الأحد، 2 يناير 2022

قلق عند الشعوب من أن يُعيد التاريخ نفسه

الآلاف من المتظاهرين والمحتجين يخرجون أسبوعياً في مدينة بلجراد ومدن صربية أخرى، وبالتحديد الذين يسكنون في منطقة وادي جادار على نهر جادار(Jadar)، حيث كان آخر هذه التظاهرات الشعبية في 27 ديسمبر 2021، حسب ما ورد في صحيفة الفايننشيل تايمس في 28 ديسمبر. وهذه الاحتجاجات العارمة المستمرة موجهة ضد شركة مناجم ريو تينتو(Rio Tinto) العملاقة متعددة الجنسيات، والتي تعتزم التنقيب عن الذهب الأبيض، أو الليثيوم واستخراجه من باطن الأرض من أكبر منجم لليثيوم في القارة الأوروبية لمواكبة ثورة السيارات الكهربائية وتزويدها بالوقود اللازم لاستمرارية إشعال هذه الثورة، والمتمثل في البطاريات التي تشغل وتسير سيارات المستقبل.

 

وقد أعلنت هذه الشركة بأنها ستستثمر قرابة 2.4 بليون دولار أمريكي في هذا المشروع العظيم، وأن الخير الوفير سيعم على الجميع، وسيزدهر اقتصاد البلاد وينمو بسرعة، ويرتفع مستوى معيشة الناس في تلك المنطقة بشكلٍ خاص، وفي صربيا بشكلٍ عام.

 

فلماذا إذن يخرج الناس لإبداء غضبهم وعدم موافقتهم على هذا المشروع الاقتصادي الكبير ذي الفائدة العظمية والخير الوفير على البلاد والعباد، ولماذا وقَّع مئات الآلاف منهم على عريضة يُبدون فيها رفضهم لمثل هذا المشروع التنموي الاقتصادي؟

 

وعندما توغلتُ في هذه القضية بعمق أكثر، وجدتُ الظاهرة نفسها في دول أخرى تنوي مثل هذه الشركات الضخمة القيام بها، وهي البحث في باطن الأرض والتنجيم عن الليثيوم والكوبالت وعناصر أخرى ضرورية لمنع انطفاء شرارة ووقود ثورة السيارات الكهربائية بشكلٍ خاص، وثورة احتكار مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة بشكلٍ عام.

 

ففي شيلي على سبيل المثال، حيث يوجد واحد من أكبر المناجم في العالم لليثيوم، خرجت العديد من المظاهرات العنيفة لرفض استخراج الليثيوم من الأرض، وفي الولايات المتحدة الأمريكية نشرت الصحافة العديد من التحقيقات حول جهود الحكومة للتنقيب عن المعادن العصرية التي تحتاج إليها لصناعة السيارات، والهواتف النقالة، وألواح الطاقة الشمسية ومستلزمات طاقة الرياح، وأكدت هذه المقالات على رفض السكان الأصليين من الهنود الحمر وغيرهم للتنقيب في أراضيهم وتدمير تراثهم البيئي، والفطري، والثقافي، حيث قاموا برفع دعاوى قضائية في المحاكم الأمريكية ضد هذه المشاريع، ومنها التحقيق المنشور في النيويورك تايمس في 27 ديسمبر 2021، تحت عنوان: "شركات المناجم تبحث عن المعادن للطاقة النظيفة والقبائل تخاف من تكرار أخطاء الماضي".

 

 وفي جميع هذه الحالات التي رفض فيها الناس مثل هذه المشاريع، كان هناك عامل مشترك بينهم جميعاً، وكان هناك هم وقلق شديدين ينتابهم كلهم معاً، وهو الخوف المدقع من تكرار وقوع تجارب الماضي الأليمة، والسقوط في أخطاء وزلات المشاريع المماثلة التي أقيمت في مطلع القرن الماضي في دولهم بشكلٍ خاص، ودول أخرى حول العالم بصفة عامة. فالخبرات والوقائع حول هذه الظاهرة كثيرة وموثوقة على كافة المستويات، والآثار السلبية العصيبة التي نجمت عن هذه المشاريع التنقيبية ومشاريع التنجيم في باطن الأرض مازالت ماثلة أمامنا، وتتلخص في تلويث المسطحات المائية والمياه الجوفية بالسموم والمواد المسرطنة، وإفساد التربة الزراعية وتسميم المحاصيل التي يتغذى عليها الناس، وتدمير شامل للحياة الفطرية النباتية والحيوانية في البر والأنهار والبحيرات. والأدهى من ذلك كله والأمر هو الضرر العقيم الذي وقع على صحة الناس وتعريضهم للأمراض الغريبة والمستعصية. فكل هذا الخبرات والتجارب التي تراكمت وتوثقت مع الزمن في دول العالم هي التي تقف حجر عثرة أمام مشاريع التنجيم بشكل عام، وتثير تحفظات الشعوب بالرغم من الجوانب الاقتصادية الوفيرة التي تصاحبها، ولا تشجعهم على قبولها والتحمس لها.

 

ومن أكثر هذه التجارب والخبرات وطأة على البشرية عامة، وأشدها تنكيلاً بصحة الناس هي الكوارث البيئية الصحية التي نزلت على الشعب الياباني خاصة في منتصف القرن الماضي، فهزت المجتمع البشري برمته، وأرعبت الشعوب في كل أنحاء العالم خوفاً من مشاريع التنجيم بصفة خاصة والتصنيع بصفة عامة، وكونت لديهم ردود فعلٍ سلبية تجاه مثل هذه المشاريع التنموية، وحفرت في نفوسهم آلامها ومعاناتها، وتركت بصمات عميقة خلدت ذكراها في كتب التاريخ المعاصر.

 

وسأذكر منها على سبيل المثال، كارثة واحدة فقط من بين كوارث كثيرة بدأت خيوطها تتضح منذ الألفية الأولى من القرن التاسع عشر، حيث شرعت اليابان بسرعة شديدة وبخطوات عشوائية غير منضبطة، كما فعلت الدول الصناعية الأخرى، بعمليات كبيرة في البحث عن العناصر اللازمة والضرورية لنجاح الثورة الصناعية وتحقيق الانتصار في الحرب العالمية الأولى. ومن بين أكبر منجم على المستوى العالمي كان مناجم كميوكا(Kamioka Mines) في مقاطعة توياما، حيث كان التنقيب عن معادن كثيرة، منها الرصاص، والفضة، والخارصين، والذهب، والنحاس، ونجمت عنه أحجام كبيرة من الملوثات السائلة التي كانت تحتوي على عنصر الكادميوم الشديد السمية، والذي سُمح له بدخول نهر جينزو(Jinzū) المغذي لحقول الأرز وحقول المحاصيل الأخرى بمياه الري والمستخدم أيضاً للشرب والاستخدامات المنزلية. ومع الوقت استهلك الشعب الياباني الرز، والأسماك، والنباتات الملوثة جميعها بهذا العنصر الخطير الذي أصاب الناس بمرضٍ غامضٍ وغريب لم يشهده المجتمع الطبي في ذلك الوقت واستمر أكثر من ستين عاماً، حيث كان المريض يعاني من آلام شديدة لا يمكن تحملها، ولا يمكن وصفها، مما جعلهم يُطلقون على هذا المرض "إتاي_إتاي"( Itai-itai)، أي مؤلم_مؤلم. كما أن هذا المرض العضال تسبب في لين العظام وهشاشتها، بحيث إنها كانت تنكسر بسهولة جداً، إضافة إلى التعرض للفشل الكلوي. ونظراً لهول وفظاعة هذا المرض على المجتمع الياباني برمته، وعلى شعوب العالم أجمع، خلدت الحكومة اليابانية ذكرى هذه الطامة الكبرى التي نزلت عليهم، وبنت متحفاً خاصاً يحي هذه الذكرى الأليمة، ويحذر العالم أجمع من مخاطر التلوث على الصحة العامة، علماً بأنني زرتُ هذا المتحف في التسعينيات من القرن المنصرم.

 

فمثل هذه الكوارث تبقى خالدة مخلدة منقوشة في قلوب الشعوب، جيلاً بعد جيل، ومثل هذه الكوارث هي التي تجعل الشعوب حالياً تتحفظ على مشاريع استخراج المعادن من باطن الأرض، مهما كانت فوائدها الاقتصادية، ومردوداتها المالية، فمعظم الشركات متعددة الجنسيات التي تقوم بالتنجيم تكون عادة من خارج هذه الدول التي توجد بها المعادن، فهدفها الرئيس هو كسب الربح السريع وجني المال الوفير على حساب كل شيء آخر، ثم منح الفتات من المال للدول المستضيفة، فهي عادة ما لا ترقُب في صحة البشر، أو مكونات البيئة الحية وغير الحية إلا ولا ذمة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق