الخميس، 13 يناير 2022

أولوية قضية جودة الهواء


ناقش مجلس الوزراء في الاجتماع المنعقد في 26 ديسمبر 2021 المذكرة المرفوعة من وزير شؤون مجلس الوزراء بشأن تقرير المجلس الأعلى للبيئة حول جودة الهواء في مملكة البحرين لعام 2021، حيث أفادت المذكرة بأن يتم رصد جودة الهواء عبر محطات متخصصة وتحليل بياناتها وفق منهجيات معتمدة من منظمة الصحة العالمية، كما أكدت المذكرة بأن النتائج والتحاليل أظهرت بأن معظم مكونات الهواء في مملكة البحرين ضمن المعدلات الطبيعية.

 

وفي الحقيقة فإنني أشكر أولاً مجلس الوزراء على طرح ومناقشة هذه القضية الخطيرة في اجتماعه الأسبوعي، وفي الوقت نفسه أتمنى أن يزيد ويتواصل الاهتمام والرعاية بهذه القضية لكي يرقى ويتناسب مع مستوى وحجم هذه القضية الهامة جداً والتي لها علاقة مباشرة ليست بصحة البيئة وسلامة أحد مكوناتها فحسب، وهي الهواء الجوي، وإنما بصحة الإنسان في المقام الأول، فكل ما يحدث في الهواء الجوي من تغييرات على هويته وطبيعته نوعياً وكمياً، ينعكس بصورة مباشرة على الهواء الذي يستنشقه الإنسان في كل ثانية، وبالتالي على الأمن الصحي لعامة المواطنين.

 

فقضية جودة الهواء هي مرتبطة أساساً بالأمراض التي يتعرض لها الإنسان، فهي قضية حياة سعيدة وصحية وسليمة بعيدة عن الأمراض والأسقام، أو قضية حياة بائسة مشبعة بالعلل الحادة والزمنة والمستعصية على العلاج، فهي في نهاية المطاف قضية حياة، أو موت مبكر في غير وقته.

 

ولست أنا من يدِّعي بذلك، ولكن الدراسات العلمية المتواترة، والأبحاث الميدانية من الجامعات، ومراكز الأبحاث، ومن المنظمات البيئية والصحية، وعلى رأسها منظمة صحة العالمية، هي كلها التي توافقني الرأي، وتجمع على أهمية قضية جودة الهواء وإعطائها الأولوية، كقضية صحة أو مرض، وقضية حياة أو موت.

 

والدراسات والتقارير التي تثبت تهديد الملوثات لصحة الإنسان، وانعكاس سوء نوعية الهواء التي يستنشقها الفرد على صحته، لا تُعد ولا تحصى، وآخرها الدراستان الدوليتان الشاملتان والمنشورتان في المجلة الطبية الدولية المرموقة اللانست، صحة الكوكب(The Lancet Planetary Health) في العدد الصادر في الخامس من يناير من العام الجاري.

 

أما الدراسة الأولى فنُشرت تحت عنوان: "النمط المكاني الحضري الدولي للجسيمات الدقيقة وعلاقتها بالعبء الصحي: تقديرات من بنك معلومات دولية". فهذه الدراسة تهدف إلى التعرف على أنماط التغيرات المكانية لتركيز الدخان، أو يُطلق عليه علمياً بالجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر، والتي قطرها يساوي 2.5 ميكرومتر أو أقل من ذلك، وعلاقة تركيز الدخان في الهواء الجوي بأعداد الوفيات في مدن العالم على مستوى كوكبنا برمته. وقد شملت هذه الدراسة الجامعة البحث في هذه العلاقة في 13160 مدينة خلال عامي 2019 و 2000. وقد توصلت الدراسة إلى عدة استنتاجات هامة تؤكد تهديد هذه الجسيمات الدقيقة لصحة الناس في كل مدن العلاقة، كما تثبت العلاقة بين ارتفاع تركيز هذه الجسيمات في الهواء الجوي بالموت المبكر للإنسان في هذه المدن. ومن هذه الاستنتاجات أن هناك قرابة 2.5 مليار إنسان، أي 86% من سكان الأرض يعيشون في مدن حضرية، وهؤلاء البشر يُشكلون نحو 55% من سكان كوكبنا، وجميعهم يعيشون في بيئاتٍ هواؤها ملوث بالدخان، وبهذه الجسيمات الدقيقة الصغيرة الحجم، ويزيد هذا التركيز كثيراً عن المعايير الاسترشادية لمنظمة الصحة العالمية الخاصة بالجسيمات الدقيقة في الهواء والتي كانت 10 ميكروجرامات في المتر المكعب من الهواء كمعدل سنوي حسب مواصفات عام 2005، ثم تم خفضها إلى 5 بسبب عدم حماية المواصفة السابقة لصحة البشر. وهذه الهواء الملوث بالدخان في المدن تسبب في زيادة ملحوظة وكبيرة في أعداد الموتى بلغت 1.8 مليون وفاة في عام 2019، حيث تعتبر الآن هذه الجسيمات في الهواء من أشد المخاطر تهديداً للصحة العامة وتنكيلاً بالأمن الصحي للبشر أجمعين، وهذه النتيجة تفيد بأن 1.8 مليون إنسان قضوا نحبهم في سنٍ مبكرة، ونُقلوا إلى مثواهم الأخير نتيجة لتلوث الهواء الجوي بالدخان، مما يعني أن عدد الوفيات لكل مائة ألف ساكن للكرة الأرضية بسبب استنشاق الدخان الموجود في هواء المدن يتراوح بين 45 إلى 77 وفاة في سنٍ مبكرة في مختلف مدن العالم التي خضعت لهذه الدراسة الشاملة.

 

والدراسة الثانية سبرت غور تأثير ملوثٍ آخر موجود في الهواء الجوي أينما تذهب على سطح كوكبنا، وهو غاز ثاني أكسيد النيتروجين الذي ينبعث من مصادر يصعب إحصاؤها، فكل عملية احتراق للوقود الأحفوري في كل سيارة، وفي كل مصنع، وفي قطار، وفي كل طائرة، تنطلق منها هذا الغاز. وهذا الغاز القديم الذي يعرفه الإنسان منذ مئات السنين ضرره على جسم الإنسان مزدوج، فهو مُهدد خطر لأعضاء كل إنسان في حد ذاته، وهو في الوقت نفسه يتفاعل في الهواء الجوي مع ملوثات أخرى فيُنتج ملوثات أشد وطأة على الجسم البشري، كما يُكوِّن ظاهرة يشاهدها كل إنسان يعيش على سطح الأرض في المدن الحضرية، وهي ظاهرة الضباب الضوئي الكيميائي. وهذه الظاهرة القاتلة عندما تنكشف في هواء المدن تصيح أجراس الإنذار وتصرخ وسائل الإعلام محذرة الناس من الخروج من منازلهم وممارسة الأنشطة في البيئات الخارجية.

 

وهذه الدراسة الثانية جاءت تحت عنوان: "الأنماط طويلة المدى لتركيز ثاني أكسيد النيتروجين في المدن الحضرية وعلاقتها بحالات الربو عند الأطفال"، حيث هدفت الدراسة إلى تقدير تركيز ثاني أكسيد النيتروجين على مستوى كوكبنا في 13189 مدينة من عام 2000 إلى 2019، وبيان علاقة نسبة هذا الغاز في الهواء بحالات الربو عند أطفال العالم. وقد توصلت الدراسة إلى أن هناك قرابة 1.85 مليون حالة ربو جديدة تظهر عند الأطفال في كل دول العالم مرتبطة بتركيز ثاني أكسيد النيتروجين في 2019، ومعظم هذه الحالات التي بلغت 1.22 مليون حالة كانت في المدن الحضرية، وهذه تمثل قرابة 176 حالة ربو لكل مائة ألف من فلذات أكبادنا في كل أنحاء كوكبنا.

 

فبعد هاتين الدراستين، وأبحاث وتقارير أخرى كثيرة لا أظن بأننا بحاجة إلى أدلة جديدة أخرى لإثبات أن جودة الهواء عامل أساس لحماية أمننا الصحي وتجنب الأسقام والموت المبكر، ولذلك أَطلقتُ سابقاً على تلوث الهواء بأنه قنبلة دمار شامل للجسم البشري برمته، فلا يدع عضواً إلا ويهاجمه، ولا يدع خلية إلا ويفسدها ويؤثر عليها. وعلى أداء وظيفتها.

 

أفلا ترون بأن قضية مثل هذه تستحق أن تكون في مقدمة سلم أولوياتنا واهتمامنا؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق