلان الجماعي المشترك من المنشور الذي وُضع في موقع البيت الأبيض في الإنترنت تحت عنوان: "منع الحرب النووية وتجنب سباقات التسلح".

 

 وهذا البيان يهدف إلى دعوة الدول النووية الكبرى المعترف بها دولياً إلى منع التسلح والسباق النووي، وتجنب قيام أية حربٍ نووية لا مصلحة لأحد فيها ولا منتصر يخرج منها، كما يهدف البيان المشترك لهذه الدول على توضيح مبدأ أن الأسلحة النووية دفاعية ووسيلة لردع أية دولة معتدية، وأنها لا َتستَخدم أية منها السلاح النووي ضد الآخر.

 

وقد جاء في نص البيان بأن الدول المعلنة عن هذا الإعلان الجماعي: "تَعتَبر بأن تجنب الحرب بين الدول التي تمتلك السلاح النووي وخفض المخاطر الاستراتيجية من مسؤولياتها الرئيسة"، كما ورد فيه: "ونحن نؤكد بأنه لا أحد ينتصر في الحرب النووية، ولذلك يجب تجنبها كلياً....ونحن نعتقد بشدة بمنع أي انتشار لمثل هذه الأسلحة". وعلاوة على هاتين الفقرتين فقد جاء في البيان بأن: "كل دولة تعتزم على الحفاظ وتقوية الإجراءات القومية لمنع الاستخدام غير المرخص له أو غير المقصود للأسلحة النووية... ونؤكد على بياناتنا السابقة حول عدم توجيه أسلحتنا النووية إلى بعضنا البعض، أو أية دولة أخرى".

 

وعند التعمق في تحليل فقرات البيان، وبخاصة تلك المتعلقة بوقف سباق التسلح، وجدتُ بأن هذا البيان في مجمله يثير للسخرية، ويستخف بعقول الناس عامة، ويستفز المختصين منهم والمتابعين والمراقبين للشأن النووي في دول العالم خاصة، وسباق التسلح بين الدول عامة.

 

فكما أن البيان يدعو الدول الخمس النووية إلى منع سباق التسلح النووي، نجد بأن هذه الدول نفسها التي وضعت ختمها على البيان، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، والصين لم تتوقف عن تحديث وتطوير وإنتاج الأسلحة النووية بمختلف أشكالها، وأنواعها، وأحجامها، منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى يومنا هذا، وأنا أؤكد بأن هذا السباق المحموم للهيمنة النووية، والتفوق في مجال السلاح النووي النوعي والكمي لم يتوقف أبداً، وسيظل مستمراً حتى يأخذ الله الأرض ومن عليها.

 

فعلى سبيل المثال صرح الأدميرال تشارلز ريتشارد آمر القيادة الاستراتيجية الأمريكية في 20 أبريل 2021 في جلسة استماع للجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ حول استمرار الصين في التسلح النووي، قائلاً في تقرير علني منشور بأن "الصين تعمل بسرية على مواصلة تطوير وتحديث برنامج عسكري شامل، وبناء قوة قاتلة لها قدرات في كل المجالات. وهذا التحديث يشتمل على الأسلحة النووية والقوات ....وبالرغم من أن المخزون النووي للصين حالياً أصغر من روسيا والولايات المتحدة إلا أنها تخضع لتوسعة غير مسبوقة"، كما أضاف العسكري الأمريكي قائلاً:" تسعى الصين لتطوير قدرات نووية استراتيجية بسرعة فائقة، وهذا يؤدي إلى تضاعف مخزونها النووي بحلول نهاية العقد القادم"، علماً بأن هذه التصريحات الأمريكية تتماشى مع السياسة العامة التي أعلن عنها الرئيس الصيني في الخطة الخمسية للفترة من 2021 إلى 2025، والتي تتمثل في الدعوة إلى "تقوية القوة الاستراتيجية"، و"تسريع إنشاء قوة ردع استراتيجية على مستوى عالي"، ومنها تطوير صواريخ باليستية تحمل رؤوساً نووية تفوق سرعة الصوت(hypersonic missiles). كما أن التقرير المنشور في الخامس من نوفمبر 2021 من البنتاجون تحت عنوان "تقرير قوة الجيش الصيني" أكد على المعلومات السابقة، وأفاد بأن الصين سيكون لديها 700 رأس نووي بحلول عام 2027، وما لا يقل عن ألف مع نهاية العقد. وعلاوة على ذلك فقد اعترفت الحكومة الصينية ببعض هذه المعلومات وبقيامها بالتسلح التقليدي والنووي، حسب ما ورد في التقرير السنوي من وزارة الدفاع لعام 2020 حول القدرة العسكرية، حيث أفاد بنمو المخزون النووي بخطى متواضعة، بحيث إنها لا تتعدى من الناحية العددية 400 بحلول نهاية العقد. وفي آخر تحديث للتقرير اعترفت الصين بأنها تسارع من توسعة مخزونها ليبلغ 1000 رأس نووي بحلول عام 2030، كما أن الصين حسب بعض التقارير اختبرت في يوليو وأغسطس أسلحة وصواريخ نووية جديدة متطورة وبعيدة المدى تفوق سرعة الصوت.

 

وهذا المثال الصيني ينطبق على الحالة الأمريكية والروسية، فكلتا الدولتان تعملان بسرية وخفاء في جنح الظلام، وفي بعض الأوقات أمام الملأ لاستعراض العضلات والقوة بإجراء تجارب على أسلحة حديثة وغير تقليدية أشد فتكاً، وذكاءً، ودقة من القنبلة الذرية العتيقة من الجيل الأول التي ألقيت على هوروشيما وناجازاكي عام 1945 في اليابان، بل وأنها بدأت بالغزو العسكري للفضاء وتضع الخطط لكيفية السيطرة عليه عسكرياً.

 

وجدير بالذكر فإن هذه الدول الخمس، ودول أخرى لديها المخزون الضخم من الأسلحة النووية، وتتسابق وتفتخر في جمعها وتخزينها. فبناءً على تقديرات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام(Stockholm International Peace Research Institute) حول المخزون من الأسلحة النووية في بعض دول العالم لعام 2021، جاءت روسيا في المرتبة الأولى بـ 6375 رأساً نووياً، ثم أمريكا في المرتبة الثانية بـ 5550 رأساً نووياً، ثم الصين 350، وفرنسا 290، وبريطانيا 225. وهناك تقديرات أخرى نُشرت في أكتوبر 2021 من اتحاد علماء أمريكا وقدَّمت أرقاماً متشابهة، وأضافت إلى الدول الخمس باكستان بـ 165، والهند 160، ثم الكيان الصهيوني 90، وأخيراً كوريا الشمالية 45.

 

فكل هذا الكم الهائل من الأسلحة النووية، والمخزون العظيم لم يأت بين عشية أو ضحاها، وإنما تراكمت مع الزمن، ومازالت تتراكم كل يوم دون توقف، وستستمر على هذا الحال. فكيف إذن يأتي البيان ليتحدث عن منع السباق النووي بين الدول، في حين أن السباق لم يتوقف، ولن يتوقف حسب التقارير المنشورة، واستناداً إلى ميزانيات وزارة الدفاع في هذا الدول التي تتزايد وترتفع بشكلٍ مطرد كل سنة، وتخصص بعض بنودها لتحديث ترسانة الأسلحة النووية القديمة، وبنود أخرى لتطوير وإنتاج أسلحة جديدة وحديثة تستخدم آخر التقنيات التي توصل إليها عقل الإنسان!

 

فمثل هذه البيانات الإعلامية الهدف منها تكريس احتكار السلاح النووي خاصة، ومصدر القوة عامة في حوزة هذه الدول العظمى، وهي ليست صدفة أن تكون هي نفسها الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن والتي بيدها قرار الحرب أو السلم، والسيطرة كلياً على القرار الدولي على كافة المستويات.