الخميس، 27 يناير 2022

التلوث قديماً وحديثاً


لقد تمكن الإنسان نوعاً ما من السيطرة على بعض الملوثات التقليدية القديمة التي تعامل معها وعانى من وجودها في البيئة منذ أكثر من 150 عاماً، فقد نجح بدرجةٍ محدودة إلى ترويضها والتعرف عليها وعلى كيفية تصرفها عند دخولها في مكونات البيئة وأضرارها على صحة الإنسان والحياة الفطرية النباتية والحيوانية، ووضع خططاً وبرامج للتحكم فيها وإدارتها على كافة المستويات، بحيث تهدف هذه البرامج التنفيذية إلى الخفض من حجم ونسبة وُلوجها وانبعاثها إلى عناصر بيئتنا من ماءٍ وهواء وتربة.

فالكثير من هذه الملوثات القديمة انكشفت منذ بزوغ فجر الثورة الصناعية، ومنذ أن استخدم الإنسان عملية حرق الوقود الأحفوري من الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي في وسائل المواصلات المختلفة وفي إنتاج الطاقة الكهربائية وفي تشغيل المصانع، كما إن عمليات التنجيم الواسعة النطاق التي كان يقوم بها الإنسان بحثاً عن العناصر الثقيلة التقليدية المعروفة كانت أيضاً مصدراً لإفساد البيئة وتدهور جودتها، وسبباً في نزول العديد من الكوارث الصحية البيئية التاريخية على المجتمعات البشرية.

ففي تلك المرحلة الأولى من عمر الثورة الصناعية انتشرت في البيئة ملوثات قديمة وتقليدية معروفة الآن لدي الإنسان، مثل أكاسيد الكبريت، وأكاسيد النيتروجين، والدخان أو الجسيمات الدقيقة، وأول أكسيد الكربون، وغاز الأوزون الذي ينتج من تفاعل أكاسيد النيتروجين مع المركبات العضوية، إضافة إلى مخلفات البحث في باطن الأرض عن المعادن، مثل الرصاص، والكادميوم، والخارصين، والزئبق، والكروميوم. وجميع هذه الملوثات القديمة خضعت منذ عقود لجهود التقنين في السماح لدخولها إلى مكونات بيئتنا، وذلك باستخدام العديد من الأدوات والوسائل، منها استخدام المواصفات والمعايير التي تحد من انبعاثها وتحدد تركيزها في مخلفات المصانع الغازية والسائلة والصلبة التي تصرف إلى البيئة، إضافة إلى المعايير الخاصة بتحديد نسبتها في مكونات البيئة، أو من خلال تقنين وجودها عن طريق آلية التشريعات القومية التي تضعها الدول للتحكم فيها، أو المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تُدير بعض هذه الملوثات على مستوى كوكبنا، فتُحمل كل دولة من دول العالم مسؤولية التعامل السليم والآمن معها حسب هذه الأنظمة الدولية.

ثم مع استمرار الثورات الصناعية وارتفاع وتيرة إنتاج المواد الاستهلاكية وزيادة أعداد المصانع التي تنتج شتى أنواع المنتجات التي نستخدمها كل يوم، انكشفت ملوثات جديدة كانت غريبة على الإنسان، من حيث هويتها وتركيز وجودها في البيئة، وأسلوب تصرفها عندما تدخل في مكونات البيئة، وكيفية تفاعلها مع المواد والملوثات الكثيرة الأخرى التي توجد معها في البيئة نفسها، إضافة إلى مصيرها الأخير بعد سنوات من دخولها إلى البيئة وتأثيراتها الصحية عندما يتعرض لها الإنسان وتدخل في أعضاء جسمه.

وهناك أمثلة كثيرة أستطيع أن أضربها لكم حول هذه الملوثات الحديثة التي بدأت تقلق بال الإنسان من جديد، وقد تسبب له مشكلات بيئية وصحية غامضة وغريبة لم يعرف الإنسان بعد كافة خفاياها وأسرارها وأبعادها على صحة الإنسان وبيئته. ومن هذه الأمثلة التي غطتها وسائل الإعلام الأمريكية مؤخراً واهتمت بها كثيراً لتهديدها للصحة العامة في منطقة جغرافية واسعة، فنُشرت عدة تحقيقات عنه هو ملوث مسرطن وسام، وهو سائل عديم اللون وقابل للاشتعال وسريع الذوبان في الماء، ويُطلق عليه علمياً بالديكسان(1,4-Dioxane). وكان سبب اهتمام وسائل الإعلام بهذا المركب هو وصوله إلى مياه الشرب للملايين من الأمريكيين في نحو 30 ولاية شملت كافة المناطق الجغرافية، بدءاً بالولايات الشمالية الشرقية كولاية نيويورك ونيو جيرسي وميشيجن، ثم الجنوبية مثل تكساس ونورث كارولاينا، وولايات غربية مثل كاليفورنيا، حيث كتبت مجلة "البوليتيكو" تحقيقاً شاملاً في 23 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "كيف وصلت مادة سامة إلى مياه الشرب التي يستعملها 13 مليون إنسان؟". وهذا التحقيق ركز على وجود تراكيز مرتفعة جداً من هذا المسرطن في نهر(Delaware) الذي يستخدمه الملايين للشرب في ولاية نيويورك وبنسلفانيا وغيرهما، والذي من المفروض أن تكون مياهه عذبة ونقية وحامية لصحة الإنسان، مما يعني بأن هذه الملايين من البشر يشربون في كل يوم مياهاً سامة تُعرض حياتهم وحياة فلذات أكبادهم للخطر والسقوط في الإصابة بالسرطان، حسب تصنيف "برنامج الولايات المتحدة القومي للسموم" لهذه المادة والمنشور في النشرة الإخبارية الصادرة من جمعية الكيميائيين الأمريكية "أخبار الهندسة والمواد الكيميائية"(Chemical & Engineering New) في يناير من العام الجاري.

فكيف إذن وصلت هذه المادة المسرطنة إلى مياه الشرب في منازل الناس، وربما في المدارس والجامعات والحدائق والمتنزهات؟

وللإجابة عن هذا السؤال علينا بالتحقيق في مسيرة حياة هذا الملوث الخطير ومكان ولادته وتنقلاته، فهو ينتج عادة من ضمن الشوائب غير المرغوب فيها عند صناعة المواد الاستهلاكية في المصانع، مثل صناعة المنتجات البلاستيكية، أو مواد التنظيف الشخصي والصناعي بمختلف أنواعها، وهذه المادة تدخل مع مياه الصرف التي تُطلقها هذه المصانع إلى محطات معالجة مياه المجاري، والتي بعد عملية المعالجة تتخلص من مياهها الملوثة بهذا المسرطن في المسطحات المائية، أو في بعض الحالات في المياه الجوفية، وأخيراً تصل إلى الإنسان في عقر داره من هذه المصادر الملوثة.

فهذا المثال الواقعي البسيط في ظاهره لا يُعد بالنسبة لي حالة جديدة، أو ظاهرة حديثة فريدة من نوعها وقعت في القرن الحادي والعشرين، ولكنها في الواقع ظاهرة قديمة سطرنا تفاصيلها وأحداثها من قبل في مقالاتنا وكُتبنا، ووقعت مشاهدها وأحداثها قبل مئات السنين في الكثير من دول العالم، ولكن الجديد اليوم في هذه الحالة هو هوية ونوع هذه الملوثات التي اختلفت عن الملوثات القديمة التقليدية المعروفة لدي الإنسان.

فالتلوث واحد لا يختلف، والكوارث العقيمة التي تنزل على الإنسان بسبب هذا التلوث أيضاً لا تختلف، ولكن الاختلاف يكمن في نوعية الملوثات ونوعية الأمراض التي تصيب الإنسان عند التعرض لها، فكلما تعرَّف الإنسان على أحد الملوثات، نزلت عليه ملوثات جديدة أخرى أشد وطأة وتنكيلاً بصحته وسلامة بيئته.

فهذا يعني بالنسبة لي ضرورة عدم تجاهل التلوث في أي مكانٍ أو زمان، ومهما كان مصدره أو نوعه، وعدم غض الطرف عنه حتى ولو كان صغيراً في حجمه، وأهمية كبح جماحه ووأده من جذوره في مهده قبل أن ينتقل إلى أعماق بيئتنا ويستفحل ويتفاقم ضرره، وتتعقد تداعياته، وتتشابك مردوداته، فلا أمان للتلوث بكل أشكاله وأنواعه، ولا توجد أية دولة بمنأى عن ضرره وتأثيراته العصيبة مهما كانت متقدمة ومتطورة علمياً وتقنياً.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق