الاثنين، 24 يناير 2022

خطورة تسييس العلم والعلماء

من أخطر الممارسات التي من الممكن أن تقوم بها الحكومات هو إقحام نفسها في العلم، والتدخل في المحتوي العلمي للأبحاث والتقارير التي تنتج من العلماء، أو من الجامعات ومراكز الأبحاث، إضافة إلى العمل على تسييس آراء العلماء واستنتاجاتهم المتعلقة بالقضايا العلمية المختلفة، وتحريفها وتغييرها لتتناسب وتتماشى مع موقف الحكومة وسياساتها، أو التوجهات الحزبية لهذه الحكومة، أو أهواء ومصالح الشخص الحاكم نفسه. 

 

ومن أخطر صور وأوجه هذا التدخل هي أولاً شراء ضمائر بعض العلماء ليكونوا بشكلٍ غير رسمي المتحدث العلمي باسم الحكومة والمدافع عن سياساتها وتوجهاتها، وتقديم الموقف العلمي الموصوف بأنه الرأي "الموضوعي والمستقل" بطريقةٍ تتوافق وتتماشى مع موقف الحكومة، وثانياً يكون الاقحام والتوغل في شؤون العلم من خلال التلاعب في صياغة التقرير والبحث العلمي، أو تغيير لغة التقرير لتكون موافقة مع السياسة الحكومية، إضافة إلى تخفيف أو تشديد لغة التقرير والاستنتاجات التي تتمخض عنها لتتناسب مع المواقف العامة للحكومة، وأخيراً يكون التدخل في إخفاء التقارير والمعلومات العلمية والبحثية التي تجريها الأجهزة الحكومية ومنع نشرها، والتي قد تكون نتائجها لا تتوافق مع مواقف وسياسات الحكومة.

 

وهذه الظاهرة الخطيرة متجذرة في الكثير من حكومات دول العالم، ومن بينها أقوى دولة في العالم وأكثرها رقياً وتقدماً وتطوراً في الكثير من المجالات وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وحدة هذه الظاهرة ودرجة وضوحها أمام الناس اختلفت من حكومة أمريكية إلى أخرى، وربما من أشد الحكومات الأمريكية تدخلاً في الشأن العلمي وفي محتوى التقارير العلمية، أو إهمالاً وتجاهلاً للرأي العلمي، وتضيقاً على العلماء الذين اختلفت مواقفهم وآراؤهم مع سياسة الحكومة تمثلت في الرئيس الأمريكي السابق ترمب.

 

ولذلك نُشرت الكثير من الخطابات والرسائل العامة من علماء أمريكا للشكوى من هذه الظاهرة الخطيرة، ودعوة المجتمع الأمريكي والمسؤولين إلى التنبه لها ومحاربتها، حتى يكون العلم، وتكون نتائج العلماء وآراؤهم خالصة نقية من شوائب السياسة المتغيرة كل يوم، ونزيهة ومستقلة من أية تأثيرات خارجية، إضافة إلى منع زعزعة احترام الناس وفقد ثقتهم بالعلماء ونتائج الدراسات العلمية. وقد نشرتْ مجلة "الطبيعة"(Nature) المرموقة في 11 يناير من العام الجاري مقالاً حول هذه الظاهرة تحت عنوان: "كيف يمكن حماية العلم في الولايات المتحدة من تدخل السياسة بعد ترمب؟".

 

واستجابة لهذه الدعوات من علماء أمريكا، قام بايدن في الأسبوع الأول من دخوله إلى البيت الأبيض بإصدار مذكرة رئاسية في 27 يناير 2021 تحت عنوان: "إعادة الثقة في الحكومة من خلال النزاهة العلمية والسياسات المبنية على الدليل"، حيث أمرتْ المذكرة بتشكيل فريق عمل مكون من خمسين خبيراً يمثلون 29 وكالة حكومية اتحادية للنظر في هذه الظاهرة، وتقديم التوصيات حولها. وبيَّن بايدن بأن الهدف الرئيس من هذه اللجنة التي أُطلقَ عليها "لجنة النزاهة العلمية" بالمجلس القومي للعلم والتقنية هو "إعادة الثقة في الحكومة من خلال النزاهة العلمية والسياسات المبنية على الدليل العلمي"، حيث أكد بايدن بأن النزاهة العلمية من أهم الدعائم والأركان الأساسية لإدارته.

 

وقد قامت هذه اللجنة بتقديم الملخص التنفيذي للتقرير والصادر من مكتب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، مكتب البيت الأبيض لسياسات العلم والتقنية(White House Office of Science and Technology Policy) في 11 يناير من العام الجاري تحت عنوان: "حماية نزاهة المعلومات العلمية الحكومية".

 

وجاء في الملخص التنفيذي للتقرير بأن حماية النزاهة العلمية في أجهزة الحكومة هامة جداً للأمة الأمريكية، وهذا يعني المحافظة على هذه النزاهة وحمايتها في جميع مراحلها، بدءاً بتصميم موضوع البحث العلمي وخطة البحث، ثم اتباع الأسلوب والمنهج العلمي المعتمد والموثوق في تنفيذه، ثم الوصول إلى عرض وصياغة النتائج والاستنتاجات، وأخيراً استخلاص السياسات العامة من هذه الاستنتاجات العلمية. كما أكد الملخص التنفيذي بأن مصطلح العلم يعني ويشتمل على جميع المجالات والتخصصات، سواء أكانت العلوم التطبيقية من كيمياء وأحياء وفيزياء وبيئة وغيرها، أو العلوم الهندسية، أو الطبية، أو علم الاقتصاد والاجتماع والاحصاء. وربما أُضيف على هذا التعريف علماً وتخصصاً آخر، وهو قد يكون حالياً غير واضح في الدول الديمقراطية العلمانية الغربية خاصة، ولكنه مشهود وحاضر ومتجذر في بعض الدول العربية الإسلامية وهو علم الشريعة أو علوم الدين الإسلامي، وكثيراً ما يُسيس هذا العلم والعلماء خدمة للحكام والحكومات وتحليلاً لما حرمه الله، وتحريماً لما أحله الله لكي يتوافق مع سياسات وتوجهات هذه الدول. 

 

وقد جاء في مقدمة التقرير حول حماية نزاهة العلم بأن الديمقراطية تعتمد على المعلومات الموثوقة، والدراسات والأبحاث العلمية والتقنية المستقلة والموضوعية مهمة جداً للصحة العامة للأمريكيين وسلامتهم وازدهارهم، كما أن للشعب الأمريكي الحق في أن يتوقع من الحكومة معلومات وأدلة علمية دقيقة وسياسات مبينة عليها، وهذا يحتاج إلى نزاهة  علمية مبنية على الأبحاث العلمية التي لا تؤثر عليها السياسة، كما أن مخالفة مبادئ النزاهة العلمية تُفقد الثقة بالعلم والحكومة معاً، وتؤدي في بعض الأحيان إلى رفض الشعوب لمواقف الحكومات وقراراتهم، بل وفي بعض الحالات التمرد عليها ومقاومتها بجميع الوسائل السلمية والعنيفة، كما هو الحال الآن بالنسبة لرفض فئة من بعض الشعوب الغربية في الولايات المتحدة الأمريكية، وألمانيا، وروسيا لأخذ اللقاح ضد فيروس كورونا.

 

ولذلك لا بد من أن تتبنى الحكومات موقف الحياد والموضوعية وعدم التدخل في الاستنتاجات التي تتمخض عن الأبحاث العلمية والدراسات الميدانية في جميع التخصصات، سواء أكانت علوم الدنيا أو علوم الدين، وتجنب تطويع والضغط على العلم والعلماء لإصدار الفتاوى العلمية التي تتفق مع سياساتها، وفي الوقت نفسه أدعو العلماء إلى تبني المنهج العلمي الموضوعي والمستقل عند إجراء الأبحاث العلمية وعدم الجري وراء إرضاء سياسات وتوجهات الحكومات حفاظاً على سمعتهم وثقة الناس بالبحث العلمي.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق